_الفصل الرابع_
جلس بحديقة البيت، برفقته أنفال وسارة التي لا تستجيب له منذ حوالي الساعة، لم يفقد الأمل بها، هي الحالة الأولى له، وهو شاب لا يحب الفشل أبدًا. تحدث إلى أنفال يطلب منها أن تتركهما قليلًا، كانت على وشك تنفيذ ما طلب، لكن يد سارة التي أمسكت بذراعها منعتها من ذلك، ابتسم على رد فعلها مبدئيًا، معنى أن سارة تعلقت ووثقت بأنفال فحالتها قيد العلاج، وأنفال بداية الطريق...
تحدث إلى السيدة رزان يُطمئنها:
- الحالة مش بالسوء اللي نخاف منه، فقد النطق أثر جانبي للحادثة اللي تعرضت ليها، وإن شاء الله مع المتابعة هنقدر نساعدها تتجاوز المرحلة دي.
مال في جلسته للأمام كي يكون أكثر قربًا من السيدة وهو يُخفض من صوته:
- أنفال هي الجانب الأهم في العلاج، وكده احنا هتقابلنا مشكلتين.
- ربنا ما يجيب مشاكل، بس إيه هي وهنحاول نلاقي حلول.
أومأ يؤكد ذلك، ألقى بنظرة سريعة إلى آدم ثم عاد يقول:
- أنا لازم أرجع القاهرة خلال الفترة دي عشان أتمم تأسيس العيادة.
أومأت السيدة رزان تنتظر باقي حديثه، فتابع بحذر:
- وزي ما قلت لحضرتك إن أنفال جزء من العلاج.
صمت الجو بعض الوقت، كانت تنظر رزان حينها تجاه آدم، تنتظر منه أن يقول شيئًا، يُطمئنها أنه لن يغادر، أنه خطط لدمج حياته مع المتبقي من حياتها ليبقيا سويًا! لكنه لم ينطق، بل لم ينظر تجاهها، بدا مشوشًا هذه الدقائق، تائهًا، خائفًا! كلها مشاعر اشترك فيها مع أمٍ على أتم الاستعداد أن تتخلى عن أي شيء مقابل بقائه معها.
شعر يزيد ببوادر كآبة عميقة على وشك الإحاطة بهم، تمنى لو له كلمة أو قدرة على اتخاذ قرار يُرضي قلبيهما، لو بيده أن يعوضهما عن كل ما فقداه وهما خارج أسوار رابطتهما الحقيقية لما تأخر.. كان ذات يوم يملك أمًا ابتسامتها حياة، كانت كزهرة ربيعية يفوح منها الحنان والسكينة، حُرم منها على حين غفلة، ولا يتمنى شعور الحرمان هذا لعدو، فما بال صاحبه! دخول أنفال عليهم أفاق كل واحد مما سقط فيه، تحدثت بعد السلام إلى يزيد:
- آسفة إني هتدخل في شغل حضرتك، بس ممكن أعرف سارة هتخف إمتى؟
ابتسم يزيد وهو يرد عليها بكل رحابة:
- أملي في ربنا إنه ما يطولش كتير، لكن حالات زي دي ما نقدرش نحدد مدة علاج... لكن يا أنفال كوني واثقة إنك بأمر الله هتكوني أهم سبب في علاج سارة.
- ازاي؟ إيه اللي أقدر أعمله؟!
- كل حاجة في وقتها، دلوقتي احنا محتاجين نرتب نفسنا عشان أمورنا ملخبطة شوية.
أنهى جملته وهو يوزع نظراته بين السيدة رزان وآدم الصامت تمامًا. نطقت رزان سريعًا:
- إن شاء الله ما فيش لخبطة. بعد إذنكم دقيقتين.
اتجهت من فورها للخارج، ولحقت بها أنفال تنتظرها عند الباب، أجرت مكالمة هاتفية لم تتعدَّ ثلاث دقائق، ثم عادت والبشارة على لسانها، تنهد يزيد بسعادة ملأت قلبه أكثر من آدم الذي استقبل بشراها بقلب سكن بعد طول شقاء، بابتسامة بعد طول عبوس، بسعادة بعد طول حزن.. كأنه كان غريقًا في لُجَّة، والآن فقط وجد سبيل النجاة!
________________
الأجواء صامتة إلا من دقات عقارب الساعة التي تُنذِر بقدوم حل لما هم فيه، مهما طال الوقت فإن دورة عقرب الساعة تقترب من الحل، هذا ما استنتجته أنفال بينما تتابع حركات عقارب الساعة. ما زال الجميع كأن على رؤوسهم الطير، الأم تنتظر من الأب أن يستجوبها، أن يسألها عن حقيقة ما قاله علي على مسمع من الجميع، عن سبب عدم إخبارها له بالأمر، انتظرت منه أي حديث، لكنه لم يتحدث فقط صامت يُطالع الأرض بشرود، العجز يتمكن منه رويدًا رويدًا، قلبه يتآكل بجمر فعلة أفنان، ينتظر أي حل، ينتظر أي إشارة من أي واحد كي يتحرك، يشعر وكأن سلاسل الدنيا تُقيِّده في مكانه. تحدث عمر يقترح آخر حل لديه في هذا الأمر، بل والأصوب من البداية:
- كده يا عمي ما فيش حل غير إننا نبلغ.
تقابلت نظراتهم جميعًا على وجه عمر الذي تابع سريعًا يبرر اقتراحه:
- عشان تحمي نفسك على الأقل قدام القانون، طالما عدا أربعة وعشرين ساعة فلازم تبلغ.
تذكر الأب كيف سألته أمه في فزع إن كان قد أبلغ الشرطة عن الأمر، وكيف أنها حذرته من فعل ذلك خوفًا من "الفضيحة". اكتفى الأب بالصمت، بينما بقيت أنفال تنتظر الرد من والدها، عقلها يؤكد أن والدها لن يخشى من الفضيحة قدر خشيته على ابنته وما يمكن أن يحدث لها وهي خارج البيت. أخيرًا رد الأب بقلة حيلة:
- من هنا لبكرة لو ما فيش جديد نبلغ.
أومأ الجميع وعاد كل واحد يفكر في شخص قد تلجأ له أفنان في ظرف كهذا، لكن لا أحد على الإطلاق سيقبل بأن يُخفي عنده أفنان ولا يُحادث أبيها، بغض النظر عن أنه لا أحد سينام قرير العين وهو على علم بانهيار أب دون ابنته- فإن كل من نعرفهم يعرفون والد أنفال جيدًا، إنه شخص رغم ما لديه من حنان وعطف وكرم لكنه عند الغضب شخص آخر، تتذكر أنفال ذات مرة وبينما تتحدث هي وعمر عن أيام مجيئه لها أنه سأل أحدهم على الوالد، كان رد ذلك الشخص يصف والد أنفال بكل اختصار، قال "أبوها راجل تشوفه يوم بالسبحة وكل فروضه في المسجد، ويوم ما يمسكه الغضب تلقاه ماسك شومة وداير في كل الناس من غير حساب." هذا تحديدًا والدها!
استأذن عمر المغادرة حينما حل الليل دون جديد، وانطوى الليل يضرب أسرة أنفال بسياط الانتظار وخنجر الترقب، الخوف طعامهم، والقلق شرابهم، والتيه مضجعهم، والحزن لِحافهم! وحينما حل الفجر وصل مسمعهم طرق على باب البيت!
- أفنان!
كانت هذه صرخة من الأب، خرجت عند سماعه طرقة الباب، لكن ما إن فُتِح تبين من خلفه أخاه الأكبر، تقهقر أمل الأب فوق عتبة البيت، وتهدلت دموعه وهو يغمغم لأخيه:
- صابر! شوفت يا صابر! شوفت....
منعته شهقاته من محاولة اجترار الكلام، جذبه العم صابر إلى صدره وأخذ يربت على ظهره يحاول تهدئته. دخلا إلى البيت، وخرجت أنفال عليهم بمشروب دافئ، بدأ الوالد يسرد ما حدث على مسمع أخيه الذي أخبرهم أن زوجة عمه (جدة أنفال) أخبرته بالأمر منذ قليل فقط، وطلبت منه أن يبقى جوار أخيه دون أن يعرف أحد آخر من العائلة. تحدث العم صابر من جديد إلى أنفال التي بدت متماسكة أكثر من أبيها:
- ما كلمتوش أي حد من عيلة أمك؟
نفت أنفال وهي تؤكد أن أفنان لن تلجأ لأحد من العائلة، تنهد العم وهو ينضم بفِكره إليهم، أصبحت أفنان الشُّغل الشاغل للعقول في هذا البيت. طالعتهم أنفال بعين الحسرة وهي تقول في نفسها "لو أفنان هنا وشافت الوضع اللي هما فيه عشانها ما كانتش هتفكر ثانية تسيب البيت." لكن ها هو الوضع، وها هو القدر يسير كما كُتب له أن يكون.
أقبل عمر من البكور، وبدأ كل واحد يقترح اقتراحًا، وآخر ما اقتُرِح عن لسان العم يسأل:
- هو ما فيش كاميرات في المحلات اللي على الشارع؟
انتبه الجميع لما قال العم، وحينما نفت أنفال قال:
- بس، احنا كده طريقنا معروف.. أبو أحمد وأم أحمد هيروحوا يكتبوا بلاغ في القسم بالتَّغيُّب، وأنا وعمر هنطلع على المحلات اللي على الشارع نفرغ كاميراتها ونشوفها مشيت من أي اتجاه.
وجه نظراته وحديثه إلى أنفال وهو يسند لها مهمتها:
- وأنتِ يا أنفال هتبدأي تتصلي بكل العيلة سواء عيلة أبوكِ أو أمك وتسألي عن أفنان وباختصار.
تحدث الأب محاولًا الاعتراض على آخر ما قاله أخوه:
- بس أنا ما...
- بنتك وسلامتها أهم دلوقتي من الفضيحة اللي كلنا خايفين منها، بس لعلمك بنتك بخير.
قالها العم صابر وهو يتمناها داخله ألف مرة، لكن لا يصح أبدًا أن يجلس الجميع مكتوفي الأيدي بهذا الشكل ينتظرون ما سيأتي به الغد. بالفعل انطلق كل واحد إلى وجهته، وكان أول من عاد هو العم صابر صُحبة عمر، استقبلتهم أنفال وهي تسأل إن كانوا قد رأوها، لكن الإجابة كانت نفيًا، فأكد عمر أن أفنان اتخذت من طريق الزراعة دربًا، لم تمر من الشارع الرئيسي، ولم تظهر بأي كاميرا تسجيلية، والضربة الأقوى هنا أن حتى "موقف السيارات" غير مؤمنٍ بالكاميرات!
عاد الأب والأم بعد أن سجلا محضرًا بتغيُّب أفنان، كانت حالته قد تدهورت أكثر، ودون أن يتحدث مع أي أحد ولج لغرفته وأغلق على نفسه، تحدثت الأم بغصة:
- الظابط أسئلته كانت صعبة علينا، وهو تعب هناك، وحس إن الظابط مش مصدقه.
- صعبة ازاي يعني؟
سأل العم فأجابت الأم:
- سأل عن السبب اللي خلاها تسيب البيت، سأل لو أبوها مد إيده عليها، لو حد مهددها بحاجة، لو فيه حد متقدم وهي عايزاه واحنا رافضينه.. كلها أسئلة إجابتها واحدة، فالظابط قال إن البنت مش هتسيب البيت غير لسبب من دول، وإن فيه حاجة حصلت لازم ندلي بيها قبل ما هما يعرفوها.. كان موقف صعب.. وعشان فعلا ما فيش حاجة من اللي قال عليها فاحنا فضلنا على كلامنا وهو عمل اللي عليه وجينا.
نفى الجميع بقلة حيلة، لكن العم اتخذ قرارًا جديدًا بهذا الخصوص، ولج لغرفة الأب بعد أن طرق الباب وأُذن له بالدخول، قال بهدوء تام:
- إحنا عملنا اللي علينا يا خويا، ربنا بأمره هيحفظها، بس عاوزك تشد حيلك كده وتفوق معايا، أنت في كل ده ممكن تتوقع مكان بنتك بس حالتك مغمية عنيك.
- بالعكس، أنا دلوقتي بقيت كويس أوي والله يا صابر، عارف ليه؟
نطق الأب ودموعه تنهمر بضعف، ثم استرسل حديثه:
- الظابط قال لي طالما عدا على بنتك يومين بلياليهم من غير ما يوصلنا أي خبر سوء عنها فتأكد إنها بخير وإنها مع ناس ولاد حلال كمان.
ابتسم صابر في وجه أخيه وهو يربت على كتفيه يواسيه، أضاف:
- ما تعرفش حد من صحابها هنا؟
جفف الأب عبراتها وهو يؤكد معرفته للبعض، أومأ صابر وهو يقترح أن يذهبوا لبيوتهم ويسألوهم عنها وديًا، نفى الأب بتعب حقيقي وهي يرجو أخاه:
- أنفال وعمر معاك، أنا مش قادر يا صابر أتحرك، خايف.
تنهد العم صابر وهو يقول:
- خلاص نام شوية وحاول ترتاح، أنا هشوف مع أنفال الدنيا فيها إيه ولعله خير.
أومأ الأب بامتنان، وخرج العم على أنفال، وبدأ يسألها وأمها عن أصحاب أفنان بالبلدة، وقبل أن يقرر الخروج بصحبة أنفال وعمر لقضاء مهمتهم وجدوا الباب يُطرق طرقات شبه مترددة، هنا وتعلقت كل العيون والآذان والقلوب والآمال على تلك الطرقة...
________
أنت تقرأ
أنفال ٢
Genel Kurguبين هذه السطور المرصوفة كلماتها يكمن جزء كبير من الحقيقة، والبعض الآخر يحمل زيفًا ربما مبالغ فيه، وربما هو أقل بكثير مما حدث في الواقع، المهم أن بعضًا من تفاصيل الحقيقة لا بد وأن تختفي تحت طيات الكذب؛ لئلا تثير بلبلة أصحابها الذين يخشون فضح حقيقتهم،...