*******

56 24 5
                                    

جملة رزان المفاجئة التي لم يسبقها أي تمهيد ولا أي مقدمات اخترقت طبلة أذنيه مثل صاعقة الرعد القادمة من عاصفة مفاجئة لم تكن في حسبانه أبداً جعلت منه يشتل في مكانه دون أي حراك لدرجة عدم قدرته على بلع قطعة الطعام الواقفة في حلقه وعصفت في ذهنه على الفور تلك الكلمات التي كانت تتحدث بها مع خيالها الغامض عندما كانت في غرفته قبل أن تقوم بمحاولة انتحارها المرعبة ، تذكر تلك الكلمات بصورة مختلطه ومتزامنة مع شريط ذكريات طفولته البائسة اليتيمة الذي عاشها في صغره ، مرت أمام عينيه بسرعه شديده وكأنهُ أعادها الزمن لكي يعيش كل تلك الأيام المعتمة الكالحة في لحظات متسارعة في ثوانيها بعد كل ذاك الجهد الذي بذله طوال السنين الماضية لنسيانها والتداوي من سقم أحزانها ، ...
أما رزان التي أنزلت هذه الصاعقة المدوية عليه دون سابق انذار كان لها وقع آخر تماماً وكأنها ليست رزان الذي يعرفها ويحفظ تفاصيل شخصيتها البسيطة المهزوزة في أغلب مواقفها ، تلك المرأة التي تكون في أغلب حالتها مترددة وخائفة من أبسط الأمور واسخفها ، بل ما يراه الآن عينان زرقاء واثقه كل الثقة تنظر له بثبات وهدوء البحر الهادئ الذي يسبق العاصفة ،،..
وبدون انتظار أي ردت فعل من هذا المتجمد القاعد أمامها تنهض من على كرسي الطعام بهدوء مبالغ به وتجر أقدامها الصامتة باتجاه باب غرفة الدمى الخاصة بها الغرفة التي تزعم بأنها محيطها السري الذي كانت ومازالت تمنع أي شخص بالدخول إلى ثناياه حتى فارس نفسه والذي بحكم فضوله دخلها مره واحده فقط قبل ثمانية أعوام ولكن لم يجد فيها ما يثير الدهشة والريبة فقد رأى سوى جدران كئيبة في لونها تتدلى منها العشرات من الدمى المتحركة الذي يكسوها غبار الزمن وديكور يوحي لك بأنك في أحد الغرف الكلاسيكية من العصر الفيكتوري القديم، ولهذا فقد اهتمامه بها ولم يدخلها مره آخري ولكن وعلى ما يبدو له الآن بأنه كان مخطئ بل يوجد فيها الكثير والكثير من الأسرار الذي لا يعرفها ولقد كان الأحمق الذي لم يستطيع الانتباه لها طوال هذه الفترة ،،.....

وبعد بضع خطوات تتوقف زران دون أن تنظر خلفها وتقول بصوت هادئ لهذا الذي لم يستطع بعد استيعاب هذا الحدث المتناقض في كل تفاصيله

\-- أكمل طعامك وبعد ذلك أتبعني إلى الغرفة أريد أن اُريك شيء كان لأباك

وأكملت مسيرها حتى صارت داخل الغرفة وتركت باب الغرفة مفتوحاً على مصراعيه وكأنه ثقب أسود ينتظر ابتلاع هذا المشلول الصامت الذي يتتبع ما يحدث أمامه بعيون مندهشة ومتعجبة من الذي يحصل أمامه وصدى كلمة أباك مازالت تحلق في دهاليز عقله دون توقف ،،..

عندما دخلت رزان الغرفة تملك قلبها ذاك الشعور نفسه الذي يعتلي صدرها كلما تقودها قدميها للمكوث بهذه الغرفة رغماً عنها ولكن هذه المرة تمالكت نفسها وطردت تلك الأفكار من رأسها التي كانت قد بدأت تحثها على التراجع لوهلة ، وأخذت نفس عميق لتعود إلى هدوئها السابق وبعد ذلك تحركت سريعًا لأزاحه ستارة النافذة لتسمح لضوء النهار بدخول إلى هذه الغرفة المعتمة وبدأت على الفور بالبحث في أحد الأدراج الجانبية لمكتب خشبي مركون في أحد زوايا الغرفة وبعد لحظات تخرج منه مفتاح صغير الحجم ومن ثم انزلت أحدى دمى المار يونيت من على الحائط وشقت بطن الدمية لتخرج منها صندوق خشبي صغير الحجم وقامت بفتحه بالمفتاح الصغير الذي أخرجته من درج المكتب ، وفي تلك اللحظة شعرت بحقيقة ما سوف تقوم به وبأنها مقدمه على شيء لا رجعةً فيه ويجب عليها أن تتوقع أسوى الاحتمالات التي ممكن أن تحدث عندما يعرف حقيقية كل شيء ، فتملك قلبها الخوف من الاستمرار في هذا فأغمضت عينيها واقفلت الصندوق بكف مرتعش من شدة الخوف ، ولكن كان صوت فارس الذي أخترق جسدها من الخلف هو السيف الحاسم الذي ينهي معركة التردد والخوف الذي كانت قد بدأت تسيطر على قرارها

\-- هل هذا الصندوق لأبي ؟

أخرج سؤاله هذا بصوت حزين جداً يعبر عما يعيشه في هذا اللحظات التي قلبت موازين حياته في دقائق معدودات وهو يقف خلفها بجسد خالي من الروح والحياة والدموع تلمع في عينيه، وعندما لم ترد على سؤاله أعاده مره أخرى وبنفس الحزن الشديد الذي يصحبه

\-- هل هذا الصندوق لأبي

عندها لم تستطيع رزان الاختباء منه أكثر وأيقنت بأنه قد فاتها الوقت للتراجع وقد حان الوقت حقاً وليس لديها فرصة للهروب ، فالتفتت إليه ودمعها يناسب على خدها الثلجي وردت عليه بصوت باكي

\-- نعم أنهُ لأباك

لتسقط الدموع المتجمعة في عينيه على وجنتيه السمراء بمشهد تحرق به الأفئدة وهو يجر أقدامه بصعوبة نحوها حتى أصبح أمامها ومن ثم بسط كف يده لها دون أي كلمة وهو ينظر إلى وسط عينيها بنظره لا يوجد لها تفسير آخر أريحينا من هذا العذاب وأعطيني هذا الصندوق لأعرف من أكون ، ويكفيك تلك السنين الماضية التي كنت فيها اللقيط الذي أحستني إليه ،،.. وعندما شاهدت تصرفه هذا ونظرته التي تبوح بما يخفيه من وجع وألم ولوم وعتاب تأكدت بأنها خسرته قبل أن تقول له بأفعالها التي اقترفتها في الماضي فوضعت الصندوق الخشبي على راحة يده وهي تمسح دموعها من على خديها وقالت له

\-- يوجد فيه ساعة أباك وخاتمة ودفتر ملاحظات كان لا يفارق جيبه أبداً ومفتاح كنت قد أخفيته في الصندوق لكي لا أفقده ولا يستطيع أحد الحصول عليه غيرك....واطرقت كلامها بصيغه الآمر خذ المفتاح من الصندوق وساعدني في انزال هذه الدمى من على هذا الحائط بسرعة

سماع فارس لهذا الطلب منها لم يؤثر به إطلاقاً فهو يتوقع كل شيء وحدوث أي شيء من بعد هذه اللحظات وظهور الحقائق المتلاحقة لا تأثر عندما تعلم بأن حياتك كانت مجرد كذبة من أقرب الأشخاص إليك فطاوعها وأخرج المفتاح من الصندوق ووضع الصندوق جانباً على المكتب الخشبي وبدأ في إنزال الدمى معها من على الحائط وبعد الانتهاء من أنزال كل الدمى إلى أرضية الغرفة يتبين له وجود باب خفي كانت تخفيه بمعرض الدمى المسرحية هذه فأبتسم ابتسامة ساخرة من نفسه وتأكد بأنه الأحمق الجاهل في هذه المسرحية الساخرة وبأن هذه الدمى كان لها دور أشرف من دوره المُخزي وقال لها وهو ينظر إليها بسخرية

\-- كنت أظن بأن الأبواب التي تقودك إلى بعد وزمان آخر مجرد خرافه تحدث في الأفلام والمسلسلات ولكن وعلى ما يبدو بأنك وجدتي واحداً لكي أيضاً

وكانت هذه المرة الأولى التي يتكلم معها فارس بهذه الطريقة الساخرة المتجلي فيها قلة الاحترام والتقدير لها ،، شعرت رزان في تلك اللحظة بوخز بسيط في قلبها وشعرت بأن الأرض تريد ابتلاعها ولكن تمالكت نفسها وردت عليه بصوت يبدو عليه التعب

\-- أدخل المفتاح في تلك الفتحة الصغيرة المجاورة للباب وقوم بإدارة المفتاح مرتان لليمين ومرة واحدة لليسار

\-- حسبي الله ونعم الوكيل لقد عشت أفلام النت فلكس في الواقع يا فارس ومن الشخص الذي كنت تعتبره عائلتك الوحيدة في هذه الحياة

أخرج فارس هذه الكلمات بغضب وهو يدخل المفتاح في تلك الفجوة الضيقة وينفذ ما أخبرته أن يفعل وبعد أن أدار المفتاح مرتان لليمين ومرة واحدة لليسار أنفتح الباب من فوره وانسحب إلى اليمين بطريقة ديناميكية ليختفي بين الحائط تاركاً ذاك المشهد الجنوني أمام عينين فارس بشكل لا يصدق وخارج كل توقعاته لتكون هذه الصدمة الأكبر من بين كل الصدمات التي حلت عليه من بداية هذا اليوم المرهق.......

السطر الأخير حيث تعيش القصص. اكتشف الآن