صور دافئة

41 3 0
                                    

صور دافئة

ارتميت بسجدي المتهالك على سريري الذي طالما ضمني.

وصرتُ احارب بمخالب مخيلتي كل صورة مؤلمة تتوارد الى ذهني لففت نفسي بالغطاء كشرنقة وانطويت الى داخلي .اغمضت عيني ورميت بنفسي الى دوامة الظلام لتسحبني الى داخلها ببطيء ، حتى بدأت تتلاشى تلك الصور المؤلمة التي تنتابني كل ليلة قبل النوم.

غصت في عالم آخر ، بعيداً عن قسوة العالم المظلم الذي اعيشه ، الى أحضان الذكريات الدافئة حيث طيف أمي وأبي ..وبيتنا الدافئ القديم .لا زلت اذكر صور قديمة دافئة تلملم شتات ذاتي المبعثر رغم كون بعضها مشوه فطفلة في الرابعة والنصف لم تنسى .. ولن تستطيع تذكر كل شيء .. اذكر لمسات أمي الناعمة وشعرها البني الطويل وملامح وجهها الجميلة .. اذكر صوتها حين كانت تغني لي أغنية النوم ..

" هيلا يا رمانة هيلا يمه.. من هي الزعلانة .هيلا يمه .. حنين الزعلانة .. هيلا يمه .. منو يراضيهه .. هيلا يمه . صايغ تراجيهه .. هيلا يمه "

خرجت من كل العالم الذي يحيطني ، فبدأت تتشكل أمام عيني سحب سوداء تسبح في سديم ازرق كفضاء غير مأهول .

ثم بدأت أطلق الصرخات الساخنة بداخلي أريد أمي الآن ، ولو للحظة واحدة لأضع رأسي بين كفيها ولو لثانية.

***

لم انسى ظل ابي مختبئاً

خلف باب الغرفة ينتظر ان اخطو خطواتي نحو الخارج ، فيظهر لي بصوت عال ليحملني عالياً كالطير أحلق في الهواء .لم انسى آثار أصابعي التي كنت احفرها على غبار زجاج سيارتنا البيضاء .

فوطة جدتي البيضاء و ضفيرتيها الفضيتين ،

رائحة صابون الغار والعنبر التي تفوح من ملابسها مع رائحة الخبز الناضج بينما هي واقفة قرب التنور.

و انا جالسه احمل صحني الفارغ منتظرة دور رغيفي الصغير الذي سيخرج من التنور . كلها صور لازالت عالقة في اعماقي لم تستطع يد النسيان ان تطالها .

الرحيل الأول

كانت فرصة نجاة حنين هي تشبثها بوسادة جدتها ، حيث كانت عائلتها تقضي تلك الليلة في البيت الكبير للجد المقارب لبيت ماجد والد حنين. فقد كان بيت الجد هو المهرب والملجأ عندما كان الخوف من قصف الطائرات هو الرديف الوحيد للم شمل العوائل في بيت واحد تلك الايام .مع كل صوت عالٍ كان يصدره الطيار الامريكي عند الاقتراب فوق اسطح البيوت تشهق الارواح خوفاً وتتعالى الادعية والآيات ومع ارتفاعه يكون قد ترك للقلوب فرصة ثانية للعيش . بعدما انقضى الليل ، عم سكون يأذن للعيون التي اضناها السهر وطول ترقب صوت الطائرة بالنوم قليلاً . همَّ الجميع الى مضاجعهم في البيت الكبير للجد صالح. ماجد ونجلاء قرروا الرجوع الى بيتهم ، لكن حنين مثلت دور النائمة لتمكث تلك الليلة في غرفة الجدة سليمة رحمها الله. حاولت والدتها إيقاظها لكن الجدة أبت.

***

كانت آخر ليلة ترى حنين فيها والديها.

عام ٢٠٠٣ بينما كانت بغداد تصارع الموت وتلفظ انفاسها الأخيرة . نخرت الحرب كل تمثال للأمل ، صارت صباحات فيروز تقتات على خبزة الفقراء المغمسةٌ بدماء الأبرياء بدلاً عن الشاي والقهوة في اشراق كل صباح جديد ، واصبح صوت عويل النساء بديلاً لصوت مذياع الصباح الدافئ واستوديو عشره . مع أذان فجر جديد ، استيقظت الجدة سليمة لتصلي .

سليمة :" حاج صالح .. يا صالح ! انهض لقد أذن الفجر "

صالح :" انا مستيقظ ، اخفضي صوتكِ قليلاً "

نهض الحاج صالح من فراشه متجهاً نحو باب الغرفة.

سليمة :" احذر يا صالح أن تدوس على أحد الأطفال"

صالح :" ما شاء الله ، نام الجميع في هذه الغرفة !"

سليمة :" عدا بيت ماجد ذهبوا قبل منتصف الليل ، بقيت حنين فقط "

***

صلّت سليمة الفجر، وخطت خطواتها نحو منضدة خشبية عتيقة ثم نفخت على المشعل النفطي " اللالة" الموجود فوقها كي تطفئه . فشلت في اطفائه في المحاولة الأولى . نفخت ثانيةً وانطفأ المشعل ذهب النور من ارجاء المكان وانطفأ كل شيء في الوجود مع انطفاء ضوء المشعل . توقفت خطواتها في ظلام دامس ليس كالظلام الخفيف الذي اعتادت ان تراه عيون بغداد ، بصياح ديكٍ وزقزقة عصافير اشجار النارنج ، فقد تحول كل شيء الى ظلام حالكٍ، إنه فجر الرحيل .

***

مع أول شعاع ذهبي شق الفجر حملت ملائكة السماء ارواح ماجد ونجلاء وسرمد الصغير ،كما تُحمل الأوراق الصفراءُ الذابلة على اكتاف نسمات الخريف ، بعد ان سقط صاروخ على بيتهم ، لينهار عليهم سقف المنزل ، وينهي حياتهم وحياة كل شيء جميل في قلب حنين . لقد حصدتهم مناجل الغياب ، لكن جذور ذكرياتهم بقيت تتمدد في اعماق ذاكرتها . بقيت حنين في احضان جدتها سليمة ، لكن ذلك لم يدوم طويلاً . فقد مرض جدها صالح حزناً على ولده الراحل مع عائلته . وتوفي اثر نوبة قلبية. والتحقت به الجدة سليمة وتوفيت بعد وفاته ب٦ اشهر لتبقى حنين وحيدة في غابة الحياة المظلمة

جذبني شعرها البني حيث تعيش القصص. اكتشف الآن