القريبُ المُتبقي

74 21 11
                                    

لم يتحرك زَيْن تحت ذراعه، ولم يبدِ أي رد فعل يبدي الصدمة أو الدهشة على خلافِ توقع الجنوبي، مما أثار الشكوك والقلق عنده، فالتفتَ إليه قائلًا بنبرة هادىة:" ما بِك؟"
" انتظرك كي تُنهي الهراء الذي تقوله وتفلتني، أقول لكَ هي أميرة شمالية، شماالية" 
" أنا لست من كذبَ عليكَ في المقام الأول"
دفع نولان ساعدَ لوكياس، وثناها بسرعة، حتى تمكن من تحرير نفسه منها، ثم وقف مبتعدًا عن خاله وصاح:" لا تتوقع مني أن أُكَذِب والدي وأُصدقك أنت!"
وما كاد لوكياس ينهض من مجلسه تحت الشجرة، حتى انطلق نولان يعدو مختفيًا عن ناظريه.
لم يبتعد الغلام كثيرًا، بل استوقفته قدماه حيث وُجِد السطلُ ذو درجةِ الانصهار المرتفعة، والذي استعان به أهل القصر لصهر أوانٍ شَكَتْ إليهم كثرة الاستخدام، وقف نولان يراقب المكان الذي ظهر فيه الشاب ذو الوجه المُترب، ويخالجه إحساس من الرهبة والتشويق معًا، لكن مات التشويق حين لم يظهر أحد.
سحبت تركيزه صلصلة الحديد، وصرير احتكاك بوابةٍ قديمة حمراء تُفتح، وما أن انفتحت تسللت من الخارج نسماتُ هواءٍ جلبت معها العديد من حبات التراب، استقر بعضها في عين نولان.
الكتلة السوداء الصغيرة التي وقفت أمام البوابة الكبيرة تنتظر أن تَكشِف عما هو خارجها ما هي إلا أقدم سكان القصر عمرًا، أما ما هو خارجها فكان شابًا ظهرت إماراتُ الفقر على ملابسه، يحمل على ظهره كيسًا ثقيلا من قماش، برز هيكل ما يخفيه الكيس منه، إلى جانب تمزقه من حوافه، فأطلت أغلفة الكتب من النوافذ التي صنعتها الخروق.
انتظرتْ خلف الشاب عربة مفتوحة السقف ممتلئة بالكتب المصفوفة، يجرها حصان هزيل، ويمسك بلجامه رجل كبير السن ثقيل الوزن ممتعض الوجه، يبدو أنه يأكل طعام الشاب الأصغر فعلًا!
رمي الشاب بحمولته إلى الأرض، وسلم بيده المتسخة على سير، وهو يتفوه كلمات لا تصل لأُذن زَيْن، فحمل شوال الكتب أحد حراس البوابة وتبع سير إلى المكتبة.
تُرِكتْ البوابة مفتوحة لفترة وجيزة بعد انصراف سير مع كتبه وحاملها، وأمامها وقف زَيْن يُراقب ما خلف الحديد من عشب ورمال ومارة، مستغرقًا في أفكاره عن الشمال، وحقيقة أنه لو استطاع وتجاوز البوابة فلن يقدر على إكمال الطريق للشمال، كيف سيعبر مملكتين كاملتين في أيامٍ وحده، وهو لا يدري عن الطُرقِ مقدار ذرة.
سرقته أفكاره مِن عالمه المحيط، وعزلته عن الضوضاء حوله، حتى أحس أن كل شيء اختفى، ولم يبقَ إلا البوابة والنور خارجها، كل ما حوله وحولها ظلام، والنور الوحيد يكمن خارجها، بل خارج الجنوب كله.
أيقظه من ذلك كله حارسُ البوابة، الرجل الغاضب ذو الملامح القاسية، قصير القامة، أجش الصوت، يده اليسرى فارقت إصبعين منها، حينما صاح من بعيدٍ مشيحًا بيده، آمرا زَيْنًا أن ينصرف، في الواقع كلاهما يعرف الآخر حق المعرفة، وقد جمعت بينهما محاولات دحض لعملياتِ هروب عديدة.
طرقتْ أصابعٌ نحيلة وطويلة برقة على كتفه من خلفه، فاستدار وإذ هي امرأة في العشرين من عمرها، سوداء الشعر، وردية الوجه، برزت عظام وجنتيها من وجهها، ولفت حول يديها ضمادة بيضاء مُغبرة، بدت آدمية حقيقة للغاية.
سألته بأدب:" بإمكانك مساعدتي؟"
" في ماذا؟"
" أود نقل بعض الأحجار، لكن يدي لا تسمح، كما ترى"
ومدت كفي يديها أمامها؛ لتؤكد ما قالت.
أجابها نولان مستغربًا اختياره من بين من هم أجدر بالاختيار:" ولِمَ لم تتطلبي من البستاني؟"
" طلبت منه ولم يجب"
"والـ.."
ما أكمل كلماته؛ لأنها قاطعته:" لا أحد في القصر يرغب في مساعدة من هم مثلي تقريبًا" ثم سكتت لهنيهة، فتابعت:" ستساعدني؟"
اومأ نولان مترددًا، ثم لحق بها، بماذا تضره مساعدتها على أي حال؟!
أرشدته المرأة إلى ركن بعيد في الحديقة الخلفية، التي غادرها الملك الجنوبي للتو دون أن يراه زَيْن؛ إذ كان مشغولًا في مراقبة البوابة.
حيث تراكمت أحجار وبعض الحصى أشارت له، ومع أن الأحجار صغيرة الحجم، وكان بمقدور المرأة أن تُزيلهم، إلا أن نولان لم يعترض، ونحى الأحجار جانبًا، وأبعد الحصى بقدمه بقدر ما استطاع.
شكرته المرأة بحرارة، وبدت ممتنةً جدًا لهكذا عمل بسيط؛ ربما لأن الجميع رفض مساعدتها، وأصرت أن تُعَرِفه على نفسها.
مدت يدها مصافحة:" أكرَابيل"
فصافحها قائلا:" نولان"
" أتفضل أن أُناديكَ نولان؟"
" لا ضرار"
" إني متواجدة هنا دائمًا، إن احتجت شيئًا مني، إلى جانب معرفتي المعتدلة عن السيد، قد ينفعك"
أول انطباع لزَيْن عن تلك السيدة أنها غريبة الأطوار، في نفس الوقت طيبةٌ، لذا لم يشغل نفسه بالسؤال عن ماهية السيد الذي ذكرته، أو سبب مكوثها المستمر هنا؛ ظنًا منه أنهما لن يلتقيا مجددًا.
عزم نولان في بضع ثوان قضاها يفكر أمام السلالم، أن يصعد، ويتحقق من أمر قرابة أكثر شخص يكرهه.
في الواقع، كان من المفترض أن الحديث بين نولان وخاله يغير مجرى الأمور، وربما يواسي زَيْنًا قليلًا، هذا ما كان يفترض، أما الحقيقة أن كلمات لوكياس غيرتْ فقط مجرى انتباه نولان، فبدلًا من أن يصب عند موت أبيه، صار مصبه عند موت أمه.
أفزع لوكياسُ زَيْنًا حين مد يده فالتقفت مقبض الباب فجأة وهو واقف خلف نولان، كان الغلام قد طرق الباب عدة مرات بِلا جواب.
سأل وهو يدفع الباب كاشفًا عما خلفه:" عُدتَ إذن؟"
أجابه نولان محاولًا الابتعاد عنه قدر الإمكان:" أردتكَ أن تثبت لي أنكَ خا...لي"
" كيف؟"
" لا أدري"
" حسنًا، هل رأيتها من قبل؟"
" في الصور"
" يوم زفافها، صحيح؟"
اومأ نولان، فاسترسل لوكياس:" دعني أُخمن، هل ارتدت فستانًا أسود مزركشًا، أَم هي امرأة حمراء الشعر، جميلة الهيئة، رقيقة المظهر، لا أحسبها مبتهجة في الصورة، في فستانٍ أسود! ولا أظنها وقفت كثيرًا بجانبِ آسر "
" هذا يثبت أنكَ حضرت العرس"
" المشكلة يا ولدي، أنه ليس هناك ما تعرفه أنت وأعرفه أنا في نفس الوقت، لأُثبت لك به أني عرفت أمك، إنك بالكاد تعرف اسمها"
نطق زين بسرعة:" لستُ ولدك" وسكت لفترةٍ ابتلع فيها ريقه
" ماذا فعلت؟" مشيرًا لآثار الطين على يده.
" لا شيء"
تقدم لوكياس مبتعدًا عن الباب باتجاه الطاولة، ورمى عليها كتابين ضخمين كان يحملهما، واستدار حولها، ثم جلس على كرسيه وأشار بدوره لنولان:" إذا أردت اجلس"
تحجج زَيْن بنبرة فاترة :" لا، أشكرك" وهم بالخروج لولا أن استوقفه لوكياس:" أما تريد أن تعرف عن أمك؟"
استدار نولان والحياء والتردد قد غطى وجهه، هل يريد أن يعرف؟ طبعًا، أهذا سؤال!  عدا أنه يجهل أساسًا أي شيء عن السيدة المرحومة وهو أقرب الأحياء لها، ولا يرغب في إطاله الحديث مع لوكياس، وهو لا يطيق منه حرفًا.
ترك الرجل مكانه، وأعاد دورانه حول الطاولة، قاصدًا نولان، حتى وصل إليه، وسحبه من كتفيه ليُجلسه على أحد الكرسيين أمام الطاولة، مدعيًا تجاهل إحساسه بانكماش جسد الغلام لَمَّا اقترب منه، وأغلق الباب، ثم عاد إلى حيث كان.
سأله بلهجة رقيقة:" ماذا تريد أن تعرف؟"
أجابه بسرعة:" ما تعرف"
" تلك قصة طويلة"
" مِن أين تبدأ؟" وهو يأمل أن يُمسك بداية الخيط.
" من قصر الغوثهام، الجناح الملكي بالطابق الخامس" قال سليل آراتاك الجملة ثم سكت، فبادره نولان:" وبعد؟ "
ابتلع لوكياس ريقه، أدركَ توًا أنه ينبش الماضي تمامًا، ومع كرهه لهذا أصر أن يواجهه تلك المرة، ويسرده على فمه، بدلا من قطع لسان مَن يُذكِره به، ويطلق العنان لنفسه لتقوم بجلده مجددًا على ما مضى.
تنهد مسترسلًا:" وبعد؟! تزوج أبي - جدكَ - بالطبع تدري اسمه؟"
" أوكتان"
" بأمي - جدتك -..؟" ونظر إليه نظرة سائلة.
" لا أعرف"
" بِرِيآمُور" تجنب جعل نولان يردد اسمها، ثم أكمل ضاحكًا:" في الواقع لم تكن أمي زوجته الوحيدة، هناك..."
" جُوربين"
" وكوري" تبادلا النظرات ثم تابع:" بِرِيآمور، كوري، وجوربين، زوجات أبي بالترتيب، أمي الأولى، لو لاحظت"
بدا لوكياس متلعثمًا، لا يقدر على ترتيب الكلمات، يُكثر من قطع كلامه، فيما ملأ الترقبُ زينًا.
" أُختي لوسِيريلا - من نفس الأم - أكثرُ شبهًا بأبي عني، حتى طريقة تفكير كليهما متشابهة، هي نسخة مؤنثة منه في الحقيقية، على عكس مظهري المُطابِق لأمي؛ لذا طال ما قربها له، يُشركها في أمره، وأمر المملكة، ويستشيرها في بعضهم، ويجلسها جانبه إذا ما حضر اجتماعًا، أو يأخذها معه في غزواته، مع أنها مازالت في الخامسة عشر، لقد فضلها أكثر من أي ابن له، ولا أنكر، راقت لها الحياة العسكرية أكثر مما راقت لي"
"ضايق هذا زوجات أبي الأخريات، فسعين بها عنده وأوغرن صدره عليها، بطريقة خطأ"
"أخبرت كلتاهما أبي أن الفتاة مثيلةُ أُمها، وأن أمي ما عادت تُحبه، من يصدق أن بِريِمآمُور التي لا تقوي على الإقرار علانية بإهمال إحدي خادماتها؛ لئلا تجرح مشاعرها، تُحرض ابنتها الصغيرة على كره والدها"
"عظمَ الخَطبُ على أبي، وصار يكره والدتي، بعد أن كانت حبه الأول، فـ..قـتـ..لها" قال كلمته الأخيرة وهي تجاهد أن تخرج من فمه.
" كانت المسكينة تمشط شعر ابنتها حين اقتحم والدي الجناح، ودفع أختي عنها، وفي لحظة قسم عُنقها"
ابتلع ريقه فتابع :" أتذكرُ  محاولة واحدة من الخدم تغطية عينيَّ، أقسم أني لازلت أتذكر لون سكينه وقد كنتُ لا أزال في العاشرة"
لم يقل نولان شيئًا منذ وصل الحديث لهذه النقطة، ولكن الكلمات خرجت من فمه مترقبة:" وماتت؟"
" منذ ثلاثين عامًا"
" ثم؟
" ثم مات أبي وورثته أُختي"
" لا تُسِئ الفهم، أبي ظل رجلًا رحيمًا بنا طوال حياته، اعتاد قبل أن توسوس له إناثُ الثعابين أن يجد وقتًا خصيصا لقضائه معنا، وكان يسمع مشاكلنا التافهة ويجد علاجًا لها، لولا حيلولة زوجاته بينه وبين أمي"
" أقرُ إنك مفتقدٌ لوسِيريلا، ظلت هي نِعمَ الأخت والأُم"
استدرك زَيْن:" لك " فكررها خاله:" لي، بعد أمي"
سأل نولان مُبعدًا الحديث عن السيدة بِرِيآمُور:" قلتَ أنها حكمتْ أثناء حرب الانتكاس، كيف هُـ..."
" والدك، والدكَ هو علةُ كل علةٍ واجهها الجنوب" صرح بها حينما لوَّح بإصبعه في الهواء.
" إلا... إلا والدي، لا تتفوه بأي كلمة عنه"
قام لوكياس من مكانه فجأة والتف مسرعًا حول الطاولة، ثم ركع عند زَيْن وحدثه بهدوء:" تعاهد جدي   مع جدِكَ ألَّا يَهجمَ كِلانا على الآخر، ويا تُرى مَن أول مُخلِفٍ لِهذا العهد؟! المُوقَر آسر الطماع"
عزيزي القارئ، حين قال لوكياس:" جدي مع جدكِ" يقصد أجداد كليهما القدماء، ليس سيكليونوف أو همام والد آسر.
" طمع والدكَ أعماه، أراد ضم القارة كلها لحكمه، الجنوب ليس الوحيد الذي يشتكي، كل الممالك حول الشمال شَكَتْ هجومه عليها، ألم تتسأل لماذا يُسمى الشمال بالممالك؟! لأنه عبارة عن مجموعة من الممالك المسروقة"
"الشمال ومجلس الكريسيس والعالم كله يتستر عليه لا عجب أنك لا تدري"
لم يُمهل لوكياس نولانَ أن يعترض، وعاجله بالكتابين الذين كانا معه، فسلمهما له قائلًا:" هاذان كتابان لمؤرخين مختلفين، أحدهما شمالي والآخر جنوبي، انظر ماذا كُتِب"
فتح الجنوبي الكتابَ ذا المؤلف الشمالي أولًا على فصل باسم :" التاريخُ المعاصر" وبينما هو يُقلب في الصفحات أخبر:" ينتهي التأريخ قبل تاريخِ زواج والديك بأعوام قِلال"
حتى عثر على الصفحة المختارة فقرأ منها، وإصبعه يشير إلى كل كلمة يتلوها؛ لِيراها زَيْن:
" لربما سببتْ التوسعات السكانية التي قام عليها أخر أبناء العائلة أرقًا عند العائلات الأُخرى" ثم أغلق الكتاب بسرعة واستل الآخر وقرأ منه:" ولا شكَ أن حملات مملكة الشمال الاستعمارية أودت بحياة آلاف لا مِن الجنوبيين فقط..."
ضرب جلدة الكتاب ثم صاح منتصرًا:" أرأيت! صدقت! يسمونها في الشمال توسعات سكانية، وهي حقيقةً حملاتٌ استعمارية بأغراض عسكرية أنهت حياة أبرياء كُثر"
همس زَيْن مُتدراكًا:" وكصلح ..." فأكمل عنه لوكياس:" تزوجَ آسر بأختي"

عزيزي القارئ، لا تتعجلْ بالحكم على لوكياس أو آسر أو لوسِيريلا، واعلم أن كل ما قاله لوكياس هو نصف الحقيقة فقط، النصف الآخر لوكياس أجبنُ مِن مواجهتِه.

من لا تراهمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن