13

122 9 21
                                    

انتظرْتُ حتّى غادرَتِ المشعوذةُ الصَّفَّ و جرَّتْ منه أحمالَ حصّتِها البغيضة ، ثمَّ توجّهتُ إلى مقعدي و دسستُ رأسي بين ساعديّ فوق الطّاولة ، كنتُ أسمعُ صوتَ معدتي الخاويةِ و هي تنادي طلباً للنّجدة ، لكنَّني لن أنجدَها أبداً ، فكلُّ طرقُ النّجدةِ تنتهي إلى مطعمِ المدرسةِ حيث ينتظرُني السّيّدُ جاي ، و أنا لا أريدُ رؤيتَه مطلقاً ، مجرّدُ الاحتمالِ يقطعُ شهيّتي ، ألستُ حُرّة!؟
على من أكذب!؟ أنا جائعةٌ جدّاً و في وسعي التهامُ دجاجةٍ مشويّةٍ بنفسي ، أو خمسَ قطعِ كعكٍ محشيٍّ بالموزِ و مغطّسٍ بالشّوكولاتةِ و السّكاكرِ الملوّنة ، أو ربّما سبعَ قطعِ بيتزا باللّحمِ و الزّيتونِ و ضعفِ كميّةِ الجبن ، و لأكونَ أكثرَ واقعيّةً و أقلَّ شرهاً ، سأفكّرُ في ما يُباعُ هنا فقط ، سأفكّرُ في شطيرةِ جبنٍ محمّصةٍ مع قطعتي بسكويتٍ بالفراولة و أحدِ أنواعِ العصائر..
يا إلهي أكادُ أُجَنّ!
حاولتُ أن أنامَ بكلِّ قواي ، بَيدَ أنَّني و كلّما أغمضتُ عينيَّ أرى صنفاً من أصنافِ الطّعامِ و أحسُّ بنكهته أيضاً ، بدءاً بالمعكرونةِ المُغطّاةِ بالجبنِ و الصّلصةِ و ليس انتهاءً باللّحومِ المشويّةِ على أشكالِها ، كما لو كنتُ أُعذَّبُ بالنّومِ لا أنسى.
رفعتُ رأسي بوهنٍ من فوقِ الطّاولةِ من بعدِ ما طفحَ الكيل ، رتّبتُ شعري الأشعثَ المُتطايرَ فوقَ رأسي ، لقَدْ تغيّرَ هو الآخرُ عن شكلِه في آخرِ مرّةٍ قصصتُه فيها ، أصبحَ أكثرَ طولاً و أكثرَ فوضويّة ، كشعرِ بعضِ لاعبي كرةِ القدم المشهورين ، بَيدَ أنَّه ما يزالُ يؤرقُ أبي على ما أرى ، فكلّما قابلَني لا ينظرُ إلى ما سواه ، ربّما يرى فيه مخالفتي الأُولى لقواعدِه و ذوقِه ، و ربّما أُحِبُّه أنا لهذا السّبب.
لا يُهِمُّ شعري الآن ، فأنا لن أستطيعَ أكلَه لو كانَ أطولَ أو أقصر.. أريدُ شيئاً يسدُّ جوعي أيَّما كان ، و سوف آكلُ جاي لو وقفَ في وجهي أنا واثقة.
نهضْتُ متثاقلةً و ترنّحتُ في سيري ألعبُ على نفسي دوراً ما ، تمكّنتُ من التّغلّبِ على تردّدي قبل وصولي إلى الباب ، غَيْرَ أنَّ هذا التّردّدَ قَدْ عادَ و غلبَ عليَّ آنذاك ؛ أخالُ صوتاً في داخلي يحثُّ تأخّري عن الوصولِ إلى المطعم ، و يحاولُ خداعي في ذاتِ الوقتِ لأسلّمَ بانقضاءِ فرصةِ الغداءِ بغيرِ تدخّلي ، و صوتاً آخرَ ينبئني بما يحدثُ و يعارضُه ، و الصّوتُ الأخيرُ يحذّرُني من الموتِ كالغربان.
تناقضٌ عظيمٌ يعرقلُ قدرتي على اتّخاذِ القرارِ الآن ، تناقضٌ كَثُرَ ما خدّرَ أطرافي من قبلُ و لأسبابٍ تافهةٍ يوضحُ الزّمانُ وهميّتَها.. و لكن لحظة..
متى اتّخذتُ قراراً بصلابةٍ أصلاً؟ ألم تأتِ كلُّ قراراتِ حياتي من دربِ الصّدفة؟ أولم يكن جلُّها خاطئاً أيضاً؟
لا زلتُ أؤجّلُ و أتهرّبُ من مواجهةِ أفكارِ أبي عنّي.. لا زلتُ أصطنعُ القوّةَ و المخالفةَ من وراءِ ظهرِه.. و أنا في وجهِه لا أستطيعُ إلّا أن أتكلّم.. من أنا؟ و ماذا كنتُ أفعلُ طوالَ هذا الوقت؟
أسندتُ يدي إلى الجدار ، و ألقيتُ نظرةً سريعةً على النّافذة ، تراءَتْ لي السّاحةُ السّفليّةُ للمدرسة ، حيث يمشي كثيرٌ من الطّلّابِ و يتبادلون الأحاديث ، لا يمكنُني تمييزُ أحدٍ منهم ، لن تسمحَ الزّحمةُ إلّا برؤيتِهم كلوحةٍ كاملة.. مهما كانَ أعضاءُ هذه اللّوحةِ مُهمّين أو سعداء..

يومٌ مُقمِر ~ بارك جايحيث تعيش القصص. اكتشف الآن