١٩

18 1 0
                                    

بداية غير محسوبة !

شعور غامض هو الوقوف على أطلال الوجع
ترى بقلبك لا بعيناك ما سلب منك أبسط حقوقك كمخلوق تُسمى "أنسان" .
غريبة قدماي عن هذا التراب الذي يتخلل فراغات صوابعي وثقيل هو هذا الهواء الذي أشتم النتانة تفوح منه ، حائر في أمري أأمضي قُدماً أم أتوه في الصحاري حتى أكتب لنفسي نهاية تعيسة لا تليق بوحش قاتل لينول حرية !
حرية فقط بالمسمى فأنا لا زلت عبد بلا أغلال !
عبد للهواء والتراب ، عبد للماضي والحاضر والمستقبل . عبد ذليل وخاضع رغماً عنه لشروط حياته وقدره المجهول.

_______
طال به المشي وأنهكهُ الحر والتعب ، العطش جعل الجفاف يغزو حلقه ، العرق ملئ جسده وشعرهُ التصق بجبينه ، كان يلهث بقوة ويشعر بنفسه خاوي مجبور على السير بهذه الحالة !
لم يعلم كم مرت عليه الأيام فالسور بعيد وكأنهُ سراب حتى خُيل إليه أنه تاه في الصحراء وعقلهُ يهيء له الصور !
نحف جسدهُ القوي حتى بانت عظامه وجحظت عينيه في محاجرها وفقد الرؤية لنور الشمس الذي سلب منه صحة البصر عظام وجههُ كانت بارزة لدرجة من يراه وكأنه يرى ميتاً عاد للحياة !
رفضهُ للموت بطريقة يراها مهينة له بأن يغدو جيفةً للنسور او الضواري ما جعلهُ يُصر على الوصول الى السراب حتى أنفاسهُ الأخيرة ! مجرد كبرياء في وضع غير مناسب ، عزة نفس لشخص عاش عمره ذليلاً !
لم يعرف ما حل به ! البياض غطاه من كل صوب والرمال ملئت له حلقه فزادته جفافاً وعيناه حدقتا للافق وهما غائبتان عن الوعي ! هما تبصران وعقله أعمى .
كاد يحتضر لو لا كتيبة من الجنود صادفتهُ في درب العودة وبذلك كتب له القدر فرصة جديدة للعيش .
صحى بعد مدة لا يعلمها ينظر بلا وعي لما أمامهُ ، عقلهُ مُنطفئ وكأنهُ آلة قديمة معطلة وغير قابلة للأصلاح ، لا طاقة لهُ للحركة وكأنهُ شُل بالكامل ، جلده شديد الالتصاق بعظمه فلا يشعر بجريان السوائل داخله ، لم يقدر على الكلام فشفتيه متيبستان يتساقط جلدهما كأوراق أشجار الخريف ، حلقهُ يابس صلب كطريق صخري وعر .
الوحش يدفع ثمن جرم أُرغم على أرتكابه
الوحش راقد تحت رحمة آله لا يؤمن به منذ زمن
هذا الوحش الذي حارب منذ تفتحت عيناه على الدنيا فقط ليجد مكاناً آمناً للعيش ها هو راقد على فراش الموت يحتضر وحيداً .
ما الذي حاربت لأجله كل هذه السنين ؟ ما الذي أنوي تحقيقهُ في حياتي العابثة والدموية ؟
صوتي صامت لا يثرثر كعادته ، ذهني خاوي ، أفكاري ممحية ، أرى أمامي طفلاً أشقراً بعيون ذهبية ، شديد الجمال والبراءة ، لم أرى الملائكة في حياتي لكنني أكيد بأن هذا الطفل ينتمي إليهم .
لا أعلم من يكون لكنه يكبر بسرعة وتشتد ملامحهُ قسوة والبراءة تذهب مهب الريح كلما كبر عاماً !
أنا أراني وكأنني شبح داخل ذكرياتي ، أرى الماضي أمام عيناي أراني مُحاط بالوحوش ، أُغتصبت مني طفولتي على أيديهم ، فقدتُ أعز أصدقائي في فترة مراهقتي ! تم بيعي لأُقاتل كحيوان شره مقابل قروش لأسيادي ! كم مضى علي وأنا أعيش ، كم أبلغ من العمر ؟ توقفت محطة حياتي عند سقف حجري وتناهت الأصوات لمسمعي لأُدرك أنني أخترت بنفسي هذهِ المرة ما سيكون عليه مصيري .
وسط أسرة جرحى الحرب كان راقداً تطوف عليه الممرضات ليلاً نهاراً لسوء حالته ، لدرجة مرور أشهر كاملة وهو يتحسن ببطء شديد .
حتى أستعاد عافيته وعاد له جسده الضخم مفتول العضلات وطال شعره ليصل منتصف خصره وكان أشعثاً كلبدة الأسد ، لحيتهُ كثة وكأنها لرجل عجوز وآثار الندوب ووسوم العبودية تملأ جسده .
جمالهُ المرعب أثار نشوة قلوب الممرضات فعاملنه كملك ، يطفن حوله حاملات للطعام والشراب يلتففن حولهُ يتسائلن بفضول عن هويته وعما حصل له فكان يمتنع عن الأجابة ويبقى سارحاً في الأفق وكل ما يراه هو صبي أشقر يركض في الأنحاء وهو يسرق من الناس ليأكل ثم يعود لما يسميه المنزل ليُبرح ضرباً واذا ما مرض نام على فراشهُ القديم المليء بالعث !
وجوه من أحسنوا إليه وحازوا على مكانة في قلبهُ القاسي حاضرة أمام مقلتيه ، وكل مشاعرهُ التي رافقت وجودهم عادت إليه دفعة واحدة مُسببة له ضيقاً بالتنفس .
لم يعد لرشده الا بعد أسبوع ووعى على حاله ، أنهُ في أرضهُ الأم من جديد ويحيطون به أناس يتحدثون لغته ، لم يعد طفلاً يتيماً يستغله الأكبر عمراً ولا عبداً يُباع ويُشترى أنه الآن رجل حر على أرضهُ يعيش كما يحلو له ويحدد قدرهُ بنفسه .
أفاق على لمسات ناعمة على جلده فأمسك اليد التي تداعبه بقسوة وحدجت عيناه صاحبة هذه اللمسات المتعدية بغضب مكتوم ، الفتاة خافت وأرتفعت أصوات صيحاتها المتألمة وهي تحاول شد رسغها النحيف من قبضته الضخمة .
أنزعج من تجمع النسوة حوله وصاح بهن صيحة واحدة جعلت كل فتاة تهرب بجهة !
لاسيما وأن الأسرة من حولهُ فارغة وهذا يعني أنهُ المريض الوحيد الباقي في هذه المشفى مما أثار أستغرابه !
-ما الذي حدث ؟
وجه سؤاله لأحدى الممرضات الواقفة أمامهُ والتي تحمحمت ونسيت خوفها ليجتمعن حولها زميلاتها وهن يعاودن الأحاطة به من جديد فرحات بمبادرته للتحدث !
-لقد غضبت بلا مقدمات وأفزعتنا بصراخك !
قالتها بغنج أنثوي وصديقاتها يتضاحكن حولها برقة وكأنهن فتيات هوى لا ممرضات !
-من جاء بي الى هنا ؟ ولماذا تكفل بعلاجي ؟
أجابته وهي تضع قدماً فوق الأخرى :
-وجدتك كتيبة من كتائب جيشنا الباسل ووضعوك في المشفى العسكري التابع للبلاط لأنقاذك بلا مقابل .
أعقبت زميلتها الجالسة بجوارها من الناحية الأخرى :
-لم يتوقع أحد أن تبقى على قيد الحياة وكنا نتوقع وفاتك بأي لحظة ! ولكنك كسرت التوقعات وبقيت حياً .
قالتها بأعجاب شديد وكأنها تمدح بطلاً قومياً ضحى بحياته لأنقاذها . صمت عن الكلام لترد أحداهن جالسة بجواره مباشرةً وهي تلتهمهُ بنظراتها :
-أ لن تُخبرنا عنك ؟
مدت التي بجانبه من الجهة الاخرى يدها تشد خصيلات شعره برفق وتمسدها :
-تبدو كرجل عاش طوال حياته بكهف ! الا تنوي حلاقة شعرك ؟
نهض من مكانه بحركة مفاجئة بعد أستيعابه أنه داخل البلاط الملكي ؟ لا يعلم مالذي سيفعلهُ بهذه المعلومة ولكن الحرارة ملئت جسده حماساً لسبب مجهول لا يعرفهُ ، تفاجأ من سقوطهُ على السرير لتتلقاه أيدي الممرضات ، كان عاجز عن الحركة تماماً وكأنهُ مشلول مما سبب له فزعاً جعل قلبه يطرق طبول الخوف !
-لما لا أستطيع التحرك ؟ ما الذي فعلوه بي ؟
فقد صوابه وراح يصيح بغضب عارم والخوف يزور قلبه لا يعلم أ كان مألوفاً عليه قبلاً أم أنها الأولى لأنهُ منذ زمن فقد القدرة على الشعور ، فكان وقع الخوف شديداً عليه جعله يصرخ بمحاولة للدفاع عن نفسه ضد خطر مجهول قد يتربص به !
لم يشعر الا وقد غاب عن الوعي وساد الظلام من حوله .

يتبع .....

وحش بلا إسم حيث تعيش القصص. اكتشف الآن