1

512 17 77
                                    

عنيدةٌ غيرُ قابلةٍ للاضمحلال ، تلك الصّفاتُ لا تناسبُ شيئاً مثلما ناسبَتْ ذكرىً واحدةً من زمن طفولتي ، ذكرى ولوجي الأوّلِ مع صديقِي الأقدمِ إلى مرصدِ نجومٍ أقفُ أمام سورِه الخارجيِّ منذُ دقائق ، يبدو المرصدُ خلّاباً في الذّاكرةِ و لا يمكنُني تغييرُ أو تجاهلُ هذه الواقعة ، حتّى و أنا أبغضُه أكثرَ البغضِ الآن.
نقّلتُ ناظريَّ فيما حولي بحثاً عن أيِّ مُرشِد ، السّاحةُ أمام المرصدِ كبيرةٌ جدّاً و فارغةٌ إلّا من بعضِ الشّجيراتِ ضئيلةِ الحجمِ ، اضطرّني وسعُها للانتظارِ كثيراً ريثما يلحظُني أحدُ البوّابين و يأتي في ناحيتي ، و طبعاً لا يمكنُ دخولُ هذا المكانِ دون إذنٍ منهم ، فهو خاصٌّ بأبحاثِ أبي و بعضِ العلماءِ الآخرين السّرّيّة ، و بعيدٌ من التّجمّعِ السّكنيِّ مسافةً تجعلُ التّوجّهَ إليه مُريباً إلى حدٍّ ما نسبةً لمظهرِي العصريِّ جدّاً ، أو المزركشِ الصّبيانيِّ كما يقولُ أبي.
تبسّمتُ بحفاوةٍ و أنا أستذكرُ مظهري ، جميلٌ أنّني محافظةٌ عليه في ظلِّ تهكّمِ أبي له و لي ، جميلٌ كوني أحافظُ على شيءٍ منّي في وجهِ تسلّطِه و رغبتِه في صنعِ نسخةٍ عنه منّي ، فها هو يرفضُ أحلامي و يزدرئها ، و يطالبُني بالقدومِ إلى هنا كي أحملَ أحلامَه على عاتقي و أصبحَ مثله.. عالمةَ فلكٍ تعيسة.
نظرتُ مجدّداً نحو البوّابين ، و إذ بأحدِهم يشيرُ لي كي أذهبَ في ناحيتِه ، بدا لي رجلاً كسولاً لا يقوى على الحراك ، و لو أنَّه ما وقفَ و أشارَ لي لعدتُ إلى بيتِ أصدقائي و حمّلتُه مسؤوليّة هربي ، لا ، يجبُ أن أكملَ في التّحدّي و إلّا لن أكون...

_"أنا نوفا ، بنتُ أليكسندر"

أخبرتُه قبلَ لحظاتٍ من بلوغِ موطئه ، فعاينَ شكلي بطرفِ عينِه ، ثمَّ تناولَ علبة سجائرَ من جيبِ و فتحَها.
نوفا بنتُ أليكسندر ، هذا هو الدّليلُ الأوّلُ على تبجّحِ أبي و الذّي يلازمُني في كلِّ حين ، فهو اسمٌ لانفجارٍ كونيٍّ أو شيءٍ من هذا القبيل ، و هو يلازمُني في كلِّ مكانٍ رغماً عن أنفي ، مكتوبٌ في السّجلّاتِ و أُنادى به على الدّوام ، في حينِ لو جاءَ الأمرُ لي لغيّرتُه بأكمله ، من نوفا المزعجِ هذا ، و حتّى انتسابي إلى غيري.
ليس الأمرُ مهمّاً الآن ، المهمُّ أن أنهيَ اللّعبةَ على خيرٍ و أفوزَ فيها ، و عن طريقِ مسايرةِ أبي شديدَ الحماسِ ثمَّ صعقِه بهربي بعيداً في لحظةِ يظنُّ أنَّه أقنعني ، أخطّطُ لفعلِ هذا منذُ وقتٍ طويلٍ الآن ، و سوف يكونُ انتقامي لنفسي ممّن يحاولُ طمسَ هويّتِها ، أعدُ بهذا

_"هل قلتِ شيئاً يا بنت؟"

خاطبَني الحارسُ بعدَ هنيهةٍ من تعريفي بنفسي ، يبدو أنَّه لم يسمع ما قلتُ بعد ، بالطّبعِ لم يفعل ، فهو مُذْ وصلتُ قربَه منشغلٌ بتوضيبِ سجائرِه في علبتها و عدِّها من جديد ، إلهي ، هذا ما كانَ ينقصُني.
زفرتُ حانقةً و أنا أراقبُ حركاتِه المتباردةَ المستفزّة ، ثمَّ رفعتُ حقيبةَ ظهري قليلاً أتجهّزُ للالتفاتةِ و المغادرة ، و حللتُ ربطةَ شعري القصيرَ المُجعّدَ و حرّرتُه كي يتناثرَ فوقَ بقاعِ وجهي و يتطايرَ في الهواءِ في ذاتِ الآن ، كشعرِ الفرشاةِ تماماً ، و بالضّبطِ كما يبغضُ أبي أن أفعل ، فأبي العزيزُ يزعمُ أنَّها عادةٌ متشبّهةٌ بالشّبابِ المتهوّر ، بناءً على أفكارِه المُتحجّرةِ القديمةِ غيرِ المكترثةِ بما أريدُ أنا ، أهو شعرُه ليرتّبه كما يريد؟

يومٌ مُقمِر ~ بارك جايحيث تعيش القصص. اكتشف الآن