سهمٌ

105 28 16
                                    

منذُ ذلك اليومِ تصالحَ نولان مع سير، وحَسبه صديقًا ندِمَ على ما فعل، وظن وهمًا أن ما فعلَه سير هو مخاطرة كبيرة بحياته لأجلِ نولان، فأصبح يُقدرُه أكثر، ونسي الخلافَ بينهما.
أما لوكياس فما استطاع تأديبَ آسر على فعلته، ولا شنَ هجوم أو حتى إرسال رسالة تهديد، نظرًا للمعاهدة السابقة التي بين سابقه وآسر، وبات يَغلي بصمتٍ منتظرًا فرصة تسنحُ له، ويتمنى في قرارةِ نفسه كل ليلة أن يتهور نظيره ويسير إلى أنلينيو، أو يؤذي جنديًا واحدًا  من جنود الحدود، أو حتى رسالة تحذير بسيطة يستغلها كحجة لبدءِ الاشتباك.
واعتمد في أيامه التالية مبدأ أمسك أعصابك كي لا يُمسكوا برأسك، واختار عدم إشعال النار بنفسه، ليترك المجال لعدوه أن يفعل، فآسر خلفه مجلس الكريسيس، والمجلس خلفه خمسمائة وتسع وتسعون مملكة، أما لوكياس فلا أحد يقف ليسانده سوى جيشه، وكيف يكون جيشه أمام الجيوش المجتمعة لتلك الممالك الساعية لرضا مجلس الكريسيس؟!
في محاولةٍ لتسهيل الطريق على آسر أعلن صاحبنا -صاحبي أنا يا عزيزي القارئ، ما أدراكَ أنت عن لوكياس- أنه سينقُلُ في القريب العاجلِ مقرَ حكمه من قصر الغوثهام لمدينة فايمس المعروفة بالاضطرابات منذ المجاعة التي حدثت بها، واحتج بأن المدينة بحاجة إلى الضبط، وقد قَصَرَ التجهيزَ لهذا الحدث على تخزين الطعام والأسلحة في عربات متوقفة في ساحة القصر، وأرسل إلى والي فايمس يُنبِأه بحضوره، ومع ذلك لم يُهاجر لا هو ولا أهل القصر إلى هناك، فقد كان خبر الانتقال ظاهريًا فقط.
لاحظ نولان في تلك الفترة مدى انشغال لوكياس، وكَثُرتْ اجتماعاتُه بقواده، وصار لا يراه إلا قليلًا، وهو أفضل لكليهما؛ فزَيْنٌ لا يطيق أذية لوكياس التي لا تتوقف، والتي لسبب ما تضاعفت منذ يوم تزوج.
كما لم يصعب عليه ملاحظة استقبال القصر لكميات دقيقٍ وخضراوات أكثر من قبل، وهذه الكميات تُخزن في ساحته دون استعمال، وشاع في القصر أن الملك مغادرٌ إلى فايمس، وأنه قرر نقل مقر الحكم إلى فايمس، وسيبيت في قصر الحكمة - وهو المكان الذي يعيش به الولي على المدينة- حتى تستتب له الأمور فيها.
في كل ليلةٍ وتحت ستار الظلام يتسلل عدد من الرجال المسلحين للقصر، وتأتي من جميع المدن عرباتٌ كبيرة الحجم مملوءة بما لم يتبينه نولان، هل الانتقال من مسكن لمسكن يلزمه كلُ هذا؟!
وصلت أخبار جهز لها مستقبلُها طبقًا من ذهب، هل جربتَ الجوع؟ وهل جربتَ الشبع بعد الجوع؟ هل سبق وجهزتَ طبقًا مميزًا وملعقةً فريدة لوجبةٍ مُنتظرَة؟ ها قد أتت الوجبة بقدمها تزحف إلى لوكياس، شرع آسر يسافر بجيشه نحو الجنوب، وهو يحسب الأمر خفيًا، لا علمَ له بأن اليوم الذي خرج فيه من قلعته بالشمال خرج فيه نظيره من قلعته بالجنوب.
صباحَ ذلك اليوم دعتْ أيا نولان لغرفتها، كانت قد جهزت له مأمورةً شيىًا مميزًا، وعرضت عليه معطفيه اللذين تركهما أمانةً عندها يوم جاء للقصر قسرًا.
قالت وهي تنفضُ الغُبارَ عنهما:" كنت خائفًا يومها أن يُصيبهم سوء"
صاح نولان باسمًا :" لن أجد صناعةً أفضل في الجنوب كله "
ضحكت أيا :" صدقت، ألا ترتديهم؟ "
أعترض بينما يدفع يده لتخرج من الجهة الأخرى لكم المعطف" لا أظنهم....."
لا يستطيع أن يشكو من قِصرِ طول أحدهما، فهما أحسن حالًا مقارنةً مع سترته الفضية التي تكاد ترجوه وترجو سابقه أن يرحم ضعفها ويُعتقها.
هتفت أيا باستمتاع:" أنت تزداد طولًا فقط! عامين آخرين وستصبح كعودِ القصب"
ضايقه حديثها فاردف:" لير تظن نفسها برجًا أو عودَ قصب، لا تفتئ تُذكرني أني أقصر منها... ببوصة، أو اثنتين" وزاد كلمتيه في أخر الجملة حين أحس استهزاء أيا بمشاكله.
ما ضاق نولان من معايرة لير، أو وصفه بعود القصب، والحق يُقال، أنا أدرى به وأُخبركَ أنه شديد النُحل، وإنما ضاق من احتمال أن يبقى بالقصر عامين آخرين، وتمنى أن تحدث أعجوبة تنتشله من قصر الشجرة الخشبية الرمادي العتيق، وتلك الأعجوبة المنتظرَة منتظرَته.
طرقاتٌ قاسية على البابِ غيرتْ جو الوفاق بينهما، وحولت تعابير أيا الباسمة لخوفٍ وقلقٍ وأربكتها، فانتفض المرأة من مكانها فزعة لما استقبلت أذناها صوت الباب، ونظرت بعينين بائستين لنولان الذي ضحك عندما أفزعها الباب.
قالت أيا بهمس متبدلةً ضحكاتُها للجدية : "نولان!"
" نعم؟ "
"اختبأ " صدر الأمر جادًا وكأنه أمر فيه حياةٌ أو موت.
" لِم؟ "
" في أي مكان يا نولان، عدني أن لا تخرج إلى نهاية اليوم فقط "
" لن أعدكِ بشيء دون أن أعرف " ثم تابع زافرًا بحزن :" الغموض لا يليق بقصر الغوثهام "
" والحقيقة لا تليق بقلعة سورمند، هلا وعدت فقط؟ "
انتفضت أيا لما سمعت إعادة طرقات الباب، وتوتر وجهها من جديد، ثم مالت على نولان همست بخوف :" نولان، اختبأ فضلًا " ودفعت به داخل أحد الخزائن مرتبكًا ثم فتحت الباب دونما ملاحظة سكونه أمام الخزانة خائفًا من خوف أيا. 
وأتى نولانَ صوتٌ غليظ يصيح :" الغلام؟"
ردت أيا :" أتي حارس قبلك وأخذه"
" لا ترهقينا رجاءً سيدة آراتاك "
" اذهب وأسأل الحراس بالأسفل، هو معهم ولا ترهقني أنا رجاءً " ثم حاولت غلق الباب، فأمسكه حارسٌ آخر، ودفعه بقوة كي لا ينغلق مقاومًا مقاومة أيا، حتى تخلت أيا عنه، ودخل الرجلان.
أمسك أحدهما بأيا فيما التقف الآخر يد نولان وجره خلفه والصبي مدهوش، فأخرجت أيا خنجرها وحاولت إصابة الممسك بها، الذي دفع الخنجر من يدها بعيدًا عن وجهه واصطدم بغير قصدٍ من الحارس بمعصمها، فصرخت.
دفع نولان يد ممسكه ليبتعد عنه وسحب يده منه وصاح:" ماذا فعلت! "
صرخت أيا وهي تتملص من يدي ممسكها :" نولان!"
جذبه الحارس من يده وزاد حدة ضغطه عليها، وشده ناحية الباب، فثبت نولان مكانه وقال ليسمعه الحارس :" سأنزع المعطف فقط، أصبر"
زجره الحارس :" مولاي يريدك به "
" ولماذا يهتم مولاك بما ألبسُ! "
سحب الحارس يده يده مجددًا :" أمشِ " وغادر ثلاثتهم بينما تمطر المرأة الرجلين وسيدهما بوابلٍ من الاتهامات بعدم الرحمة.
الطريقة التي اقتاد بها الحارسان نولان أشعرته بأن هناك ما يخفى عليه، وتصرفات أيا وكلماتها المريبة أكدت ذلك، وهو لا يفهم حتى الآن لِم كل هذا، عادةً ما يرسل لوكياس لير لتجلب الغلام إليه إذا أراد أن يعاقبه.
نزل الحارسان به إلى الساحة حيث عمت الضجة، وأُجبر على الوقوف أمام لوكياس الذي ظهر على وجهه التوتر، فقال نولان لما لمحه :" أيا جُرحت " وأشار للحارس الذي أمسك بأيا قائلًا :" هو جرحها "
صرخ لوكياس مزمجرًا :" ألم أمرك الأ تؤذها! "
أجاب الرجل بطريقة رسمية :" لم أقصد أذيتها، هي قاومت حركتنا، سيدي "
" سأحاسبك فيما بعد" وأشار للرجل الثاني:" خذ الولد من هنا "
صرخ نولان محاولًا التملص من يد ممسكه:" إلى أين؟"
قاده الحارس وهو يمسك بكلتا يديه ويكاد يجره من الأرض متحملًا ضرباته إلى منطقة من الساحة هادئة، وجره حتى التقط حبلًا ولف يديه به خلف ظهره، ثم أحكم فمه وأعمى عينيه.
ما لا يدريه الكثيرُ، ولا يعلمه إلا جنود قلة أن مقر الحكم لن يتزحزح، والملك لن يذهب لفايمس، وإنما هم متجهون للحدود، هناك حيث يتقدم الجيش الشمالي تجاه الجنوب، وما خطة نقل المقر إلا ألعوبة تشتت الشمال، لقد صاغ لوكياس الخاتم بنفسه ليناسب أصبعه.
لما أحس الملك الجنوبي الغدر قرر أن يَغدر قبل أن يُغدر، وأعطى آسر سببا يؤكد شكوك الأكبر السابقة:  رسالة ولده، إذ حاول آسر إقناع مجلس الحكماء أن ينتقم لأهل بيته، ورفض المجلس دون دليل، وقد منحه آراتاك الآن ذاك الدليل.
ظن لوكياس أن آسر سيعرض الورقة على المجلس فيسمحون له بالغزو، وخطط لصد ذلك الغزو جيدًا، ما غاب عنه أن المجلسَ أعترض على ما أراد سارمدان؛ بحجة أنها مكيدة للفتك بالشمال، لكن آسر صدق عينيه اللتين تعرفتا على خط ولده، فخسر حماية المجلس.
بعد قدوم رسالة فيكتور التي أنذرت بتحرك الجيش الشمالي من مقره، تأخر جيش الجنوب -في طريق الذهاب- متعمدًا؛ وترك الفرصة لآسر ليعبر من أقصى الشمال لحدود الجنوب، بل وأرسل الملك الجنوبي لحراس الحدود على الجبهة الشمالية يأمرهم بأن لا يستميتوا في الدفاع عن الحدود حين يعبرها الشماليون، وإن يبدوا مقاومة ضعيفة دون صرعى من طرفهم، ثم ينحسبوا إلى سِبتن ماريِد، لينضموا إليهم، وتعمد أن يكون النزال داخل أراضي الجنوب التي لم يعرفها الشماليون.
يظن آسر أنه يتقدم دون علم آراتاك، لإنه بالفعل بذل مجهودًا ليستر الأمر، ولم يخبر به إلا ثلاثة منهم فيكتور، ويحسب أن لوكياس مشغول بنقل المقر، ما يدري أن لا مقر يُنقل ولا سر يُخبأ.
لما وصل آسر إلى سِبتن ماريد بعد انتصاره على حراس الحدود وتمزيق شملهم ما وجد أحدًا، وتابع التقدم بسرعة إلى لإنلينيو قبل أن يصل الخبر للقصر، وصاروا بعيدًا عنها بقليلٍ حين عسكروا، وارتاح بعض الجيش فيما تناوب البقية على الحراسة، لم تدم راحتهم طويلًا.
قطع السكينة وفرحة انتصار الشمال دوي بوقٍ يُنذر بالخطر، وأخر مخيمهم ظهر لوكياس آراتاك مع مجموعة جنود قليلة العدد أمام المخيم المسلح كاملًا، وأـخبر آسر بوجود عدوه في معسكره، فخرج له مأهبًا سيفه وغرته مجموعته القليلة.
وقف القائدان أمام بعضهما، لا يكاد يفصل بينهما إلا أمتار قليلة، ولم ينطق أي منهما بشيء حتى قطع لوكياس الصمت قائلاً :" هنيئًا لكَ نصركَ في الحدود"
فرد آسر :" هنيئًا لكَ موتكَ المُبكِر "
تابع لوكياس بتحدٍ :" أردت أن أُهديكَ شيئًا قيمًا بمناسبة فوزك العظيم، وأفتتح المعركة بيننا بشيء مميز جديد"
بدأت الصفوف من خلفه تتسع، وظهر تدريجيًا حارسٌ جنوبي يقود صبيًا معصوب العينين مقيد اليدين سلمه للوكياس، ففك يديه وعينيه، وركع جانبه ثم همس له:" رتب شعرك هكذا" وراح يُرتب شعره ويضبط ملابسه ونفض عنها التراب ثم لفه ليواجه والده وأشار للناحية الموازية :" أترى والدك؟ هو الرجل ذو المعطف الأسود، ألم تشتق له؟ اركض إليه، هيا "
تجمد زَيْن في مكانه غير مدركٍ لما يحدث، فيما صاح آسر :" وضيع يستغل طفلًا " فأجابه لوكياس بعلو صوته :" ألم تقم الحرب لأجله! " ودفع زين بيديه صارخًا :"تحرك "
لا يتذكر نولان عن تلك اللحظة خلا قليلَ القليل، وهو لم  يتحرك حينها إلا حين غلب الشوقُ والده ليتقدم أولًا، وجهز الرماة الشماليون سهامهم التي تستهدف سلسل آراتاك، فالتفت حوله جماعته ذات الدروع، فيما وقف هو متأهبًا بسهمه، ولم يُفلت القوسُ السهمَ إلا عندما كاد آسر يلتقط ولده، فسقط الصبي ميــتًا على صدر والده.

من لا تراهمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن