_الفصل الثالث_
انجلى الليل يطوي بين عتمته سرًا يخص أسرة أنفال، تفتحت الأعين التي غفت وكلها ترقب للقادم، بينما من لم يزرهم النوم كانوا كما الآلات المتحركة، الشعور بالخوف يتفاقم، وتبلد الملامح يزداد، ليس بالأمر الهين الذي يسلم به أي بشري عادي أن يتغاضى عن فكرة كون بنتًا من بنات البيت قد باتت ليلة خارج بيتها دون أن يدري أهلها عن مكان مأواها شيئًا، ومع هذا كله فالجميع لا يملكون شيئًا قد يمدهم بطاقة الحركة للبحث عنها أو محاولة معرفة ما حل بها.
غادر الأب البيت، لكن ليس من أجل العمل، فالثياب التي ارتداها لا تخص العمل أبدًا، وبدا للجميع أنه ذهب لمن قد يكون أكثر حكمة وحنكة منه، من يمكنه أن يفكر له لكونه خارج دائرة الأزمة، هذا هو الفعل الصحيح الذي لا بد أن يقبل عليه الأب، لكن خاب تفكير جميع أهل البيت حينما رأوه يعود وأمه بيده باكية، تسأل كل واحد من البيت إن كان تعرض للفتاة مما أدى لهربها، والجميع على ذات الرد أنه ما من شيء حدث منهم، بل أن كل الأمور كانت تسير على خير ما يرام، وأن الجميع بات ليلته هانئًا بعد سهرة مسائية بها الكثير من المزاح.
تحدث الأب فجأة كأنه تذكر حلقة مفقودة من أمر أفنان:
- أنا زعقت لها من كام يوم، معقول تكون واخدة على خاطرها من وقتها؟!
- زعقت لها ليه يا بني؟ اوعى تكون مديت إيدك عليها!
سألت الجدة، فنفى الأب سريعًا وهو ينظر تجاه أنفال يطالبها بأن تسرد ما حدث، فلقد كانت هي الشاهد الأوحد على هذا الأمر لكون البيت كان قد فرغ من قاطنيه إلا ثلاثتهم. تحدثت أنفال كأنها تنفي عن أبيها تهمة:
- ما كانش زعيق بالمعنى يعني، هي صحيت من النوم وكانت نشيطة أوي، وقفت قدام المراية وبدأت تعمل ميك أب غريب في وشها، روچ بني غامق، وعدسات خضرا، وحاجات غريبة كده عملتها.
تنهدت أنفال تحاول تذكر أي تفصيلة قد تفرق في هذا الأمر، ثم عاودت الحديث مُضيفة:
- نصحتها إنها تشيل الحاجة دي قبل ما بابا ييجي بس ما سمعتش الكلام، ولما بابا جه وشافها كده كلمها بس بصوت عالي إن شكلها وحش وإن اللي بتعمله ده غلط.
رفعت كتفيها وهي تضيف أخيرًا:
- بعدين سابها وزعقلي أنا عشان أشيل المراية من الأوضة!
رفعت أعينها للجالسين تؤكد على صدق ما قالت وهي تضيف آخر قولها:
- ده كل اللي حصل.
تحدثت الجدة بعتاب لابنها:
- ليه كده يا بني، ما تسيبها براحتها، طالما بتعمل اللي بتعمله في البيت ولنفسها. ما تسيبها تطلع طاقتها زي ما تحب.
طأطأ الأب رأسه قليلًا كأنه ندم على ما فعل، لكنه رفعها فجأة يقول مدافعًا عن نفسه:
- منظرها حقيقي كان صعب، ما قدرتش أمسك نفسي.
- اللي حصل حصل، ما فيش حاجة نعملها دلوقتي غير إننا ندعي ربنا يحفظها، وإنها تكون في إيد أمينة.
قالتها الجدة، ثم حولت نظراتها لأنفال تسألها بترقب:
- عمر عرف حاجة؟
نفت أنفال وقد تحولت ملامحها للضيق، وقبل أن ينطق أي واحد بكلمة كان هاتف أنفال قد أعلن اتصالًا، انتفضت على إثره ما إن رأت المتصل، حاولت التماسك وهي ترد عليه، بدأ مكالمته ببضع كلمات تحمل معاني الحب العميق لها بقلبه، لم تستطع أن تبادله ولو بكلمة، كان الرد على كل ما قيل بدموع جاريات على وجنتيها، حاولت معهم أن تكتم صوتها لئلا يسمع بكاءها، لكنه شعر بها وبمحاولاتها المستميتة في مواراة ما بها عنه، سأل بجدية:
- مالك يا أنفال؟ ولو سمحتِ ما تقوليش نفس اللي قلتيه امبارح، عارف إن فيه حاجة مضايقاكِ، وبتحاولي تخبي عني، من إمتى بنخبي على بعض يا أنفال؟!
الصمت هو كل ما حصل عليه من الطرف الآخر، زفر أنفاسًا محملة بالقلق على محبوبته، ثم أنهى المكالمة بقوله:
- طيب، أنا جاي بعد العصر بأمر الله، هتغدى معاكم، أجيب لك حاجة معايا؟
- لا لا شكرًا، بس ما تتعبش نفسك وتيجي، الموضوع...
قالتها بصوت قد بح تمامًا، فرد يقطع قولها:
- أنا قلت إني جاي يا أنفال، مش هتقفلي بابكم في وشي، مش كده؟
تنهدت بقلة حيلة، ثم أنهت معه المكالمة وخرجت على جمع الأسرة بصالة البيت، أخبرتهم أن عمر يشعر بشيء ما، وأنه آت عصر اليوم، وأنها لم تستطع منعه أو طمأنته، أومأ الأب مرارًا وهو يرد قول ابنته:
- قولي له يا أنفال، وليه حرية الاختيار، أنتِ مؤمنة بالله، وواثقة إنه مش هيختار لك غير الخير، مش كده؟
أومأت أنفال محاولة كتم غصة في فكها وقلبها، لكن رد الجدة أتى يحمل الكثير من التشاؤم وهي تقول بحسرة:
- يا خيبتنا على اللي طالنا من وراكِ يا أفنان، أختك ممكن تتطلق بسببك، وحال أَهِلَّة هيقف، وأهل البيت هيمشوا من غير ما يقدروا يرفعوا وشوشهم في وشوش الناس، هتكون فضيحة العيلة كلها، يا حسرة قلبي على اللي بعيشه في آخر عمري.
كلماتها أصابت القلوب بجزع وفزع أكبر من أن يُعترف به، لقد قالت كل الحقيقة بكلمات لم يستطع عقل واحد من أهل البيت أن يعترف بها، قالتها هي ببساطة فأدمت قلوب الجميع وأخرست ألسنتهم عن الرد عليها أو مطالبتها بالتفاؤل، أي تفاؤل هذا الذي سيطالبونها به وهم أنفسهم فقدوا كل ما يمت للاستقرار بصلة، تسربت ثقتهم بأنفسهم عنهم دون قدرة من أحدهم على التمسك بها، لقد دمرتهم أفنان!
أعلن العصر وقته، وأعلن الباب قدوم من خاف أهل البيت كلهم رد فعله ما إن يعلم بكارثتهم، كان حاملًا لكيس بلاستيكي كبير بعض الشيء، سلمه لأنفال دون أن يترجل عن دراجته النارية، قال وهو يستعد للمغادرة:
- حماتك بعتاها لك، هصلي في المسجد اللي هنا وآجي.
ابتسمت له مجاملة، فغادر تاركًا إياها تتآكل لدقائق إضافية من يومها، تبحث عن طريقة تزين بها الموضوع قبل أن تلقيه على مسمعه، لكن نفسها تسخر منها وهي تذكرها أن الأمر لا ينفع معه تزيين أصلًا، إن الفتاة هاربة، أي دروب القول ستزين الكلمة؟!
ربت الأب على كتف ابنته فانتفضت فزعًا، طمأنها بصوته الحاني وهو يخبرها أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وأنه لن يقدر لها إلا الخير. أومأت له مبتسمة بلطف، كأنها تقول له "مين فينا المفروض يواسي التاني!" لكن لسانها لم ينطق، وهو بدوره لم يتحدث أكثر، بل دخل لغرفته، وقبل أن يغلق بابها عليه قال:
- لو حسيتِ إنك مش قادرة تقولي له فسيبيه ليا، وربنا يقدر الخير.
ردت بالموافقة، فأغلق بابه عليه يطلب بعض النوم كي يرى ما يمكنه فعله في الأوقات القادمة. بينما أدخلت أنفال ما أعطاها إياه عمر، فتحته فوجدته تفاحًا، ابتسمت حينما تذكرت أن حماتها المصون هي من أرسلته لها، إنها تعلم أن أنفال تحب التفاح كثيرًا، وها هي تتذكرها به، اختفت الابتسامة حينما نغزها قلبها كأنه يذكرها بمصيبتها، قد يكون آخر شيء ترسله حماتها، وقد يكون آخر شيء يحمله عمر لها، فهي اليوم ستضع الأمر كله بين يدي عمر، لكن لا بد لها أن تتماسك جيدًا وهي تلقي بالخبر على مسمعه؛ لئلا يتابع معها شفقة على حالها، وإن كان يريدها هي لأنها هي فلا بد أن تضمن ألا يُعايرها يومًا بهذا الحدث، فبعض الناس يستغلون المواقف ليضغطوا بها على بعضهم البعض مستقبلًا متى أرادوا، وهي لن تقبل أن تكون لقمة سائغة بفاه أحدهم، حتى وإن كان هذا الـ أحدهم هو عمر نفسه!
استفاقت مما هي فيه على صوت باب البيت يعلن عودة عمر، استقبلته بلطف معتاد، ثم أنهت صنع مشروب ساخن، خرجت إليه تحمله بعد أن أوصت أَهِلَّة وأمها ألا يخرجا عليهما حتى تنهي إخباره بالأمر. جاورته جلسته محاولة أن تبدو متماسكة، سألها بعد أن ارتشف من كوبه ووضعه جانبًا:
- دلوقتي بقا قولي لي كل حاجة، ليه حالك مش على بعضه؟ وما تحاوليش تهربي من الإجابة، أنا عارفك أكتر من نفسك يا أنفال.
طأطأت رأسها بقلة حيلة، لكنها سرعان ما رفعتها وهي تستنشق هواءً معبأً بقوى وهمية، لفظت أخيرًا ما بأحبالها الصوتية من حديث يعافر للخروج:
- الموضوع يخص أفنان.
- طب والله من امبارح وأنا عارف إن البنت دي فيها حاجة.
ابتلعت ريقًا جافًا وهي تضيف متابعة كي تفرغ ما يضغط على أكتافها من حمل ثقيل:
- ما نعرفش عنها حاجة من امبارح الصبح.
الصمت، الصمت هو كل ما تشكل بينهما، حتى الأنفاس لا يصدر عنها صفيرها، كأن أحدهم اخترق إعدادات الوقت فأوقفه لدقيقة من الزمن، قطع عمر هذا الصمت بسؤاله:
- يعني إيه ما تعرفوش عنها حاجة؟
- سابت البيت من غير أي سبب، من غير أي حاجة ممكن تدلنا على مكانها، ومن امبارح واحنا مستنيين رجوعها.
زفرت شهيقًا قويًا مع انتهاء كلماتها، الحِمل الآن أصبح أخف عن ذي قبل، يمكنها الآن أن تحمل هم أفنان فقط بدلًا من هم إخبار عمر مضافًا للأول، لم تمر الثواني إلا ووجدت عمر يجذبها برفق إليه، تحركت تستجيب ليده التي تسحبها إلى أحضانه، أسكنها بين يديه وأخذ يمرر يده بين خصلاتها في حنان بالغ وهو يقول محاولًا بث الطمأنينة إلى قلبها:
- ما تقلقيش، كل حاجة هتبقى كويسة، وأفنان رغم إن تصرفاتها طايشة بس ما تقدرش تفرط في نفسها.
تنهد بدوره قبل أن يُضيف:
- من تعاملي مع اخواتك عرفت عن كل واحدة طباع بتميزها عن التانية، أفنان ما بتحبش حد يقرب منها، بتحافظ دايما على مساحة بينها وبين اللي قاعد معاها حتى لو بنت.
أكدت أنفال الأمر مومئة برأسها مع إضافتها:
- ده حقيقي، هي بتكره جدا حد يلمسها، فاكرة إنها في مرة رمت المعلقة وما كملتش أكل بسبب إن بابا قرصها في دراعها بهزار، ولما عملت كده بابا بطل يهزر معاها خالص، وقتها كلنا عرفنا إنها ما بتحبش حد يلمسها وبدأنا نتعود على الوضع عادي، لا حد فينا يهزر بإيده معاها ولا هي بتطول في حضنها لحد مهما كان عزيز.
ابتسم عمر لما أحرز الآن من تسريب بعض الطمأنينة لقلب هذه المسكينة المرتعشة بين يديه دون أن تشعر هي بذلك، ضغط على رأسها بين أحضانه مضيفًا:
- يبقى ما تخافيش عليها يا حبيبة قلبي، هتحافظ على نفسها كويس، وهترجع لما تلاقي كل الطرق بره البيت مقفلة في وشها، مش هتقدر تعيش من غير شغل، ومش هتقدر تعيش لوحدها كمان، هي ساعة شيطان وهتروح لحالها بأمر الله.
هنا وسمحت أنفال لدموعها بالتسرب عن جفنيها، كيف خشيت من رد فعل عمر وهي أكثر الناس علمًا برجولته وحكمته في المواقف؟ كيف طاوعتها نفسها بأن تحاول ارتداء قناع القوة أمام أكثر شخص وجب عليها الضعف في حضرته، فهو أول من سيحجبها عن العالم كي لا يراها أحدهم ضعيفة، وهو الذي سيبث القوة فيها كي تتمكن من الوقوف على أقدامها دأبًا وسعيًا خلف معرفة حقيقة مكان أختها، كما أنه يُعتبر ممن يقفون خارج الدائرة، ويمكنه رؤية الأمور بشكل أوضح من أهل البيت جميعًا، فأهل البيت تتحكم بهم مشاعرهم الآن، بينما من هم بخارج دائرة الأهل فهم الأكثر رؤية لكل أقطار الدائرة، وهو إصبع البوصلة الأدق في مثل تلك المواقف، أولًا لما فيه من خِصالٍ قويمة، وثانيًا لأنه من الواجب عليه أن يقدم يد المساعدة بما استطاع، فعائلتها الآن عائلته، وما يضرهم يضره، وهذا تحديدًا ما أثبته عمر في تلك الدقائق له معها بعد معرفته لما حدث.
لم يطل الصمت بينهما حينما أتى سؤال عمر فجأة:
- هي تليفونها معاها ولا سابته؟
انتفضت أنفال على إثر السؤال، حقًا كيف لم يفكر أي منهم بأمر الهاتف، إن كان معها يمكنهم معرفة مكانها ببساطة! لم ترد على سؤال عمر، بل ركضت لغرفة أمها تطرقها بسرعة أفزعت الوالدين، دخلت وهي تسأل أمها بأعين راجية:
- تليفون أفنان معاها؟
رمشت الأم عدة مرات وهي تبتلع ريقًا متوترًا، وقفت إلى خزانتها تفتش فيها عن هاتف أفنان الذي أخذته منها مساء أول أمس، فوجدته حيث وضعته. انتفض الأب ممسكًا بالهاتف بين يديه، حاول عددًا من المرات فتحه لكنه للأسف لا يعلم كلمة السر الخاصة به، انتبه لعدم وجود شريحة اتصال بالهاتف، فنظر تجاه الأم يسألها عن شريحته، توترت من جديد وهي تشير لخزانتها مُضيفة:
- مـ... معايا برضو، شايلاها منها بقالي كام يوم، وأول امبارح الصبح اديته لها من غير شريحة، ورجعت خدته تاني بليل.
عقد الأب بين حاجبيه بعدم فهم، أصابه دوار ما بسبب قلة الأكل وكثرة التفكير، لم يستطع سؤالها شيئًا، مد يده بالهاتف إلى أنفال التي أخذته من يده وخرجت إلى عمر، سألت وهي تدرك الإجابة مسبقًا:
- ما نقدرش نفتح التليفون بأي طريقة من غير ما اللي عليه يروح؟
نفى بأسف، لكنه سأل بهدوء:
- أَهِلَّة ما تعرفش الباسوورد؟
انتبهت لسؤاله، ركضت لغرفة نومهن، سألت أَهِلَّة فنفت بدورها في جهل صادق، الباب الذي انفرج منه بعض أمل صُفقَ بقوة أمام وجهها. خرجت إليه تجر اليأس، فقربها إليه يبثها الأمل والاطمئنان، خرجت الأم عليهما، قالت وهي تزدرد ريقًا معبأً بالمتاعب:
- أنا عارفة الباسوورد.
أخذت الهاتف من يد أنفال، ضغطت عدة أرقام فانفتح الهاتف بكل بياناته، طالعتها أنفال بنظرة تحمل الكثير من الغموض، أمها تدرك شيئًا ما وتخفيه عنهم جميعًا! جاورتهم الأم جلستهما، قالت بإرهاق:
- من كام دخلت على أفنان الأوضة وكانت بتكلم حد على التليفون، وأول ما شافتني نزلته من على ودنها وتوترت، فشكيت، سألتها بتكلم مين قالت صاحبتها، بس ما صدقتهاش، التليفون رن وأنا واقفة فعرفت إنها قفلت المكالمة لما أنا دخلت، سحبت التليفون منها ففضلت تترجاني أسيبه وتحلف إن صاحبتها اللي بتتصل، خدته ولقيته رقم مش متسجل، رديت فكان صوت شاب، ولما سألت مين قال إن اسمه علي ومن العريش، اديته اللي فيه النصيب، وهو قال إنه رايد خير وعايز يدخل البيت من بابه، فأنا رفضت وقلت له لو آخر راجل مش هديك بنتي، وقفلت على كده، خدت التليفون وقفلته وعنته، عدا يوم تقريبًا وجت تعيط وتقول إنها ما كانتش تقصد وهو اللي بيزن عليها ويتصل كتير، وحوارات ما دخلتش دماغي، في الآخر طلبت التليفون وقالت مش عايزة الشريحة، بس عايزة التليفون عشان بتقرأ عليه الأذكار وقرآن وبتكتب وحاجات من دي.
تنهدت الأم في تعب وهي تتنفس بسرعة كأنها كانت تركض، ابتلعت ريقها أثر كثرة الحديث الذي قالته للتو، ثم تابعت:
- اديته لها من غير شريحة فعلا أول امبارح الصبح، ورجعت خدته منها بليل لما.. لما أنتِ قلتِ لي إنها فاتحة نت وما بتذاكرش مع أَهِلَّة زي ما البنتين فهموني.
عاودت ذكرى تلك الليلة على عقل أنفال، لقد كانت تجلس أمام شاشة الكمبيوتر رفقة أمها وأحمد، بينما صنعت أفنان الشاي للبيت بعد مغادرة أبيهم وقالت أنها ستساعد أَهِلَّة في استذكار دروسها، وبعد فترة من الوقت تذكرت أمر التسجيل الذي سجلته للفتاتين بغرفتهما، فوضعت سماعاتها وبدأت تسمع ما كان يدور بينهما، فهمت من قول أفنان أن شابًا حازت أخلاقه إعجابها، وأنه فاتحها في أمر التقدم لها، وكان رد أَهِلَّة ألا تتردد أفنان في الموافقة، لكنهما بدأتا تحاولان رسم خطة لعرضها على الأهل كي يُبعدان فكرة أن أفنان وذاك الشاب على تواصل، يريدانه أن يتقدم من أي جهة غير جهة أفنان نفسها. صمتتا في هذا الوقت لدخول الأم عليهما وطلبها أفنان كي تنهي معها بعض المشاغل.
سبحت أنفال في أفكارها، وكيف تتصرف في موقف كهذا دون ضرر لأي من البنتين، إنهما طائشتان إذ يظنان أن شابًا سيتقدم لواحدة منهن عن طريق الإنترنت وأنه صادق فيما يعرض ويقول، أو أن صديق المعهد سيفي بوعد طلب الأخرى للزواج ما إن ينهي جيشه، يا للحسرة على جيل ضاع قبل أن ينشأ!
قررت أنفال وقتها أن أول خطوة لا بد منها هي أن تفصل بين أَهِلَّة وأفنان، فكلتاهما سويًا يشكلان تأثيرًا على بعضهما، وفي الخطوة الثانية ستنفرد بكل واحدة وتواجهها وتحاول إثبات أنه لا أحد من بين الشابين صادق فيما نوى تجاههما. فتحت بيانات الهاتف ترى إن كانت أفنان أو أَهِلَّة تتواصلان عبر الإنترنت، فوجدت أفنان متصلة، قالت لأمها وهي تُريها الهاتف:
- ماما، حاولي تفصلي بين أَهِلَّة وأفنان، أَهِلَّة امتحاناتها قربت، وأفنان بتشغلها عن المذاكرة مش بتساعدها.. آدي اللي بتقول هساعد أَهِلَّة فاتحة نت وهي جنبها.
تعجبت الأم حينها وهي تسأل:
- ودي فاتحة نت ازاي أصلا والـ...
لم تكمل الأم قولها، بل وقفت وولجت من فورها للغرفة، بعض صياح منها وتهديد لأَهِلة، ثم أخرجت أفنان من الغرفة وسحبت عنها الهاتف، دار بين الأم وأفنان حديث ما في غرفة الأم، لم تَدرِ أنفال عنه شيئًا، لكنهما خرجتا بعدها إلى صالة البيت تزامنًا مع عودة الأب ببعض المسليات، وبدأت سهرة يحبها أفراد البيت.
انتبهت مما وقعت فيه من شرود، طالعت أمها وسألت مستفهمة عما دار بينها وبين أفنان بغرفتها تلك الليلة، لم ترد الأم، بل راوغت وهي تقول باكية:
- التليفون ده أكبر مصيبة بتدخل البيوت.
استنشقت ما بأنفها قبل أن تجفف دمعها وهي تسأل أنفال:
- أنتِ كنتٍ عايزة التليفون ليه؟
تنهدت أنفال وهي تنظر للهاتف بيدها، أجابت:
- هشوف مين آخر حد كلمته، أشوف صحابها اللي ممكن نسأل عليها عندهم.
- لا أنتِ شوفي كل المكالمات اللي كانت بتعملها من التليفون، ونشوف مين أكتر ناس هي على تواصل معاهم، أكيد حد فيهم هيكون عنده علم هي ممكن تلجأ لمين أو تروح فين.
قالها الأب الذي خرج وسمع ما قالته أنفال، أومأت الأخيرة فاستأذن عمر الذهاب لبعض الوقت لقضاء عمل ما، وبالفعل غادر لساعتين كاملتين، كانت أنفال خلالهما قد فرغت الهاتف من كل مكالماته، وجدت بعض الأرقام تُكرر أفنان الاتصال بهم أو العكس، لكن جميع هذه الأرقام مسجلة باللغة الإنجليزية، بل وبكلمات لا علاقة لبعضها ببعض! حاولت ترجمة هذه الأسماء من موقع الترجمة، فحصلت على ترجمة مربكة، أحد الأرقام مسجل باسم "خارج نطاق الخدمة"، وغيره باسم "للاستعمال الخارجي فقط"، وآخر باسم "شعوذة"... كلها أسماء غامضة على نفس الشاكلة، حاولت فتح تطبيق الواتساب، لكنه مغلق بكلمة سرية.. تذكرت أحد زملائها في مجال الكتابة له دراية بطرق فتح مواقع التواصل إن تم نسيان كلمة السر، رفعت هاتفها وأجرت معه محادثة سريعة حصلت منها على ما أرادت، لكن المفاجأة أنه ما من محادثات في التطبيق! لقد قامت بحذف كل دردشاته كما حذفت تطبيق الماسينجر والفيس بوك...
قلبت أنفال الهاتف لكنها لم تصل لأي شيء فيه غير الأرقام المسجلة بأسمائها الغريبة تلك. تنهدت وأعلمت والدها بما حصلت عليه، سأل كأنه كان مغيبًا وأفاق الآن:
- هو مين اللي فتح التليفون؟
توترت أنفال، ومن غير شعور وجدت نفسها تجيب أنها أَهِلَّة، أومأ الأب دون تعليق. بدأ إجراء مكالمات مع الأرقام التي استخرجتها أنفال، وذلك من هاتف أفنان نفسه. الصدمة التي استقبلها الأب بقلب منفطر أن جميع هذه الأرقام تعود لشباب! وحينما حاول الأب استدراج أيهم بالحديث لم يحصل على أي معلومة تخص أفنان، جميعهم معرفة مواقع التواصل ولا علاقة لأيهم ببعضهم! كان من بين كل هذه الأرقام ذاك الرقم المسجل باسم "شعوذة"، احتفظت به أنفال دون أن تعرضه على والدها حينما وجدت أن الحديث بين أفنان وهذا الرقم كان يصل للساعة، ستُراوغ هي صاحب هذا الرقم، ليس من المعقول أن يكون بينهما كل هذا الحديث ولا يكون على علم بمعلومات قد تفيدهم في البحث عن أختها.
عاد عمر يحمل بيده بعض أكياس من السمك والأرز وغيرهم، أعطاهم لوالدة أنفال وهو يضيف:
- عازمكم بقا على السمك اللي بحب آكله، بس ده على شرط: تقولوا لي رأيكم في ذوقي.
ابتسمت له الأم وهي تربت على ظهره، ولج عمر حيث تجلس أنفال تتابع ما كان يحدث، تحدثت إليه بتأثر:
- عمر.. أنت ما بتحبش السمك.
راوغ وهو يضرب كتفها بكتفه:
- قلت إني جبت النوع اللي بحبه.. ها وصلنا لحاجة؟
نفت أنفال قبل أن تشير للرقم الذي استثنته عن البقية، وضحت وجهة نظرها فرد بحكمة:
- أنتِ هتتصلي من تليفون أفنان نفسها، وهتقولي إنك لقيتِ الفون ده على الطريق، وإن الرقم ده لقيتيه آخر مكاملة صادرة، وإنك عايزة تعرفي بتاع مين عشان ترجعيه.
كان الأب قد حضر ما قاله عمر دون أن تنتبه أنفال، لكن فات الوقت على سحب مرادها.. أجرت الاتصال كما اقترح عمر، علمت من الشاب أن اسمه علي، وأنه يسكن شرم الشيخ، أخبرها أن صاحبة هذا الرقم كانت ستكون مخطوبته لولا تدخل أمها ورفضها له، كما أضاف أنه لا يعلم تحديدا من أين تكون أفنان.. شكرته أنفال وأنهت معه الاتصال الذي ندمت أنها أجرته أمام أبيها.. لقد عرف الآن بأمر قد أخفته عليه الأم.. ولا تضمن لأبيها رد فعل في هذا الحال...
______________
جلس بحديقة البيت، برفقته أنفال وسارة التي لا تستجيب له منذ حوالي الساعة، لم يفقد الأمل بها، هي الحالة الأولى له، وهو شاب لا يحب الفشل أبدًا. تحدث إلى أنفال يطلب منها أن تتركهما قليلًا، كانت على وشك تنفيذ ما طلب، لكن يد سارة التي أمسكت بذراعها منعتها من ذلك، ابتسم على رد فعلها مبدئيًا، معنى أن سارة تعلقت ووثقت بأنفال فحالتها قيد العلاج، وأنفال بداية الطريق...
___________يتبع...
أنت تقرأ
أنفال ٢
General Fictionبين هذه السطور المرصوفة كلماتها يكمن جزء كبير من الحقيقة، والبعض الآخر يحمل زيفًا ربما مبالغ فيه، وربما هو أقل بكثير مما حدث في الواقع، المهم أن بعضًا من تفاصيل الحقيقة لا بد وأن تختفي تحت طيات الكذب؛ لئلا تثير بلبلة أصحابها الذين يخشون فضح حقيقتهم،...