٨

14 4 0
                                    

( الحياة صعبة ، مُجحفة بحقنا ، نحن أولئك المحرومين من الشفقة والرحمة ، لا تطالنا سوى القسوة من قبل من هم مثلنا .
أ ولسنا جميعاً بشر ؟ نملك ذات اللحم والدم ، المشاعر ، اللغة ، نحن نكاد نكون واحداً ! إذن ما بال كل ما يعرضوننا له من إيذاء ؟ وكأن المرء لا يرتاح قلبه الا حينما يطعننا ألف مرة حتى تغادرنا أرواحنا .)
_______________________

{ أختطاف }
< وكأن اللعنة حلت عليه منذ ولادته فلم يرى شيئاً جميلاً عدى شكله >

مضت عليه ثلاثة أيام ، يسرق طعامه وشرابه وينجح بالهرب ، يتشاجر مع المشردين على أماكن النوم فكانوا يحتلون أغلب الأماكن ويمنعون الغرباء من أخذها لاسيما أن كانوا بمجموعات ، زالت الحمى منه وباتت صحته أفضل ولكن الجروح في ظهره لا زالت تلسعه .
لم يستطع إيجاد عمل فهو أينما يذهب يتم التنمر عليه وطرده ، لكونه طفل قذر مشرد فعاش على السرقة .
ثم توالت عليه الايام ليتعرف الى مجموعة مراهقين أكبرهم عمراً يبلغ الثامنة عشر ، يشكلون عصابة ذكرته بتلك العصابة من طفولته ، كانوا يسرقون بهدف المتعة ويعملون لتوفير ألاموال للميتم الذي جاءوا منه .
كان صعباً عليه مسايرتهم ففي البداية لم يحبذوا وجود سارق آخر غيرهم لكنهم تعرفوا اليه على أية حال وتقاسموا معه الطعام والشراب والسرقة .
كانت مجموعة أفضل من واحد على أية حال .
لم يكن لديه أسم لذا تعرض للتنمر من قِبلهم ، تعارك معهم وأبرحوه ضرباً لم يكن يسمح بأن يتم أستغلاله من جديد لذا عاد للسرقة منفرداً ، كان يتجول بملابسه الرثة بالأسواق ، يرى تلك البضائع الثمينة ، الصخب عالٍ والضجيج والزحام يضيفان أجواء بهيجة .
ملابس وطعام وشراب وحلي وأقمشة وحتى بشر وحيوانات كل هذا معروض لمرأى ذهبيتيه الحادتين .
كان يُمسك بقطعة خبز ويأكلها بينما ينظر حوله ، لم يخرج من ذلك المنزل منذ خمس سنوات فنسي السوق وضجيجه وأعتاد هدوء الحقل والعمل في الطبيعة .
خرج من السوق لمنطقة واسعة ، سوق المزاد كان مفتوحاً وبشر يتم عرضهم للبيع. وقف قريب من الجمع يشاهد من بعيد أجناس مختلفة ، ما بين الأشقر والأبيض والاسود والأحمر ، أطفال ، نساء ، رجال أشداء ، مراهقات ، وحتى من هم بعمره جميعهم بصحة جيدة .
أنهى تناول خبزته ومسح يديه بثيابه وتقدم ينظر عن قريب ، يسمع الناس يهتفون بأصوات عالية بأسعار باهضة الثمن للحصول على العبدة الجميلة ذات الشعر الأصهب الطويل والجسم المتناسق .
مرت ساعات بيع بيها الكثيرون ، وعند الظهيرة أُغلق المزاد وقرقرت معدته تطالبه بالطعام وليس لديه سوى الخبز ليأكله ، فتوجه لذات المحل وسرق وهرب ولكن هذه المرة خرج له صاحب المحل من الزقاق المجاور لمحله ليصبح أمامه مباشرةً مثيراً ذعره ، حيث ضربه ضرباً مبرحاً وأخذ الخبزتين منه تاركاً إياه مسجى على الأرض والدم يخرج من فاهه .
كدمة ظهرت على عينه وآلمته معدته أثر ركل الرجل لها ، وقف عند رأسه رجلين غطى أحدهما عنه الشمس وعلى ما يبدوا كان مهتماً به .
رأى الرجلين يقفان أمامه ثم أنحنى عليه صاحبهما ليقلبه على ظهره ويحدق به بتمعن مُدخناً غليونه مصغراً لعينيه وكأنه يستكشف الطفل أمامه أكثر ، مسكه قابضاً على فكه يعتصر خديه ويجر رأسه ناحيته يتمعن تفاصيل وجهه .
-أحمله .
أشار للرجل بجانبه والذي لم يره صاحب الذهبيتان والذي هوى قلبه أرضاً وراح يركل بالهواء الرجل الذي يحمله ، يصرخ معترضاً على أخذه بهذه الطريقة .
-دعني أنزل ، أنزلني ، من تكونان !ماذا تريدان مني !
أثار جلبةً عالية لم يكترث لها أحد ، بدا منظراً عادياً لكل من نظر إليهم .
وكان الرجل يدخن غليونه مبتسماً كمن وجد سلعة ثمينة والرجل الآخر ضخم البنية يحمل الطفل على كتفه كما لو كان يحمل كيساً !
وصلا به الى مركز السوق وعبراه الى بناء متهالك وداخله مساحة واسعة مملوءة بالأقفاص التي تحوي جموعاً من البشر ، مقيدين بالأصفاد ، البؤس يطوق نظراتهم والتعب في ثنايا ملامحهم ، يراقبون الوافد الجديد .
رماه الضخم على الارض ليزحف للخلف متألماً من قبضته القوية ومن لسعات جروحه ..
<الكابوس حي من جديد ، ها أنا ذا أعيش تفاصيله مجدداً ، يتكرر علي بأشخاص مختلفين وبعمر مختلف وبوعي مختلف ، فأنا أكثر من ناضج وعارف لما سيؤول إليه حالي ، أنا وحيد وسط الضواري ، تتراماني الأمواج وتعبث بي كما تشاء ، تتلقفني الايدي الخشنة وتقبض علي كما لو كنتُ كنزاً عظيماً !
الأحساس بالحرية أندثر وما تبقى هو العبودية التي لا تنفك تلاحقني أينما ارتحلت !>
الخوف ملئه وتزايدت دقات قلبه الصغير ، علم الى أين سيؤول إليه مصيره ، مجدداً سيقضي باقي سنوات عمره كعبد يتعرض للجلد والضرب على أتفه الأشياء ، سيتم أنتهاكه والأعتداء عليه ، نهض وهرب راكضاً ناحية الباب يحاول فتحه لتأتيه ضربة من الرجل الواقف يدخن خلفه بواسطة عصا معدنية وأرتمى فاقداً لوعيه على الأرض ودماءه تسيل من رأسه .
صحى بعد وقت لا يعلم قدره ، الجو عصراً وهو مكسر الجسد والتعب أكله أكلاً .
رأسه هاج به صداع قوي شله عن الحركة لبعض الوقت ، حاول تحريك يديه فعجز عن ذلك ! عقد حاجبيه الأشقرين ليتناهى لسمعهُ من بين الطنين الحاد بأذنيه أصوات سلاسل معدنية تتحرك .
اتكئ على مرفقه لتستقبل ذهبيتيه منظر أرجل قذرة !
طالع ما حوله ليجد أعداد هائلة من البشر يطالعونه بأسى ، وقف يقاوم الدوار الذي عصف برأسه وألتفت لتعانق قبضتيه القضبان يرى الأقفاص المقابلة له والساحة من حوله ، لتغرق عينيه بالدموع ويبكي بكاءً مريراً صائحاً بعلوا صوته :
-أخرجوني من هنا .
وحل الليل ولم يتوقف عن النحيب ، من حوله متجاهلين إياه ، فما هم فيه يمنعهم من الأكتراث لغيرهم ، جاء الرجل الضخم وبيده سوط وفتح باب القفص وبدأ بأنتقاء مجموعة ليعرضوها ليلاً بمزادهم ، أغلبهن كُن نسوة من فئة المراهقة لعمر الشباب .
وتم أغلاق القفص ، كاد يركض ويهرب لو لا أنه حُشر بين الأجساد حتى كاد يموت أختناقاً ! رحل الضخم وأخذ يضرب بسوطه على الأرض آمراً العبيد بالتحرك بخط مستقيم ثم دلفوا للداخل وغاب عن أعين الطفل الذي عاد يكرر جملته بصراخ :
-أخرجوني من هنا .
حل اليوم الموالي وتبعه يومان ، ثلاثة أيام بالمجمل يتغذى على ماء قذر وخبز يابس ! لا يتوقف عن الصراخ مطالباً بالخروج ، القفص لم يكن يخلوا من الأجساد المتلاصقة فما أن يخرج العبيد يحل محلهم قادمين جدد .
في اليوم الرابع جاء الضخم وأخذ ثلة من الأطفال ووقع أختياره على الأشقر المبحوح صوته والذي ما أن أخرجه حتى ركض لمسافة قصيرة ثم سقط على وجهه .
جره الضخم من قدميه وأجبره على الوقوف لكنه تملص وحاول الهرب !
-اللعنة عليك يا أبن الزنا .
ضربه بالسوط صاراً على أسنانه بغيظ ، تعالت صرخاته المتألمة خصوصاً أنه لم يُشفى بعد تماماً من جروحه السابقة ، جلدهُ مراراً وتكراراً حتى أوقفه صاحب المزاد وهو يدخن غليونه :
-آرتس توقف واللعنة .
صاح به ثم جاء ونظر للطفل الذي سالت دماءه فصرخ ناهراً الضخم :
-ما الذي فعلته أيها اللعين كان قطعة باهضة الثمن من سيشتري عبداً غارقاً بالندوب ؟هاه ؟ أجبني !
صمت ونظر لقدميه فرمى الرجل غليونه أرضاً وهدر بآرتس الضخم :
-أجلب له طبيباً وأغرب عن وجهي .
أمتثل لأمره وحمل الطفل الباكي الذي تحول صراخه لأنين نحو الداخل حيث غرف المنزل المهترئة .
رماه على فراش أرضي قذر وخرج ليطلب طبيباً لمعالجته ...
غاب تاركاً إياه يفقد وعيه ...

<ألم في ألم ، ظلام في ظلام ، قسوة لا متناهية ، هذا العالم يزداد ظلاماً وقسوةً ورعباً كل فين ، لا أجد من يرأف بحالي ، وكأن الرحمة قد أُزيلت من قلوب الجميع .
لا أحمل قوة ولا مصدر للأمان ولا سند ، وحدتي وأنا وسلاحي ضعفي ، مجرد مخلوق ضعيف تستقوي عليه بقية الجبابرة .
لكنني أعدني سأنهض يوماً ولن أرحم بأحد أياً كان ولو كان أضعف الموجودات على الأرض ، أقسم بالآلهة التي أنكر وجودها سوف أصبح جباراً لا يغلبني أحد وسيندم كل من آذاني يوماً >

يتبع .....

وحش بلا إسم حيث تعيش القصص. اكتشف الآن