أتعلم أيها الغَريب.. إن منبع الوَجَع المتدفقَّ في شراييني هو الإدراك الذي صفع وجه سعادتي المزيفة، فأيقظ إحساسي بخطر محدق مصدره أنا..
أكتُب لكَ بعدَ مرور عدّة أسابيع على ذلك اليوم الماطِر، عندمَا ضجّت روحي بمعَاني التعَاسة، وأنا موقنة بأنكَ ترافقني في خلوتي من حيثُ لا أراكَ ولا أسمعك كمَا كُنتَ تفعل حينها.. وكما أشعر بك حولي بين فينة وأخرى تحرك أشيائي من أماكنها.. لا أدري إن كنتَ تفعل ذلك قاصدًا أم سهوًا منك أثناء تجوالك..
لقد حاولتُ أن استَردَد ذاتِي وأوصَد باب الماضي، أردت أن أستعيد عافيتي فأبت نفسي إلا أن تعارضني بكل ما لديها حتى اتّقدت بي نارُ الحُمى، فلزمت الفراش أيامًا على إثرها أتساءل..
أتراني علة على من آووني؟
كنتُ ولا زلتُ رغم انتمائي.. أعتَقِد أن لا مكان لي هنا، فأنا أعلم هذا وأدركه منذ أن وعيتُ على الدنيا، سيظل اسمي يحمل اسم من تخلى عني للأزقة المليئة بالكلاب المشردة..انقطع خيط الكلمات، وتوقف سِن القلم عن نسج حروف الرسالة على إثر صوت نقر على زجاج النافذة المغلقة، رفعت رأسها تنظُر ناحيتها، فابتسمت تدفن الحزن الصامت لرؤية طائر يدق نافذتها بمنقاره، وقفت برشاقة تسرع الخطى إليها وهي تتمتم ضاحِكة:
"اوه يا طائر العندليب، هل أصابك الجنون أني لم أطعمك اليوم؟"
شرعت دفتي النافذة ليهبط العندليب على حافتها يتلقف الحبوب المملوءة بالصحن، واندفع مع دخوله نسيم لطيف مؤرج بعطر الزهور في غرفتها متلاعبًا بشعرها الطويل؛ ما حفزها لتدور حول نفسها بعفوية متراقصة مع الرياح، فتفتحّت طيات فستانِها الأبيض كبتلات زهرة هي مركزها.
كم تسعدها بساطة الحياة رغم تعقيد تفاصيلها، فتلك الرياح الدافئة والسماء الزرقاء والمرج الأخضر الممتد والزهور الملونة كافين ليسعدوها، قابلت نفسها في المرآة فسطعَ انعكاس الألماسة الشفافة التي تدلت من عقد حول عنقها.
اقتربَت لتعاين مظهرها وتتأمَل نفسها باستحسان، حيث شعرٌ عسلي أُسدِل حتى نصفِ ظهرهَا، وعينَان واسعتين كثيفتا الرموش، مُكحَلتين، يُزينُهما حاجِبين خفيفَا التقوس، رفيعا السماكَة، قد أطّرَا ألماستيها بإطار جذاب زاداها جمالاً ولطافة..
وضعَت يديها على خصرها مبتسمةً برضا، وتحدثت كمن يخاطب نفسه إذ لم يكن في الجوار أحد: "ما رأيكِ يا إيلي بمناسبة هذا الجو اللطيف أن نذهب في نزهة؟"
وقفت برهة تعاين لباسها وتقول:
"أتذكرين الأسبوع الماضي حين تركتُ أمي تبتاع لي فستانًا.. لقد اتفقنا على كونها ستشتري شيئًا من جيل الأجداد، لكن اختيارها للفستان هذا لطيف ويليق بي"
ضحكت وهي تثبت قبّعة قشّ على رأسها، ثم حملت حقيبة صغيرة تحوي بعض مقتنياتها وحشرت بينهم مذكرتها التي كانت تكتب فيها قبل قليل، علقتها على كتفيها وأطلت برأسها إلى الطابق السفلي، تهتف مناديةً بصوتٍ عالٍ: "أنا ذاهبة"
رغم كونها لم تجد جوابًا فقد نزلت الدرج وتوجهت للمخرج بعدما التقطت سلة كانت عند الباب، خرجت إلى واجهة المنزل المزينة بشتى أنواع الزهور والنباتات، تسلقت سلمًا متنقلاً لتقطف تلك الأزهار المتدلية من الأعلى وتضعهم في سلتها، ثمّ نزلت لتقُصّ من ورد الجوري بحذر كي لا يؤذيها الشّوك، وملأت سلة بها كي تأخذهم معها.
ولم تنسى عادتها في كل صباح حيث التقطت منضحة الزرع تسقي ورودها ونباتاتها المحببة، وما إن انتهت حتّى همّت بالمغادرة لكنها تمهّلت، عادت إلى الدّاخل مجددًا رافعة صوتها: "أمي، أبي سوف أخرج الآن"
وتوقفت عند غرفة الطعام المُلحقة، فإذ بها تسمع بداخلها صوت المَعنيّة تتحدث: "أنا أخشى مما يتناقله الناس عنها.. أخشى نبذهم لها، ستظل منعزلة هكذا ولن يتقبلها أحد، لكني لا أعلم ماذا أفعل رغم أني أخذتُ عهدًا على نفسي أن أرعاها"
تراجعت عن فكرة الدخول وأطرقت رأسها بامتعاض من وراء الباب الموارب مستاءة من الحديث الجاري، فيما تسمع رد والدها: " أتفهم المسؤولية التي تشعرين بها اتجاهها يا بيلسان، لكن عليكِ عدم الإفراط بالتفكير، لا زالت ميسون صغيرة، وحين تكبر ستتخلص من خيالاتها"
"إنها صغيرة بالنسبة لك يا بافل، لكن الجميع يعرف أنها كبرت وستبلغ الرابعة عشر قريبًا.. إنها كبيرة بما يكفي كي تجد لها رفاقًا حقيقين بدل الحديث مع فراغ أو وهم.. أو طَيف.. أيًا تكن ماهيته، حتى محاولتنا بالأمس لم تجدِ نفعًا وانتهت بإيذائها لأحدهم، أشك بأن قلادتها الغريبة تلك لها علاقة بالأمر، أنا أخشى عليها، لا أدري ما يتوجب عليّ فعله"
كانت تختلس النظر إلى المرأة التّي تضمّ يديها في حجرها بقلق من فُرجة الباب، قطبت حاجبيها باستياء أن تكون هي السبب، سمعت تنهيدة عميقة من والدها الذّي كان يجلس معطيًا الباب ظهره وقد نفِدت كُل مُحاولاته بإقناعها: "اعذريها يا عزيزتي، تعرفين كيف كانت حياتها في الميتم، وما بقي عليها من آثار صدمة معرفتها بتخلي والدها عنها"
وعند هذا الجزء تظاهرت بعدم سماعها لشيء من حوارهما، وشرعت الباب لتطلّ برأسها داخل الغرفة بابتسامة شقية: "طاب صباحكما.."
كان لابتسامتها التّي تحفر غمازتين في خدّيها عدوى غريبة انتقلت إليهما سريعًا، فأزالت المرأة لطيفة الملمح تعابير القلق؛ لتمازحها حين رأتها مع حقيبتها وقبعتها: "ها أنتِ مجددًا منذ الصباح الباكر! إلى أين هذه المرة يا ميسون؟"
دخلت عليهما وهي تدور بفستانها الذّي يصل لمنتصف ساقها وتضحك بمشاكسة بينما تنزِل قبعتها التي تعتمرها في رأسها بحركة بهلوانية، لتقول بدرامية: " مهمة سرّية!"
هتف الأب يسايرها بابتسامة مهتمة: "ولم تقرري الإفصاح عنها حتّى الآن؟"
غمزت بعينها بشقاوة: "لن تبقى سرية إن أفصحت، لكن قريبًا جدًا"
"شوقتني لأعرف"
ضحكت إثر جملته، وخرجت من الغرفة فتبعتها والدتها إلى الباب لتقول وهي تشير إلى ما يشبه قرطًا معدنيًا يحيط بصيوان أذنها وسوارة أشبه بالساعة في معصمها: "جيد، لم تنسِ شيئًا، انتبهي لنفسك ولا تتأخري في العودة، سأعدّ اليوم طبقكِ المفضل على الغداء"
التمعت عينيها إبان سماع ذلك وقالت بحماسة بدت في أوتار صوتها: "حقًا؟!!"
أومأت والدتها إيجابًا لكن لمعة الغبطة تلاشت من عينيها وهي تسأل باستنكار ساخر: "الطبق الذي تقولين عنه أنه متعب ويأخذ وقتًا طويلاً حتّى يتم تشكيله ثم طهيه ساعتين حتى ينضج، هاه؟ لقد رفضتِ إعداده مرات كثيرة بهذه الحجج، إذن ما المناسبة اليوم؟"
هزّت الأخيرة كتفيها: "تجديد الحب يا بُنيّة"
ورغم إحساس ميسون بأن كل هذا ليس سوى محاولة لاستمالتها للاستماع إلى ما يرادانه؛ إلا أنها ضحكت لطريقة كلامها المعسولة بهُزء: "يا لكِ من مراوغة!"
وتراجعت خطوتين خلفيتين إلى الباب قبل أن تجد والدها قد لحق بهما إلى المخرج قائلاً: "يبدو أنكِ ذاهبة لوحدك؟ ما رأيكِ أن ترافقي بعض الفتيات في نزهتك؟"
أظهرت ميسون حينها تعبيرًا كان ليبدو مضحكًا مع رفعها لأحد حاجبيها وتقطيب الآخر باستنكار: "فتيات؟ تقصد أولئك السطحيات التافهات اللاتي بالأمس لا يجدن غير..."
ضحك والدها مقاطعًا قبل أن يكمل ملطفًا الجو: "دعكِ منهن، أولا توجد غيرهن؟"
ثم تقدم إليها مظهرًا جدية الموقف واضعًا يده على كتفها مُحدثًا إياها بنبرة هادئة: "اسمعيني يا ميسون، سأكون صريحًا معكِ، لقد كنتُ منذ مدة أتحدث مع أمك عن ضرورة تحسين علاقتك مع من حولك والانخراط مع أقرانك"
قطبت حاجبيها كأن حديث والدها لم يعجبها، فيما أكمل: "يجب أن تخرجي من الوهم الذي تعيشينه والخيال الذي تحدثينه"
تغضن وجهها حينئذٍ متذكرة نقاشهما وراء الباب الموارب مسبقًا، لتقول: "إنها حقيقة!!"
أشارت لجهة ما وهي تكمل: "إنها حقيقة أراها وإن لم تروها!"
تنهد والدها حين نظر إلى إشارتها للفراغ، فشعرت بالعجز الذي جعلها ترفع صوتها منزعجة: "نعم إنه أمرٌ لن تفسروه إلا بخيال أو خلل أصاب عقلي أو مس شيطاني يحتاج له علاج طويل الأمد!"
لم يجد والدها إلا أن يربت على كتفها عاجزاً عن قول شيء، هو أكثر من رأى وعرف عما حدث لها منذ نعومة أظفارها، لتتدخل والدتها قائلة: "أنا ووالدك لا نريد سوى أن تعيشي كأي فتاة أخرى في سنك"
-"لا تتحدثا وكأنكما تعلمان مصلحتي بينما لا تدركان أهم شيء بشأني؛ أنا أعيش بشكل جيد لوحدي.."
-"تحتاجين إلى رفقة، الوحدة قاتلة!"
-"بل أحتاج إلى من يصدقني لكنكما دومًا تُكذبانني!"
-"ميسون.."
-"أردتُ منكما أن تُصغيا فقط إلى تلك الأشياء المجنونة والتي لا يختلقها إلاّ الأطفال ذوي الخيال الخصب بنظركما!"
-"عزيزتي أرجوكِ استمعي إلي.."
-"تخبراني أن أنسحب من قوقعتي وأترك عزلتي المقيتة، ولكن هل تظناني أردتُ هذا لنفسي؟!"
فألجمهما الصمت عن الإجابة، لتردف: "هل فكرتما مرةً، بصدق، أنّ بقائي حبيسةً لحدودي يوجعني؟!"
-"أرجوكِ.. حاولي أن تتعايشي مع واقعك"
لتقول حينئذٍ دون أن تقيس شدة كلماتها على أذن سامعها: "لستِ أمي ولستَ أبي! أتريان؟! إني أتعايش مع الواقع حتى النخاع!!"
وما إن صرخت بجملتها حتى ارتعبوا جميعًا لصوت زجاج يتحطم وتتناثر شظاياه دون أن يكون أحد قد حرك شيئًا بالقرب منهم، بدا الذعر في عيني والديها أكثر مما بدا عليها وهما يجدان الزهرية البعيدة محطمة عند أقدامهم..
ابتلعت ميسون غصة الوجع، وعلا وجهها الاستياء صارخة: "توقفي عن التّحطيم كلما غضِبتُ يا إيلي!"
تراجعت إلى الباب بعدما خلفت ثورة مشاعرها الأضرار، ونظرت إلى والدها لتقول بحزن دفين:
"أردتُ رفقةً، لكن لن أجعل أنانيتي تخلِّف ورائها أفئدة كسيرة"
ثم خرجت منسحبة من المنزل بهدوء من وطأة نظراتهما، دون أن ترى ذلك التعبير الذي اعتلى وجه والدها، وما إن ابتعدت خطوتين حتى كانت تزم شفتيها كاتمة دموع العجز والقهر الذي شعرت بهما، كم كان موجعًا أن تحبهما وترغب بالبقاء معهما رغم عدم قدرتها على جعلهم يفهمون ما تعيشه إطلاقًا، ومن المؤلم جعلهم يتحملون تبعات وجود شخص يرافقه طيف يثأر كلما أحس أن صاحبته بخطر، لكن كيف بها تقنعهما بشيء لا يراه ولا يسمعه غيرها.
تجاوزت عتبة باب المنزل المُحاط بحديقة زهرٍ خلّابة تركض دون تمهّل، لكنّها فجأة توقّفت، التفتت للوراء ونظرت إلى منزلها مطولاً، منزلها الأحب.. المكان الذّي تعود إليه، حيث يوجد من ينتظرها دائمًا، يبدو عليه غمامة كئيبة تجعل غشاوة من الحزن تكسو وجهها.
لكنها أغمضت عينيها ثم استدارت بصمت.. لا تدري بأي شأن ساورها الشّك، ذات الشك المحير الذي لا تدرك مصدره..
لكنها أسرعت وأطلقت لقدميها العنان، راكضةٍ على طول قريتها الريفية المتمددة في كفة وادٍ مخضَر، كطير حُر جارِية بين سنابل القمح الطويلة التّي تمتد لمسافات على مدّ البصر، بينمَا يهدر إلى أذنيها صوتُ رنين الأجراس المعلقة في رِقاب البقر التي تجول في مرعى القرية على أوامِر الرُعاة، وصوتُ انغراس معاول الفلاحِين في الأرض المحروثة؛ قطفاً للثمَر الذي نَضُج.
همست كمن تحدث نفسها: "منذُ أول خطوة خطوتها في الدنيا كنتِ معي يا إيلي، محتوم علينا أن نعيش برابطة واحدة، لكن عليكِ أن تتعلمي التعايش معي، توقفي عن إيذاء من أحبه، تعلمين أنكِ لا زلتِ رفيقتي الوحيدة لكن ما تفعلينه يؤذيني.. "
ثم تغيرت وتيرة صوتها لأخرى جاهدة لتكون طبيعية: "لكن دعينا ننسى هذا الآن، ما زلتُ أتطلع لإتمام ما بدأناه، سأضع آخر لمساتي على عريشة الورد التي صنعتها معكِ لأحضر أمي وأبي إليها.. ولابد أن أعتذر إليهما.. وأنتِ كذلك لقد كنتِ فظة.. وسنحضر سلة كبيرة من الطعام والشطائر والعصير الطازج، والكثير من الصور لتوثيق هذه الذكرى"
وأظهرت آلة تصوير يدوية كانت تحملها في حقيبتها، فشعرت بتحرّك القبعة التّي فوق رأسها مرة فيما يشبه الإيماءة، هذه المرة اختارت القبعة وسيلة تواصل، كانتا نقرتين متتابعتين على طرف قبعتها ففهمت أنها موافقة، ضحكت وأردفت وهي تحث الخطى: "هيا بنا إذن لنلتقط صورة معًا"
ولم تكد تفعل حتى رأت في الحقل مجموعة صبيان في عمرها يتهامسون فيما بينهم وينظرون إليها بنظرات مشبعة بالكره، صمتت وتبدلت تعابيرها وضاقت عينيها لرؤيتهم وهي تعرف أنهم يحيكون عنها الأكاذِيب والخرافات الملفقة كعادتهم، قطبت حاجبيها وعيونها لا تتزحزح قيد أنملة عنهم..
"يبدو أن هذه الممسوسة ذاهبة للغابة حيث يسكن أصدقائها من الجن"
لكزَ أحدهم ذراع الآخر وقال بصوت خفيض:
"انتبهوا يا شباب.. إنها تنظر إلينا الآن"
قال آخر: "أخبرتكم أن لها عين ثالثة تنظر فوقَ حدود قدرتنا نحن البشر"
التقطت غصنًا حاد من الأرض واتجهت نحوهم: "أرى أن بعض العراقيل ظهرت في بداية نزهتي"
قال أحدهم بتهكم: "أحدهم يريدُ العراك والعودة إلى البيت باكيًا"
بدأوا يتراجعون ويلقون بعض الحجارة عليها مدافعين عن أنفسهم: "إنها ممسوسة لا عجب أن عائلتها رمتها في الشارع"
أصاب جبينها حجر متوسط الحجم وألقى بقبعتها أرضًا، رفعت رأسها وقد خُدِشَ جبينها واحمرّ تنظر إليهم بنظرة لا تنبئ بالخير: "كيف تجرؤون أيها الصعاليك؟! أنتم ستموتون على يدي!"
ورمت حُفنة من الحِجارة واحدة خلف الأخرى صوبَهُم مفرغة كل ما فيها من غضب؛ لتصيب أحدهم برأسه بدقة، هربوا جميعًا متفرقين بعد هجومها المباغِت لتصرخ بهم بصرخة كادت تفقدهم سمعهم: "إنهم عائلتي ولم يلتقطني أحد من زقاق ما!!"
تردد صوتها في المكان: "هل سمعتم؟ عودوا لمثل هذا الكلام مجدَدًا ولن أتردد بفقء أعينكم!"
زفرت أنفاسها بغضب، فلقد تعبت من تكرر مثل هذه المواقف معها يوميًا، شعرت فجأة بهمهمة غريبة قرب أذنها ثم وجدت قبعتها ترتفع لوحدها لتستقر مجدَدًا على رأسها، وكأنها مواساة من رفيقتها، ابتسمت للفراغ الذّي تراه كهلام شفاف غير واضح الملامح: "لا بأس إيلي.. أنا بخير، إنهم فقط جوقة من الحمقى، لا تكترثي لهم "
مضت في سبيلها وأوغَلت كثيرًا حتى دخَلت الغابة، لتكمل طريقها المعبّد بالعشب والحشائش متوغلة أكثر بين الأشجار، مستمتعة بشعاع الشمس المتسلل بين الفروع ولم تفتأ ثانية توثق تلك المناظر بآلة التصوير تلك، حتّى وقفت أخيرًا أمام شجرة ضخمة وارفة الظلال تزين جذعها الورود: "وها قد أحضرنا الورد والزهور لنكمل العريشة!"
فرشت بساطًا صغيرًا وتركت قبعتها وحقيبتها؛ لتقضي صباحها حول تلك الشجرة تثبت أغصانًا ببعضها وتغرس بينهم الورد ثم تصعد فوق فرع ثخين لتعلقه وهي تدندن بلحن ما، مجهزة العريشة التّي تأمل الجلوس تحتها.
انتفضت فجأة للسعة الشوك لإصبعها فأفلتت الوردة من يدها لتسقط أرضًا، وتتناثر بتلاتها الحمراء كلون نقطة الدم التّي كانت تتسع على طرف سبابتها شيئًا فشيئًا، بنظرة عميقة حدّقت بذلك الجرح، وكأن سماوية عينيها قد تلبّدت بالغيوم الداكنة:"حتى رغم قصي للأشواك"
كان جرحًا صغيرًا لم يستدعِ اهتمامها، إذ وقفت فوق الغصن تتأمل وتستكشف المكان من علوها بشغفٍ وحماس، لتقع عينيها على مرجٍ يُطل عليه ذلك الارتفاع: "انظري هناك يا إيلي، الكثير من الزهور! يا له من منظر يستحق التوثيق، هلّا أحضرتِ آلتي؟"
لحظات حتّى ارتفعت آلة التصوير التي كانت بجانب حقيبتها، أخذتها لتلتقط صورًا للمرج بينما تتحدث: "لننتقي بعضًا من تلك الزهور ونزين العريشة بها، هل تساعدين؟"
ويأتيها الجواب هذه المرة على شكلِ دفعةٍ خفيفة شعرت بها، لتنزل من مكانها.
داست قدمها على بتلة طُرِحَت بعيداً دون قصد، وهي تجري لتلك المساحة التي ازدانت بالزهور البيضاء والصفراء المتفتحة وسط الغابة، مضى من الوقت ساعة وقد نسيت أمر العريشة وهي تنتقي الزهور وتجمعهم.
"سآخذ بعضها للمنزل أيضًا، سيمتلِئ المنزل بالأزهار، تخيلي إن قدمتُ لوالدي زهرة كاعتذار وهو مُصاب بحساسية اتجاهها! لكن الزهور البرية أكثر فتنة من بين مجوعة الأزهار الأخرى، إنها جميلة وفريدة من نوعها!"
ضحكت وهي تتخيل ردة فعل والدها إن عادت حاملة الزهور بعدما ملأت المنزل بها في آخر مرة، قالت بينما تجلب مقصًا من حقيبتها: "لكن أمي تُحب الزهور، بل تعشقها، ستسعد إن أهديتها باقة من الأزهار"
قصت سيقان الورد ولفته ببعضه لتثبت الزهور التي انتقتها وتصنع طوقًا من الأزهار، ما إن أنهته حتى وضعته فوق شعرها العسلي: "كيف أبدو؟"
رفعت آلة التصوير وثببته بمستوى نظرها، فظهرت في شاشة التصوير مع المرج من خلفها وأشجار الغابة والجبال البعيدة.
أنت تقرأ
صدع في ذاكرة الزمن
Fantastikكسابحٍ يطفو في فضاءٍ خاوٍ لا يُعكر سكونه شيء.. لحن يشابه هذا البهوت، ضوء مستمر في الخبوت، لون يشابه الموت. أهو الآتي الذي لا قرار له؟ أم الماضي الذي لا فرار منه؟ أيُّ زمانٍ هذا الذي لا انطواء له ولا انحناء كأنه الفناء؟ مكان لا يُدرى ما هو، حيث الجم...