لا يَدري نولان هل كان حيًا فيما سبق من أيام، أم أنه هو من أُحِرق على الجسر، ولا يتذكر من الذكريات إلا ذكرى واحدة، ومشهد مروع لصرخات متتالية مِمَن ظن أن الألم لا يؤذيه، وأن هموم الدنيا ومصائبها وجِراحها ووحوشها لو تكاتلت عليه ما تأوه حتى، لقد حسب والده -وكأي ابن- هو أقوى امرئ عرفه وأكثرهم تجلدًا وشجاعةً وبأسًا، وأصعبهم نزالًا في ساحة المعركة، لم يحسب أن النار تقتله، فانتقلت أحلام الغلام من أن يصير مثل والده إلى أن يلقاه مرةً أخرى.
وداهمه إحساس بأن والده، وهو هو في قوته وتجلده، قد هُزِم فأُسر فسُجِن فقُتِل حرقًا، على يد من! لوكياس الأصغر منه سنًا وأقل منه خبرة ولا يصلح حتى لحكم بوصة واحدة من الأرض، لشد ما ألحق ذلك المجنون بالشمال، مأ أغاظ زَيْنًا وأكرهه في الجنوب أكثر فأكثر أن كل هذا يحدث للشمال بدون ذنب، كله بسبب جنون مجنون، فاشتد كرهه له يومًا فيومًا.
قبلًا خدر سير ألم زَيْن لساعات قليلة، لما أعطاه قطرات التيدوماتيام، لكنه استيقظ بعدها واضطر أن يواجه حقيقة الموت.
لقد انتهت أسرته هكذا، تخلت عنه أمه لما ماتت، وقُتِل أباه، رباه! يا أمه، ما كان يجب أن ترحل، ذهبت سريعًا قبل أن يلقاها حتى، وقررت أن تترك ولدها لعالمٍ قاسٍ جحود، لماذا لم تأخذه معها؟! لعاشا معًا الآن، ولما وصلت الرسالة آسرًا، وما حدث كل هذا لهم.
حاصرته أفكار تلومه، الذنب ذنب زَيْن، أيعقل أن يكون هو علة وفاتها! هو استلب منها حياتها، وأقنعه عقله بأنه لا يقل مقدار ذنبٍ عن لوكياس، كلاهما قاتلان، زين قتل أمه، ولوكياس قتل آسر.
كم قال آسر هذا الكلام أمام ولده إن غضب عليه، وذكره بيوم مولده المشئوم، وهو على حق، أو بالأحرى كان على حق أثناء حياته، تبًا تبًا لزَيْن، كم كان عنيدًا وسيئًا! كم مرةً خالف تعليمات والده! كم مرة أغضبه منه! هو أيضًا سبب معركة سبتن ماريد، بُعدًا له، بُعدًا له، حتى الممات.
ليت سير غفل فأضاف من جرعة التخدير ما يكفي لتخدير ألمه أطول فأطول فأطول، أو لينهيه بأي وسيلة إن استطاع.
وقد كانت الجرعة أمامه طوال الوقت وإن أراد لشرب، لكن أمرًا ما منعه، شيء يخبره أن حياته أقيم من أن تنتهي هكذا، وأجدر بها تتضمن ما يُذكر به، كوالده، وشيء آخر يتلو عليه المصائب التي سببها، فيُرَغِبه في النهاية.
أمضى زَيْن أيامَ العزاء الشديدة جالسًا فقط على ذات السرير، يراقب بحذر السقف، وأحيانًا شجرة الغوثهام من النافذة، وقدماه منثنيتان إلى ذقنه، يدفن رأسه بينهما كلما ألمته رأسه من تمعن السقف، وكان يحاول جاهًدا أن ينسى ما رأي، ولكن كل الطرق تذكره، وتُسَّمِعه الصرخات من جديد.
فكلما كلمه سير بالجنوبية، صرخ هو وكلم نفسه بالشمالية، فيتذكر، فيحاول أن يجبر نفسه على النسيان، فما يفلح، فيظل يضرب براحة يديه رأسه لينسيه الألم، حتى أصبح معتادًا أن تراه يكرر هذه الحركة بلا سابق إنذار.
ولمَّا أدرك سير الأمرَ صار لا يتحدث أمامه بتاتًا، وهو منعزل لا يسمع صوت أحدٍ غيره، وإذا تدخلت أيا وجربت بدون كلام أن تحسن حالته سد أذنيه، وغير مكانه إلى أبعد طاولة في الجناح عنها.
الكتب ما عادت تغريه كسابق عهدها، لا القصص، ولا شواذ قواعد اللغات، ولا تجارب العلاجات، ولا خرائط المدن، وحتى لير لم يطيقها؛ هي نسخة مكررة من والدها، آخر مرةٍ أحضرت- كما طلبت منها إيا- سلة برتقال، وكتاب عن بحر سورمند بالشمال، اندثرت سلة البرتقال في كامل الجناح، وانتهى المطاف بأن غادرت لير الجناح وهي تهجوه.
ويوم تضيق به الذكرى والتفكير يهبط دون كلام ساددًا أذنيه إلى حديقة القصر الخلفية، تحت الشجرة الكبيرة الملعونة التي يكرهها، يجلس مع الأزهار حولها، ويستكشف أنواعًا جديدة منها لم يعرفها، ويدقق فيها، وأحيانًا يكلمها.
كان يهمس لوردة خشبية اللون سقطت من الشجرة ذات الفروع الملتفة:" من هُنا جَلبتْ هذه، حتمًا لا توجد إلا هنا، أما الأبيض فلا أظنه ينمو هنا"
واعترته رجفة خوف لما أتاه الرد سريعًا:" يوجد ورود بيضاء هنا أيضًا" وانطلقت أيا تجلبها من ركن بين السور والقصر.
لم يُجبها زَيْن وإنما وقف ينتظر بلهفة الوردة التي ستجلبها، فلما جلبتها لم يتعرف عليها، فمشى بخطواتٍ سريعةٍ مغادرًا، وقبل أن يسد أذنيه أتاه صوتها:" لم تعجبك، هناك المزيد"
ولما التفت رأها قد علقت الوردة قرب أذنيها، وثبتتها بشعرها وهي تبحث عن غيرها من الأنواع.
وجدت ما أرادت وأشارت إليهم دون قطفهم، فاقترب زَيْن،الذي تبرم مكانه؛ ليرى الوردة، فلم يتعرفها أيضًا، ومازالت عيناه مثبتتين على الوردة البيضاء المغروسة في الشعر الاسود.
حين لاحظت إيًا هتفت وهي تنزعها من شعرها:" هل تريدها؟"
صاح الصبي بلهجته الشمالية:" كلا، لا تنزعيها"
تبرمت إيا غير الفاهمة، وقررت تقديمها له، فأشار لشعرها قائلا:" ضعيها حيث كانت"
أدركت أيا مقصده فأعادتها لشعرها:" هكذا؟" فاومأ الصبي.
" لماذا؟ هل تعجبك؟"
محتفظًا بلغته أجاب:" رأيت أمي ذات مرة تثبتها هكذا، ربما لو أمكنكِ وضع هذه أيضًا" ورفع يده بالوردة الخشبية إلى شعرها، فانحت المرأة ليثبتها وهي تقول مبتسمة:" مازلت لا أفهمك"
نوت أن تطلب منه الحديث معها بلغتها ثم رجعت، لعلها خافت أن تفتح جِراحًا قديمة، وفضلت أن تسايره فيما يفعل:" هل أُحضر كتابًا للترجمة؟ فأنا لا أفهمك، ولا استطيع هكذا أن أعرف ماذا ترغب."
أومأ لها نولان وهو يشير لها أن تصبر:" سأحضره أنا"
وانطلق يعدو إلى جناح الغوث، يبحث عن ورقة وقلمًا وكتاب ترجمة، بدون أن يكلم لير أو سير الموجودين في الجناح، وكأنها طيفان، ووجد الكتاب القديم، الذي توسط بين سير وزَيْن يومًا منذ عامين، وسحب ورقةً من على الطاولة السابعة، أما الأقلام فلم يخرجها من كتابه منذ يوم مات والده، والكتاب غير موجود حيث تركه، فوضع كتاب الترجمة القديم والأوراق على تلك الطاولة، وراح يبحث عنه في رفوف كتب تراث اللغات حيث يفترض أن سير أرجعه.
وجده، ووجدته الصدمة، لقد عثر على كلا القلمين منكسرين لأنصاف، والحبر قد فارقهما، لقد نسيت لير أمر الأقلام تمامًا، وتركت موضوعهما حينما لم تستطع إيجادهما.
تقدم َزيْن ببطء ناحيتها، حيث وقفت أمام حامل الكتب الأول، وهو يتذكر حوارهما، ورغبتها في أخذ القلمين، وسألها بلغة لم تفهمها وهو رافعٌ القلمين في مستوى بصرها: " أنت فعلت هذا بهم؟"
أجابت لير دون أن تترجم السؤال:" لم أقصد كسرهما يا نولان، إني أسفة على ما فعلت، ولك عندي... آآآآه"
في تانية، التقط نولان شعرها المصفف في ضفيرة، وسحبها من ضفيرتها لأسفل، وانصاعت لير لتخفف الالم عن رأسها.
ترك نولان ذيل الضفيرة، ووجدت يده طبقة شعرها التى تحمي فصا دماغها الجداريان، وظل يطوح رأسها بيده المغروسة في رأسها وهو يصرخ:" لِماذا؟! لماذا هذا اللؤم وتلك الضغينة؟! ماذا فعلت لك أنا يا شريرة! " وبينما يردد كلمات مثل بلهاء، حمقاء، كارهة للخير، استمرت هي بضرب يده بكل قوتها، والضغط على أصابعه في تجاهٍ يكسرهم.
فور اشتعل الشجار، تدخل العجور الحكيم ليفضه، ويحاول تارةً أن يضغط على يد زَيْن؛ ليفلت شعرها، أو يبعد لير؛ كي لا تضربه، ونجح وانفلتت يد نولان محملةً بخصلاتٍ غير هينة من شعر لير، وإذ بيده الأخرى تتدخل.
أبعد سير يد الفتاة الصارخة، وكفها عن تقطيع يد الولد بأظافرها، وضغط بأكبر ما استطاع على يد نولان، وهو ممسك بيده الأخرى؛ كي لا يُخدع من جديد، وأجبره على خلع يده، محملةً وملتفة بشعر لير المقطوع.
دفع الحكيم لير؛ لتبتعد عن نولان، وظل ممسكًا بيده متراجعًا به للخلف كيلا يعاود الشجار، ولولا حيلولة سير بينهما لعوضت لير ما قل من شعرها بشعر الصبي.
صرخت لير ودمها يغلي حرقةً على شعرها وهي تلوح بسبابتها مهددة:" لا تحسبن الموضوع انتهي" وخرجت وهي تدعو أن لا يَهنأ بقلمٍ أو حياة، بينما يُمطرها نولان ببقايا أقلامه المكسورة.
سحب نولان ذراعه من يد سير ، ثم أخذ الكتاب والأوراق من حيث تركهما وقبل أن يتوجه إلى لير التي غادرت سحب سير ذراعه:" رويدك، إلى أين؟"
شد زَيْن ذراعه فجأة، فانفلتت من كَفِ سير، وانطلق يلحق بالفتاة وهو ينوي أن يأتي بقصاصِ أقلامه.
بحث الغلام عنها في الطابق، فاكتشف في النهاية أنها اختفت، أو صعدت إلى غرفتها، أو إلى والدها، ولَمَّا يئِسَ من إيجادها، هبط إلى الحديقة الخلفية بحثًا عن أَيِا.
وقد اختفت أَيِا أيضًا، واستبطأت قدومه، فصعدت هي إليه في جناح الغوث، لعلها لم تجده هناك أيضًا.
رمى نولان الكتاب جانبه على الأرض ومعه الأوراق، وجلسَ أسفل الشجرة العملاقة، وظهره مستند إلى ساقها، وهدأ برهة ثم جلس يفكر فيما فعل.
لنولاق الحق فيما فعل، أما يكفي أن قتلوا والده، حتى آخر ذكرى جميلة منه تريد ابنة القاتل أن تنهيها، هي مخطئة.
وهو مخطئ، ما كان ينبغي أن يؤذيها حتى إن أذته.
كلا كلا، إن لم ترد الأذية بمثلها فستفسد الأرض، ولن تؤتى الحقوق إلى أصحابها، ولقتل كل امرئ أخاه دون خوفٍ من الحساب.
مهلًا! ما هذا؟ ما طريقة التبرير تلك؟ هل يتحجج زَيْن ليعطي لنفسه حجةً لِمَا فعل!
الحقيقة أن كلُ شيء تراكمَ، تراكمت عليه الهموم، والأذية، حتى المشاعر، كان زَيْن يُرحِل كل ما لا يستطيع مواجهته إلى غد، أجَّلَ هروبه، وأجَّل انتقامه من لوكياس، وأجَّل كرهه للير، ومواجهة سير بكذبه، وزيارة والده، أجَّل زَيْن الكره والحب والانتقام والحزن والبغضاء والسعادة وكل شعور شعر به تقريبًا، أجلها ليومِ يعود إلى بيته، فلا واجه ما يحب، ولا واجه ما يخاف ولا عاد لمنزله.
اختلطت كل مشاعره معًا، وباتَ لا يُفرق بين من يجب أن يحبه ومن يجب أن يكرهه، كان قبلًا مضطرًا لإخفاء سعادته عن أشخاص معينين، أو إخفاء حزنه عن آخرين، ومعاملة كل منهم بطريفة لا تشبه الآخر، فصار كل حبة رمل في الجنوب يكرهها، حتى الشمال صار يخاف من العودة إليه بعدما كان سببًا في هزيمته، حتى أمه - حبيبته دون أن يراها - لامها على موتها، كما يلوم نفسه على حياته.
هكذا استندت رأسه إلى الشجرة مغمضًا عينه، محاولًا تذكر أي شيء غير صرخات والده.
مُنذ قتل لوكياس زَيْنًا يوم المعركة وأحلامه المخيفة توقفت، والرجل المخيف ذو الملابس الممزقة وبقايا خصلات الشعر الأبيض توقف عن زيارته كل ليلة، اتضح أنه قرر أن يزوره في العِلم لا الحِلم.
ظهر الرجل للمرة الأولى منذ أكثر من شهر، بهيئته المرعبة، وصورته واضحة تمامًا، هو جثة متحركة حرفيًا، جثة ميتة دبت ببها الحركة، لترعب حياة نولان.
كان يمشي على العشب دون أن يدوسه، ويتحرك دون صوت، رغم نعله الثقيل، ووقف أمام زَيْن الذي جمده الرعب فانكمش على نفسه ضاغطًا الشجرة بجسده، حتى كاد يخترق سطحها، وعينه مثبتة على عيني الرجل الميتة.
تكلم بنفس صوته الغليظ:" عاد السيد" أي كورال آ
خرجت كلمات متقطعة من بين شفاه الغلام المرتجفة:" أأأأ... أي قائد؟ "
" النار"
" ما.... بـببـ..ـبها؟"
" الجيش ينتظر"
" مـ...ـن؟ "
" النار"
لم يفهم منه زَيْن مقصد أي كلمة، فقررأن السكوتَ خيرٌ من أن يجادله، وهو لا يعرفه، لعل هذا يعجل برحيله.
سأل الرجل راكعًا:" أي أوامر؟ "
" كلا... كلا... كلا...." ظل يُكررها برعب، ولدهشته رأه يسير إلى خارج القصر مخترقًا السور.
تجمد الغلام في مكانه، تأبي قدماه النهوضَ، والخوف يعتريه من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، حتى الصراخ رفضه لسانُه، ما باليد إلا الارتعاش.
أتاه صوتٌ طفولي من جانبه" نولان، لم أركَ منذ مدة"
ارتجف زَيْن حين لمست يدُ فورتس كتفَه، وراقبه لثانيةٍ دون كلام، ثم همس بصوتٍ قضمه الخوف بعدما رفع وجهه ليقابل الاصغر:" فو..رتس!
تعجب الصبي من وجه رفيقه الشاحب:" ماذا بك؟"
" لا ... شيء"
" تبدو متوترًا؟"
" هل رأأأيتَ ما رأأأأيت؟"
" ماذا رأيت؟ رأيتك تكلمُ الشجرة"
" هل ردت عليَّ؟"
رمقة فورتس بنظرة متوترة:" لا أعرف" ثم رفع رأسه إليها قائلًا:" هل سمعتها تجيب؟"
" نعم، لكن ليسسسست الشجررررة"
ابتعد فورتس عنه :" إنك تخيفني"
" أنا أيضًا خائف"
نصحَ فورتس الصغيرُ بلهجة الناصح:" كُف عن ذلك، صار الصبية يخافون منك، وديڨيكاتور يقول أنك ساحر.....ولا يجب أن أحدثك"
يقينًا؟
يقينًا، هل أنت ساحر؟"
قام نولان من مكانه، وترك صديقه وحده تحت الشجرة متسائلًا، وهو يردد الإجابة في نفسه:" لا أعرف"
توقف زَيْن وهو في طريقه إلى الجناح عند مجموعة من أهل القصر في ساحته، قد أشعلوا نارًا تحت دلوٍ كبيرةٍ يَصهرون فيها قطع نحاسية كالأواني والأباريق وغيرها من الأدوات المعدنية التي أرهقها الزمن، كان جسده كله يرتعش من الرعب والبرد، مع أن الطقس ليس باردًا وأيام الشتاء لم تأتِ بعد، وعينه مثبتة على شعلات النار المتراقصة تحت قدرِ النحاس الكبير متحملِ الحرارة، يلتمسُ أي دفء.
مرَّ من خلف صاهري النحاس شابٌ عشريني، جميل الهيئة، حسن المظهر، إذا تغاضينا عن التراب الذي كسا عباءته ووجه، واجتاح شعره الطويل البني، وعينيه المشبعة بالطين.
عبر من خلفهم، وبعضهم ينظر في اتجاهه، وكأنهم لا يرونه، فوقف، ثم خلع قبعته وانحنى بها بلطف، وأكمل سيره إلى داخل القصر.
بقى نولان ربع ساعةٍ يُحدق في المكان الذي اختفى عنده الرجل، وساد وجهه الهلعُ أكثر وأكثر، جسده مازال يرتعش، مع أن النار تكاد تُلامس ملابسه التي صارت مكويةً وهو يرتديها، ما راعه إلا أيا تناديه وهي تبدو كهائمة الوجه:" نولان! أين كنتْ؟"
استفسرت الملكة لما أحست من نولان الشرود:" هناك ما يقلقك؟"
همس زين :" لا" بالشمالية.
" هل مرضت؟" فلم يجبها.
تكلمت وهي تتحس جبهته تارةً وصدر قميصه تارة:" إنك تتجمد! والقميص يحترق!"
سحبته أيا من يده يرفق ناصحةً:" تعال، تعال إلى سير"
" لللااا" مثبتًا قدميه في الأرض كيلا يتحرك.
جرته مجددًا:" سأسأله عن شيء يخصني، وسنعود لهنا"
" اذهبي أنتِ" لكنها لم تفهمه فظلت تشده خلفها.
طرقت أَيِا باب الحكيم، ثم فتحت لما أُذِنَ لها، ودفعت بنولان أولاً إلى الداخل وهي تشرح:" سير، جسده يتجمد، وجدته يطلب الدفىء من نار الحدادين، لا تقنعني أن النار رفضت طلبه"
رمقها نولان بنظرات سخطٍ ساخطةٍ:" قلتِ أنه أمر بشأنك! حتى أنت! " فيما لم يفهمه أحد.
صك سير أسنانه، وتنهد يصف الموقف لأيا:" هذه ليست الأولى يا مولاتي"
" ماذا تقصد؟ تتركه هكذا"
" ما باليد حيلة"
" هل تعترف أنك فشلت في علاج ولدٍ في العاشرة! "
" كلا ليس كذلك"
" إذن؟"
" حالته فقط... ربما.. مختلفة"
" للحد الذي أَعجزَ حكيمَ قصر الغوثهام؟"
" اهدئي، اهدئي، حسنٌ، أُقُر أني شخصتْ إصابته بطريقة فاشلة، وأخشى أن أُعيد الكَرة"
" لذا فخوفك من فشلكَ يدفعك للاستغناء عنه"
تنهد سير مستسلمًا:" مولاتي..... لا بأس، لا بأس، هلا تركتنا لوحدنا"
" وبعد؟"
" لا أدري"
" وبعد أمُل أن يتحسن"
فرد يده وهو يشير للولد ساخطًا:" آمل أن يعيش، بِهكذا حال!"
ركعت أيِا أمام نولان حتى تصل لطوله لتطمئنه:" اتركك هنا" وانصرفت
ناده سير ليقترب من طاولته:" هلمَ" فلم ينفذ نولان الأمر.
نهض سير من مقعده وتوجه ناحيته، وقاده برفق إلى ذلك المقعد، وأجلسه عليه ثم وقف أمامه يتكلم بنبرة هؤلاء الحكماء:" لنتكلم كحكيمٍ لمريضه، ولا تخفي عني أرجوك، ما بِك؟ هل تؤلمك أسنانك أو معدتك فلا تأكل؟ وماذا عن رأسك؟ فسر لي لماذا تتحدث الشمالية؟ أُدركُ أنها لُغتكَ الأم، لكني لا أفهمك"
سكت نولان، فأعاد سير سؤاله:" ألن تخبرني؟"
حدثه نولان باللغة الرسمية للجنوب:" حتى وإن كنت حكيما وأنا مريضك، لم أكن لأخبرك"
" لا ضغينة، دعك من الحكيم، اعتبرني صديقك وخبـر..."
" صاروا يخافون، لن يستمع منهم أحد"
" إني بعمر والدكِ بل ربما أكبـ..."
" لا لست كذلك، ولا تُقارن نفسكَ بأبي"
سكت سير برهة ثم تابع محتفظًا بهدوئه:" إنك تحب سيكتور، أليس كذلك؟ إني لست من نفس بلاده، لكني صديقه، واثقٌ أنه لو اضطرَ لاستأمنني عليك"
" لا شيء، إني بخير"
" عجيبٌ أنك لا تحب الكذبَ وتكذب"
رفع الغلام طرفه إليه وقال بحياءٍ:" أشعر بالدوار من حين لآخر فقط"
زفر سير يائسًا، وتفحصه بعينه لبضع ثوانٍ وفجأة تركه وخرج لبرهة.
من الطابق الثاني للرابع صعد سير، حيث يوجد الجناح الملكي، وحيث يوجد مجنون القصر - كما غيَّر نولان اسمه دون أن يعرف أحد - في آخر رواق الطابق.
صدرت طرقات الباب الثلاثة من تحت العلم المعلق فوق الباب، ثم دخل العجوز، وكان لوكياس قد أعفاه من الانحناء لكبر سنه ووقاره بعلمه، لذا لما دخل سلم عليه :"حُييت يا مولاي" ثم اتخذ مقعدًا أمامه وشرع في حديثه:" مولاي، إني وطوال حياتي بالكاد لم يتجاوز المرضى الذين لم أعالجهم الثلاثة، هم ثلاثةٌ أعدُهم على يديَّ وأتذكر كل فرد منهم، فشلُ سير في علاج مريض هو خطب جلل، وإني لأُحاسب وألومُ نفسي كل ثانية على هؤلاء "
بامتنان أجاب:" دُمت لنا يا حكيم القصر، وجميلك فوق رؤوسنا جمعى"
" مات الثلاثة على غفلة مني، ومازلت أحمل ذنبهم، فلا تُجبرني أن أشاهد مريضًا يموت مني ويدي مكتوفة"
" أنا؟!"
" نولان، نولان يامولاي، الغلام ترتفع حرارته وتهبط كلما شاءت بغيرِ نظام، ولا يأكل حتى التصقت عظامه بجلده، وأصبح غريب الطبع شارد الذهن"
استنكر عليه الملك قلة علمه:" وماذا تريد منه أن يكون بعد ما حدث؟!"
" حدِثْه يا مولاي، كَلِمْه، لعله يستجيب"
رد عليه باستغراب:" وفيم؟ هل أُعزيه في موت والده؟!"
" ليس لدي علاج لمثل هذا يا مولاي، كيف تُقنع طفلًا أن يتمسك بالحياة بعدما قُتِلتْ عائلته؟! ولن أستطيعَ تركه، ليس بعد هذه السنوات الطِوال من العمل كمعالجٍ أُسجل في دفتري أن صبيًا صغيرًا فشلَ سير في علاجه، لأنه رفضَ العلاج"
" هل ضغطتْ عليكَ أيِا فأتيت تضغطُ عليَّ؟! أليس يكفيني ضغطها عليَّ! فتأتي أنتَ وتُشاركها دق المسمارِ في رأسي"
" إنني لا أطلب إلا قليلًا من التودد إليه، وأنت - لو نسيتَ - أخرُ من تبقي له"
" لديه أهل والده"
" حقًا؟! عن إذنك يا مولاي" استأذن وخرج دون أن يلطم الباب خلفه، على عكس أَيِا كلما جاءت إليه تكلمه في ذات الأمر.
في الواقع، لقد صارت لعنةُ آسر تُطارد لوكياس منذ آخر ظهور له، فلا يتحدث أحد إلا عمَّا فعل، أو أسباب ما فعل، أو ما ترتب على ما فعل، وصار الجميع ينبش الماضي ليعرف، وهو شيء يكرهه آراتاك.
مازال يذكرُ النار التي حاولت بلعه، واندفاعَها خلفه تاركةً السور، في رغبة واضحة لإذاقته ما أذاقَ غيره.
حتى أَيِا أصبحت تؤنبه كلما رأته، وتنبشُ له ماضيها، وماضي من سبقه على العرش، وماضي آسر وأجداده، وماضي أي امرئ يصادفها في الكلام، وكان من حديثها حين اجتمعا في غرفتها الصغيرة:" صرِتَ بعد الآن وصيًا، وحَقُه يُنزعُ من رقبتك" بضع كلماتٍ نبهت لوكياس لشيء نسيه.
استغرق ترتيب الكلمات، وتنظيمها، وتجميعها من لوكياس يومين، بعد طلب سير وإلحاح أيا تحججًا بأي صِلة قرابة بينهما، ولربما كان خائفًا أكثرَ من نولان حين رأه، دفعه موقفه إلى التساؤل: كيف كان حال أخته وهي تواسيه؟!
سأل عنه مع مغيب الشمس فلم يجده عند سير، وأخبره الحكيم أنه غالبًا في الحديقة الخلفية، وقبل أن يفترقا ناداه :" هو يكره الجنوبية حاليًا يا مولاي، أتمنى أن تخاطبه بلغته" وفي وجه نظرةُ افتخارٍ ممزوجة بالامتنان.
صح كلام سير، حين انعطف لوكياس حول القصر، استطاع سماعَ صوتِ خطواتِ الصبي فوق كتلة خشبٍ محدبة، فعرف أنه قريب من جذور الشجرة، أخذ نفسًا، ثم برز من وراء الحجارة المصفوفة فجأة.
ارتجف نولان لَمَّا رأه، لم يعرف لوكياس أن عينيهما ستتلاقى فجأة مع ظهوره؛ إذ جلس الغلامُ قرب الشجرة ووجه ناحية الممر إلى الساحة الأمامية، وظهره مُستنِد على أخشاب الغوثهام.
ظل كلاهما يراقب الآخر بصمتٍ، ووجهٍ جامدٍ خالٍ من التعبير، يخشى كلاهما أن يبدأ الحديث، إلى أن كسر الرجل الثلاثيني الأشقر السكون وأوشك أن يفتح فمه، فصرخ زَيْن بأعلى ما استطاع واضعًا يده على أُذنه:" كلااا، كلااااا"، وبينما عاد لوكياس لسكونه لم يفعل زين.
غيَّر لوكياس إعدادات اللغة عنده، وقال بصوت يعلو على صوت زَيْن:" حدثني بالشمالية إن كنت تود" أعتقد أن نولان لم يود.
" نولا.."
" كلا، كلا، لا حديثَ بيننا، كلا"
" ماذا إن كان حديثي مهمًا؟"
" حديثكَ ليس مهم، لم يعد كذلك، ولا حديث بيننا، لا حديث بيننا"
سكت الرجل للحظةٍ نكسَ فيها وجهه، ثم رفع رأسه إليه وراح يسيرُ بخطواتٍ بطيئة تجاه زَيْن، الذي نهض من مكانه بسرعة فقطع المسافة بينهما ومر من أمام لوكياس تاركًا الحديقة كلها له، لولا إسراع لوكياس في الإمساك به قبل أن يبتعد عنه، لفشِلَ الموقفُ كله.
طوق لوكياسُ نولانَ تحت ذراعه، ومشى به، والصبي يدفعه ويزيل يده بكل ما أُوتي من قوةٍ، إلى تلك الشجرة، وجلس مُرغِمًا نولان على تكرار ما فعل، وهو يلين له في الحديث.
" منذ فترة لم نتحدث"
" هلا ابتعدت عني" صاح بها نولان وهو يرفع ساعد ابن أوكتان الملفوفة حول عنقه، ويحاول الابتعاد عن صدره، وكلما حاول ضغط عليه لوكياس أكثر بساعده.
" أُمكَ، ماذا تعرف عنها؟ "
" لا شأن لك بأمي، أما كفاكَ أن قتلت أبي"
" أعلم أنها... تُوفيت"
" أخر ما أود الحديث معكَ عنه هو أُسرتي، إياك عني يا مخبول"
ادعى الرجل الطرش عن الكلمات الأخيرة:" هل تعرف ما اسمها؟"
" وما شأنك؟! ما شأأأأننننك؟!"
" أُريد التعرف عليها فقط، إني أؤمن أنها كانت عظيمة في حياتها"
" كانت أميرةً شمالية عالية القدر، لا أشكُ أنها كانت أسمى منك"
ردد لوكياس مصدومًا: " أميرة! وشمالية! هل خبَّرك والدك هذا؟ ما اسم أمك يا فتى؟ أشكُ، إنك لا تعرف"
" لا تذكر أبي على لسانك، هو خيرٌ منك ألف مرة"
" ما اسم أمك؟"
" لوسي، ولا شأن لك بها"
عابه الرجل بسخرية:" لوسي! لوسي! ياله من اسم مناسبٌ لشخص لا ينطق لسانه الحروف صحيحةً، لربما لم يتحمل لسان والدك الاسم فقطعَه"
ثم قرب يده اليمنى من اليسري المُطوِقة زَينًا، وضرب كفًا على كف قائلا بحسرة:" ما أعجبه! إن لم يقدر على الإفصاح باسمها كاملًا، كيف يستطيع مثله أن يقدرها ويحميها؟! "
وتابع بعدما سكت لقليلٍ من الزمن:" لوسِيريلا، اسمها لوسيريلا، وليست أميرة شمالية كما كذ.... قال والدك"
بتشكك سأله:" وما أدراكَ أنتَ؟"
" إني أحفظ اسمها وتاريخها عن ظهر قلب"
دفعه نولان بقوة بعيدًا عنه هذه المرة حتى تملص منه صائحًا:" وما أدراك أنت؟"
جذبه الرجل مجددًا ليقترب منه، وبدأ يتلو نصًا يحفظه قلبه:" لوسِيريلا ابنة أوكتان بن سيكليونوف، وقد كانت- كما لم يخبركَ والدك - قبل زواجها، ملكة على مملكة الجنوب أثناء حرب الانتكاس، وكما صِرت تدري، أُختي الكُبرى"
أنت تقرأ
من لا تراهم
Fantasíaعزيزي القارئ، قبل أن تبدأ في أي شيء أو تقرأ حرفًا قادمًا عليّ أن أحذرك: ستلغي معي كل قواعد العالم والمنطق التي قضيت سنينك الخمسمائة في تعلمها، فهنا يوجد منطق آخر. إن كنت تعتقد أن هناك حقائق مؤكدة في هذا العالم فأرحل فورًا، هناك حقيقة واحدة في كل ال...