4

174 16 55
                                    

نزلتُ درجَ المدرسةِ ما إن رنَّ جرسُ الانصراف ، كانَ الازدحامُ اليومَ على أشدِّه و على غيرِ عادةِ مدرستِنا النّموذجيّةِ المُقرفةِ في أيّامِ الصّحو ، فطلّابُها _إلّاي طبعاً_ يدّعون دائماً الاهتمامَ الكاملَ بالدّروسِ و لا يستعجلون مغادرتَها من بابِ الأدب ، يبدو أنَّ الجميعَ لديه ما هو أهمُّ من تلك المظاهرِ و من نظراتِ المدرّسين في هذا الوقتِ بالذّات ، أرجو ألّا يكونَ ذاتُه ما لديّ.
و أخيراً و بعدَ جهدٍ جهيدٍ وصلتُ بوّابةَ المدرسة ، و خرجتُ من بينِ الجموعِ المتزاحمةِ إلى الحريّةِ في الشّارع ، حمداً للّٰه ، أحسستُ و كأنَّ صدري افتقدَ إلى الهواءِ لفترةٍ ثمَّ عادَ للتّنفّسِ الآن ، شعورٌ صعبٌ حقّاً

_"يا نوفا!"

سمعتُ نداءً تميّزَ من بينِ كلِّ الأصواتِ المتكاثفةِ في رأسي ، نداءً ناعماً في أصلِه و شديداً في تطبيقِه ، نداءَ سونيا المتحمّسةِ على الدّوام.
تراجعْتُ نحو الخلفِ قليلاً ثمَّ استدرت ، حاولتُ في خلالِ هذا الفاصلِ الزّمنيِّ ابتداعَ ابتسامةٍ تغطّي على حقيقةِ شعوري بتواجدِها ، و قَدْ نجحتُ في الأمرِ بدايةً ، بَيْدَ أنَّني و ما إن لمحتُها و لمحتُ من بقربِها أرخيتُ كلَّ سبلِ دفاعي.. هذا ذاتُه من جلسَ بقربي اليوم.. أمرٌ متوقَّعٌ و غيرُ متوقَّعٍ في ذاتِ الآن..

_"ألا يشبِهُ زين مالك؟"

حوّلَتِ انتباهي فوراً إليه كما حوّلَتِ انتباهَه ، هذه ألعوبةٌ جديدةٌ من ألاعيبِها للسّيطرةِ على عقولِنا ، و يبدو أنَّها ستنجحُ مع الأسف

_"معجبةٌ بزين أيضاً؟ يبدو أنّنا سنصبحُ أصدقاءَ بسرعة"

ابتسمتُ بغيرِ وعيي ، و أومأتُ له مؤكّدةً ما قالَ مع علمي بأنّنا بتنا خطّةَ سونيا التّرفيهيّةَ القادمة ، ربّما ستكونُ هذه الخطّةُ فرصةً أبيّنُ عن طريقِها لأبي أنَّني فتاةٌ ذاتُ رأيٍ و قادرةٌ على اختيارِ طريقِها بنفسِها ، ربّما

_"إذاً ، هل أنتظرُكما اليومَ مع بعثةِ الحفلة؟"

_"انتظريني ، أنا قادم"

أجابَ الشّابُّ سؤالَ سونيا بسرعةٍ أرغمتني على مجاراتِها ، فشريكاي في اللّعبةِ الملعونةِ هذه قَدْ صبّا تركيزَهما عليّ بالكامل ، و لن يتركاني دون أن أوافق ، أعلمُ هذا جيّداً

_"و أنا أيضاً"

أجبتُ باقتضابٍ تركتُهما من بعدِه يتناقشان براحتِهما ، و توجّهتُ بأسرعِ ما لديَّ إلى موقفِ الحافلةِ أفكّرُ في كلِّ الأحداثِ السّابقةِ و اللّاحقة ، أُحِسُّ بغصّةٍ غريبةٍ إزاءَ هذه الأفكارِ المتناقضة ، إحساسٌ عجيبٌ بشرٍّ قادم ، أو حتّى خطأ ، و كأنّني مقدمةٌ على ذنبٍ عويصٍ لا على رحلةٍ مشرقةٍ ظريفةٍ أتمنّى المشاركةَ في مثلِها منذُ وقتٍ طويل.
وجدتُ الحافلةَ تنتظرُني شبهَ فارغةٍ لأملأها بسوءِ مزاجي ، صعدتُ فيها و إلى مقعدي المُعتادِ شددتُ العزم ، دائماً ما كانَ يشعرُني فراغُه بالرّاحة ، بَيْدَ أنَّني و ما إن بلغتُه قلقت ، اكتملَتْ في جوارحي السّلبيّةُ بتحذيرِ خطرٍ كبيرٍ عُمِّمَ على كافّةِ أحاسيسي ، و تجاهلتُه على العادة ، ماذا سأواجهُ مثلاً؟ أبي؟ لم يعد هناك فرقٌ بعد الآن ، فهو لن يعرف ببساطةٍ ما يحدثُ من وراءِ ظهره ، و هو على سائرِ الأحوالِ سيتسبّبُ في نشوبِ شجارٍ بيني و بينه كما يفعلُ يوميّاً ، بدليلٍ أو بغيره.
تنفّستُ بعمقٍ في المقعد ، ثمَّ استخرجتُ هاتفي على العادةِ و وضعتُ سمّاعاتي ، هذا سبيلي الوحيدُ للتّغافُلِ عن سوءِ حياتي و بشاعةِ روتينها ، سبيلٍ ينتهي بي بلمسةٍ واحدةٍ في عالمٍ مختلفٍ بعيدٍ عن كلِّ ما أقاسي و كلِّ ما ينغّصُ سلامَ روحي..
و في لحظةٍ ما ، انتُشِلْتُ عنوةً من هذا العالمِ و عدتُ إلى الأرض ، إذ شعرتُ بحركةٍ شبهِ شديدةٍ إلى قربي ، حركةٍ عجيبةٍ استقصدَتْ أن تلفتَني و أفزعتني بدلاً من مجرّدِ لفتِ النّظر.
التفتُّ إلى الجالسِ في المقعدِ المجاور ، و إذ به ينظرُ مباشرةً في وجهي ، احتاجَ التّعرّفُ إليه في عقلي بضعاً من الوقت ، و تجاوزُ الأمرِ بضعاً أكثر ، هذا الشّابُّ ذاتُه الذّي كانَ معي في مرصدِ النّجوم ، على ذكره ، لقَدْ مضى وقتٌ طويلٌ على لقائنا الأوّلِ و ما سألتُ عنه من بعده ، لقَدْ تجاوزتُ حتّى مواعيدَ الصّفوفِ التّي حدّدها أبوانا ، و تجاوزتُ رغبةَ أبي في رؤيتي كثيراً ، كانَتْ فترةً غبيّةً فعلاً

يومٌ مُقمِر ~ بارك جايحيث تعيش القصص. اكتشف الآن