القصر أَم زائره؟

278 96 3
                                    

في المرة الثانية التي سار فيها زَيْن في ممرات القصر، لاحظ أنه هادئ جدًا، وأنه خالٍ تقريبًا من الأحياء، فلا صوت لهم في الممرات ولا خلف الغرف، وهو شيء بديهي، فالساعة قد تجاوزت الثانية صباحًا.
لم ينتبه زَيْن لهدوء القصر حين رآه أول مرة، كان المهم عنده هو إيجاد أي علامة تخبره أين هو.
حاول الغلام جاهدًا أن يحفظ الطُرقات في القصر، لكنها جميعًا متشابهة، وفي كل مرة ينحرف الطريق بهم يمينًا أو يسارًا يفقد مساره، كانت معظم الغُرف والأجنحة بالقصر مغلقة بأقفال، وكل أبوابها فضية اللون، والبعض منها فقط موضوع فوقه علم الجنوب، والحوائط بينها ملونة بلونٍ أبيض متهالك، أما الأرضية فكانت من النوع الحجري، مصنوعة من الحجارة غير المستوية، بل إن بعضها بارز لأعلي والأخر مغروس بقوة لأسفل، وهو ما جعل زَين مضطرًا لمراقبة خطواته واحدة تلو الأخرى كي لا يتعثر، ولو حدث وتعثر ساقطًا علي الأرض لجُرحت رأسه في الأحجار البارزة، ولم تكن لِتكتفي أبدًا بتصفية نصف كمية دمه، إلا أن الأرضية كانت تستوي تحت الأبواب.
حمل سير معه شمعة من شموع غرفته وصَحبه زَيْن لرؤية أَيِا، ورغم أن زَيْن لم يكن مهتمًا برؤيتها أساسًا، لكنه ذهب على أي حال، كان يريد فقط استطلاع القصر، ويفكر : أيستطيع أن يهرب من هنا؟ ولكن حتى إن فعل فكيف يتجه من الجنوب للشمال، وهنالك مشكلة الحدود.
فالحدود بين الممالك الشمالية ومملكة الجنوب متوترة جدًا، كثيرًا، وكليًا، عبور الحدود غير مسموح، لا من الممالك الشمالية للجنوب ولا من الجنوب للممالك الشمالية، إلا في بعض الاستثناءات، كالحكماء مثلًا.
هم ما نسميهم الآن أطباء أو المعلمين، هؤلاء يمكنهم الانتقال من مملكة لأخرى والعيش فيها أيضًا، ففي جزء من القارة يقع في جنوب غربها توجد جزيرة، محاطة بالماء من كل جانب، هذه الجزيرة مُقام عليها قلعة " إيكرير " هي القلب النابض لحكماء القارة كاملة، والمركز الذي يتلقى فيه أي حكيم تعليمه التام.
وهؤلاء المُختارون للتعلم هناك هم قلة قليلة، يضطرون لترك مملكتهم الأصلية منذ الخامسة عشر، وينتقلون إلى قلعة إيكرير ليصبحوا حكماء فيما بعد.
هؤلاءِ الناس النادرو الوجود لا تراهم إلا في القصور أو قُرب الملوك، حتى أن بعض الممالك لا يوجد بها حكيم إيكريري واحد، لذا هم مبجلون بعض الشيء.
جزيرة إيكرير موجودة بمملكة كُلرسا في جنوب غرب القارة، لكنها غير تابعة لها، هي تحت حماية مجلس الكريسيس، ومحمية بسبعة حصون مشيدة ممتدة جذورها تحت الماء، وبها عدد أسلحة كافي لقتل أي جيش يفكر في الهجوم عليها، غير أنه في حالة هجوم أي مملكة على تلك القلعة أو رغبتها في الاستيلاء عليها، فإن ذلك يعني حربًا على المملكة المُهاجِمة من جميع أطراف القارة، أي يحق حينها لأي مملكة أن تهدم الجبال فوق المُهاجِمين دون أن تُسألَ: لماذا؟
كما يُمكن للحُكام عبور الحدود مع حاشياتهم بإذن من الكريسيس وحاكم الدولة المستقبلة في حالة انعقاد الاجتماعات، أو عُهود الصلح، والتي يُفترض أن مجلس الكريسيس يُنظم كل عامٍ واحدًا لكل حُكام ممالك القارة، ليؤكد على السلام ويحل المشكلات، ويلتقي القادة بالسبعين حكيمًا أنفسهم، ولكن لا أحد يحضر، أو عدد قليل فقط كمائة أو مائتين، وأول الممالك التي لم تحضر مجلس الكريسيس منذ عقود هي مملكة الجنوب ووممثلها آراتاك.
طرق سير بابًا فضيًا صغيرًا خلا الفضاء فوقه من العَلم برفق، وكرر فعلته هذه أربع مرات ولم يُجب أحد، حتى طرقه بقوة باستخدام الحلقة الحديدية الموجودة بالباب فهمس صوت من الداخل بما لم يفهمه زَيْن :" نعم، نعم "
وانفتح الباب برفقٍ وكسل، وظهرت أَيِا أمامه، كانت إمرأة في مطلع الثلاثين، أنسدل شعرها الأسود في غير ترتيب، وبدا علي وجهها النحيل ذي العيون السوداء أنها مازالت نائمة، وارتدت عباءة سوداء اللون تناسبت مع لون عينيها والظلام خلفها.
سبق واوضحت لكَ - عزيزي القارئ - أن زَيْن لا يفهم حرفًا مما يقول الجنوبيون، لذا لِتفهمْ أنتَ أن أي حوار بين أي جنوبيَين لا يفهمه زَيْن، وإنما ترجمته أنا لك كي تفهم.
همست أَيِا في الظلام وهي شبه مغمضة عينيها :" ماذا هناك يا سير؟ "
أجاب سير مبتسمًا ومشيرًا للصبي إلى جانبه :" أرأيتِ ضيفنا الجديد؟ "
" وماذا أفعل أنا إذن، لماذا توقظني في منتصف الليل إذا لم يحترق القصر، اذهب ونم" وأغلقت الباب في وجه كليهما.
لام زَيْن في نفسه سير، لم يكن ينبغي أن يوقظها في هذا الوقت فعلًا ويبدو أن الثاني قد فهم، لذا ابتسم قائلًا بلغته :" انتظر "
وكان محقًا، لقد بقيا أمام الباب حوالي خمس دقائق ثم أُضِيئت الغرفة من الداخل، وظهر من فتحة مقبض الباب نور النار يتحرك في جوانب الغرفة، ثم ما هي إلا ثوانِ وفُتح الباب مجددًا، ووقفت نفس أَيِا بردائِها الأسود وشعرها غير المرتب، الفرق الوحيد فيها أنها كانت مبتلة الوجه، وانساب من وجهها قطرات من الماء بللت ملابسها وهمست مجددًا بصوت هادئ :" نعم يا سير؟"
هذه المرة كانت ملاحظتها للصبي إلى جانب سير أسرع، إذ رأته قبل أن يجيب سير، وانحنت لتقابل وجهه ونظرت إليه لثوانٍ فقط ثم ابتسمت وقالت :" ولابد أنكَ هو، ما اسمك؟"
لم يستطع فهم مقصدها، فلم يُجب
وضعت يدها خلف ظهره ودفعته للداخل قائلةً :" تعالْ، تعال "
تحدث سير :" أبقيه عندك، حتى أرى ماذا سيفعل مولاي "
" لن يجيبكَ، فالوقت تأخر "
" سأرى "
أغلقت أَيِا الباب بعدما أدخلت زَيْن، وأشارت إلى السرير إشارةً فهم منها زَيْن أنها تريده أن يجلس، فيما قربت هي كرسيًا إلى جانب طاولة أمامه وجلست على ذلك الكرسي، ثم تكلمت بلغتها :" أنتَ ابن آسر؟"
لم يفهم زَيْن معني السؤال، لكنه خمن أنها تسأله عن والده حين سمع اسمه فأجاب بشيء من الحياء وقلة الفهم :" زَيْن آسر "
اومئت أَيِا بهدوء وابتسامة محاولة فك جو التوتر بينهما ولكنها فشلت تمامًا حين حدثت نفسها قائلة :" بالطبع لا يتحدث نفس اللغة " وتابعت ابتسامتها. وعندما أحس زَيْن بنظراتها إليه ابتسم ابتسامة غريبة ومغفلة في نفس الوقت وظل مبتسمًا لدقيقة تقريبًا حتى أدرك مدى غبائه، وأزال ابتسامته، المسكين يحاول أن يبدو غير خائف.
وإن لاحظت - عزيزي القارئ - فأنا لا أصطنع حركات الصبي ولا مشاعره، هو نفسه يفعل، وسأخبركَ - إن لم تلاحظ - أنه مازال متمسكًا بمحاولاته لإخفاء خوفه وقلقه من المكان والأهل الجُدد.
وقفت أيِا وتحسست بطرف يدها معطف زَيْن، ومع أن شكله يوحي أصلًا بمدى ثقله، إلا أنها أرادت أن يفهم الصبي خطواتها القادمة وتكلمت أيِا بلغتها فيما يسمعها زَيْن كالأبله :" لدي هنا بعض الـ... انتظر .. انتظر، لدي شيء مميز لكَ "
أمسكت بيده تجبره على الوقوف، ثم دفعته برفق بعيدًا عن السرير، وجلست على الأرض بجانبه. وأزالت فرش السرير تمامًا حتى ظهرت مجموعة من الأكياس والأدوات المُتربة تحت السرير، ثم تناولت كيسًا صغيرًا فتحته، لم يكن الكيس يحوي إلا سترة ذات لون رمادي يشبه الفضة بها بعض الخرز البرتقالي، ومعطف أخف بكثير من الذي يرتديه زَيْن، وبنطال واسع وكلاهما أسود، ويبدو على الكيس ومحتوياته كبر السن والقِدم والشكوى من الاستعمال، ثم همست وهي تعرضهم عليه آملةً أن يفهمها :" ستناسبكَ كثيرًا "
وأشارت إلى معطفه، وإلى الشمعة بجانبها، وهي تقصد الحرارة، وقد فهمها زَيْن بدون الإشارة إلى الشمعة، فهز رأسه معترضًا قائلًا :" إنني بخير "
ولكنها أشارت مجددًا إلى الجزء الذائب من الشمعة وهي تقول :" لا، ستمرض هكذا، لا تتحملُ حرارة الجنوب " وبالطبع لم يفهم أي منهما الآخر .
ولحسن الحظ طُرق الباب مرتين سريعتين ثم انفتح، كان سير قد عاد من حيث أتى، وعندما التقت عينه بعيني أيِا قال بينما يغلق الباب :" نائم "
هتفت أيا :" أخبرتك " وتابعت مشيرة لزَيْن أمامها :" تعال هنا، إنكَ تُجيد لغته، أخبره أن ملابسه هذه ستمرضه عندما تتعامد الشمس على القصر "
ألقى سير نظرة سريعة على السرير الغير مرتب واعترض بأدب :" ألا يوجد .. ؟ "
قاطعته :" لا .. لا يوجد "
" لكن مولاي ... "
" سأخبره أنني من طلبت منه هذا "
تحدث سير بلهجته التي داس عليها قِطار قبل أن تخرج من فمه، فيما ترمقه أَيِا بنظراتها وكأنها تراقب خبير اللغة كلها :" أيا تكترح على لك إنَ ترتد أحف مى هذى " مشيرًا إلى معطفه .
" وأنا لا أريد "
" إنَ لك لم تري المصر حي تتئمد السمس على هو، ستمرض "
وأومئت أَيِا مؤيدة لما قاله سير وإن لم تفهمه، وأضافت عليه جمل من لغتها، تبدو وكأنها تحثه على فعل الشيء نفسه، وبصراحة لولا ضغط سير وأَيِا عليه لاحتفظ بالمعطفين اللذان يرتديهما، كان يظن أن والده سيأتي ليأخذه حين تُشرق الشمس، وأنه سيحتاجهما حين يعود لصقيع الشمال.
بدأ زَيْن يفك أزرار كم معطفه الثلاث، كمًا ثم الأخر، وعلق الزر الثالث في الكم الآخر، وكأن الزر يفهم زَيْن أكثر من كلاهما، وأبى أن ينفتح رغم محاولات زَين لفكه، ويبدو أن أيِا استبطأت حركته، فجذبته من معطفه نحوها وبدأت بخُطوات أسرع تفك بقية الأزار وتنزعه عنه، بينما يحاول زَيْن أن يسبقها ويفكهم قبلها ليثبت لها أنه يستطيع القيام بذلك بمفرده.
تركته هو ينزع بنفسه المعطف الثاني، وأمسكت هي بالسترة الخضراء وبدأت تنفض الغبار عنها بقوة، في اتجاه بعيد عن وجه الصبي، وحين وجهت وجهها تجاهه مرة أخرى رأته يخلع قميصًا أسودًا ثقيلًا كان مرتديًا إياه تحت المعطفين.
جذبت أَيِا يد الصبي وثنت كم القميص لتكتشف الأثنين الأخرين وقالت متفاجِأة قليلًا :" لم يخطر ببالي أن الشمال بارد لهذه الدرجة "
حتى زَيْن الذي لا يفهم لغتها، أدركَ أنها تتحدث عن كَم الملابس التي يرتديها فهمس على استحياء :" لو كنت أعرف أنني سأغادر القلعة، لأخذت المعطف الثالث "
ضحك سير مترجمًا الجملة لأَيِا :" يقول لكِ أن هناكَ معطف ثالث ناقص " ولم تُزد ضحكتُه زَيْنَ طمأنينة أبدًا، بل قدمت له دليلًا يُزيد خوفه من سير إلى جانب صورة وجهه بالرداء الأسود المحفورة في ذاكرة زَيْن، إذ لم يكن ما يقوله زَيْن شيئًا مضحكًا أبدًا، وإنما يعني أسبوعًا من الزكام والصداع إن غادر مبنى القلعة بدون المعطف الثالث لفترة طويلة.
تنهدت أَيِا وساعدته على ارتداء الملابس القديمة التي أعطته إياها بعدما نفضت التراب عنها ألف مرة تقريبًا، في كل مرة تنفض الملابس تخرج منها كمية جديدة من التراب، وثنت كم المعطف ثلاث مرات لتُناسب طول ذراعه، وجعلته يحتفظ بقميص أسود متوسط السمك تحت تلك السترة الخضراء.
وهتفت في النهاية :" إنها تناسبكَ فعلًا " ثم تابعت وهي تضم كفي يديها على بعضهما وتمررهما علي أذنها اليسرى :" ألا تريد أن تنام " واكتفى زَيْن بهز رأسه نافيًا.
تحدثت أَيِا وهي تنهض :" حسنًا إذن، سأذهب وأتحدث مع مولاي "
أعترض سير ممسكًا يدها قبل أن تفعل :" كلا لا تفعلي، لن يستقبلكِ، اذهبي، نامي، وغدًا في الصبح تخبرينه ما تشائين "
" هناك ما هو مهم، وما يجب أن أخبره به "
" لن يكون مهمًا ولن يستمع له، أنتِ فقط من ستحصلين علي كمية مضاعفة من السخط "
" حسنٌ، والصبي؟"
" لا بأس، سأبقيه معي حتى يطلع الصباح ، ثم سنرى ما يلي "
لم تُجب أَيِا واكتفت بأن تعطي إيماءة صغيرة وتعود لتجلس إلى سريرها، فيما مد سير يده لزَيْن مشيرًا بأننا سنرحل، فنهض زَيْن وخرجا تاركين أَيِا في غرفتها كما كانت قبلا، التي لوحت بلطف لزَيْن فيما يُغلق سير الباب.
سأل زَيْن وهما عائدان للغرفة التي يضع فيها سير كتبه ويعيش بها أيضًا :" ماذا يحدث؟"
" لاشيي"
لم يسأل زَيْن شيئًا أخرًا ولم يتحدث بعدها كثيرًا، وسرعان ما تولد عنده إحساس بأن أهل القصر كلهم غير طبيعيين، أو غريبو الأطوار، حتى القصر نفسه غريب الأطوار، منذ دخل زَيْن ذلك المكان وهو يشعر بشيء ما، أمر غير طبيعي أبدًا، أشعره بعدم الارتياح للقضصر، بالطبع لا مكان أفضل من قلعة والده، ولكن هذا المكان ليس عاديًا، هناك ما يشبه السحر، هناك قوى غير مألوفة تُحيط بالقصر، ويبدو أن زَيْن هو الحي الوحيد الذي يشعر بها، وإن لم يدرِ.
حين وصلا لتلك الغرفة، طلب سير من زَيْن أن ينتظره حتى يجلب شيئًا يؤكل، وجلس زَيْن على ذلك السرير بعدما نحى الشمع الذائب جانبًا، وأسند رأسه على حافته، وظل يحاول تذكر ما حدث منذ اُختطف إلى ذلك القصر، ويدعو في قرارة نفسه أن
يلاحظ والده غيابه وأن يخمن مكانه، وود لو يعود ليخبر والده عن أمر فكتور، ذلك الخائن لم يكن سوى جاسوس في القلعة، وهو ما زال هناك، يملأ رأس مولاه بكل ما هو خاطئ.
كان الصبي قد وعد نفسه ألا ينام، حتى إن وصلت الساعة الثالثة والنصف صباحًا، هو لم يكن مطمئنًا لأهل هذا المكان، لكنه غفا فى النهاية، وسقطت رأسه شيئًا فشيئًا عن الموضع الذي كانت فيه.

من لا تراهمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن