كورال آ

132 41 2
                                    

في الشمال لا تجدُ صعوبة في ارتداء الملابس، ولا اختيار ما يلائم الحر أو البرد، قاعدة الملبس الواحدة في الشمال هي: كلما ارتديت أكثر كلما زِدتَ دفئًا، ولا أحد يبالي بجمال الملابس طالما هي تجلب الدفء.
في سورمند يتمتع أهل المدينة بثلاثة أشهر أقل برودةٍ من بقية العام، هي أشهر الصيف كما يدعونها، يتوقف فيها هطول الثلج وعوضًا عنه يتساقط مطرٌ خفيف، كان عادة يختلط مع الثلج المذاب والتربة مكونًا بِركًا من الطين، هذه الأيام التسعون هي أكثر الأيام حرارةّ، بعد انقضائها يعود الثلج والبرد.
هذا لا يمنع الأشجار أن تنمو، فالقوي منها القادر على تحمل البرد ينمو، إلى جانب أنواع جميلة من الأزهار التي تبرز من تحت الثلج المتراكم على الأرض والتي تشغل بال زَيْن، بات مولعًا بها منذ صغره، وحفظ عن ظهر قلب أنواع عديدة منها مع أنه لم يسبق أن رأى أي منها خارج صور كُتبه ، عدا زهرة الأقحوان البرية ذات اللون الأصفر التي كان يجدها من حين لآخر مغروسة في تربة القلعة.
لم يعتد نولان في حياته أن يُحذر ولِأول مرة من الإصابة بالحمى، نادرًا ما سمع هذا الاسم في الشمال، ولم يكن يسبب قلقًا هناك، أما هنا في الجنوب فهو السبب الرئيس لموت عدد كبير.
طقس الجنوب متقلب المزاج، والسماء مترددة الاختيار دائمًا، يصبح الجو باردًا في الليل، وتزداد حرارته بطلوع الشمس، حتى إذا تعامدت الشمس، تهيج الشمس حينها وكأنها تنتقم من كل من بقي حيًا، وتتساقط ثلوج بسيطة في الشتاء وفي أعوام أخرى قد لا تفعل.
خلال أول شهر أفناه نولان في الجنوب، أول ما أصيب به هو الحمى، الحمى التي داهمت نولان حسب ما قال سير بسيطة مقارنة بمن تتعامد عليهم الشمس، هؤلاء يستغرقون يومين في الهذيان وينتهي بهم المطاف صرعى.
أحيانًا يرفض سير استعمال عقاقير ووصفات معينة مع نولان، ليس نولان فقط، بل أي طفل داخل القصر بمن فيهم لير، كان يُكرر أن تلك الوصفات الجرعة الزائدة منها تسبب كوارث لمن دون السادسة عشرة وبعض الحالات الخاصة ممن تجاوزوها، وأن المسموح لهم هو بالكاد أقل من ربع كوب، وهي كمية لا تصلح لمقاومة نزلة برد، لذا الحكيم سير يفضل استغلال بعض الأعشاب وأحيانًا الثمار بديلاً عن العقاقير.
في يومين مرض خلالهما نولان رعاه سير كولده، وأغدق عليه ليمونًا، كلما اشتكى نولان أو أنَ أعطاه كوبًا من الليمون، عصير ليمون خالص لا يخالطه الماء كان يوم نحسِ نولان إن قرر سير تسخين الليمون المعصور، حتى كاد جوف فمه يحترق.
لا يدري نولان لماذا كان سير مهتمًا به هكذا، وقد توقع أنه إذا مرض فلن يسأل عنه أحد، واحتار في سببين أولهما أن لوكياس أراده حيًا بخير الآن، أو أن سير اعتاد مداواة المرضى والسهر إلى جانبهم، على كلٍ كان نولان ممتنًا له، وزال مع الأيام إحساس الغلام بالخوف منه، بل كان يعتقد أن سير يشبه إلى حد ما صديقه سيكتور وخاصة تكراره لبعض الكلمات المشابهه لما يقول، إذ سمعه يردد للير جملة رددها له من قبل سيكتور :" اثتراكي للشمال شماله، للكون جنوبه" وقد اقتنع نولان بأن أحد أساتذة إيكرير اخترع هذه القافية لتلاميذه اللذين عانوا من الجغرافيا، وكان يعلم أن للقافية بقية لم يكملها سير.
لا يعرف نولان أن سير هو من أشار على لوكياس باختطافه، هو صاحب الفكرة، لمَّا علم سير بأمر فيكتور الجاسوس بسورمند اقترح على لوكياس مساومة آسر على شيء قيم عنده مقابل جزء من الممالك الشمالية، ومن أقيم من ولده؟!
لم ينوِ سير قتل أي أحد، كانت الخطة بسيطة جدًا تنتهي بإعادة زَيْن لوالده والأرض لصاحبها، لوكياس هو من عدَّلَ الخطة دون إخبار سير، أما حقيقة نسبة أصل الخطة لسير فلا ينكرها سير، ولم يكن لينكرها لو سأله نولان عنها لكنه - حمدًا لله - لم يسأل، طبيعة عمل سير كحكيم للقصر تقتصر على ثلاث أشياء: توجيه النصح لحاكم القصر مهما كانت جنسيته وأن يسدد نصحه فيما يفيد الأحياء عامةً فلا يشير مثلًا على قتل ملك لتقوم حرب، ولكنه يستطيع إن كان الملك فاسدًا فالتخلص من الفسدة أمر في صالح بني أدم، مداواة أي مريض سواء كان من أهل القصر أم غيرهم، وهو يؤدي دور المعلم أيضًا داخل القصر، تلك الشروط أقسم عليها سير قبل انتقاله من قلعة أيكرير إلى الجنوب، ورغم أنني مقتنعة مليونين بالمائة أن اختطاف زَيْن فيه مصلحة للجنوب فقط وليس أي حي آخر كان لسير وجه نظر أخرى، وظل يعتقد بأن في ذلك إنهاء لتاريخ طويل من القتل.
في الأيام الأخيرة التي ضاعت من عمر نولان في هذا القصر وبعد عامين من تلك الحمى، استنتج أن عادة لير الهدوء، إنها لا تتحدث كثيرًا، أو لأكون أمينة هي لا تتحدث كثيرًا إلى نولان، ولأكون أكثر أمانة نولان هو من لا يتحدث معها؛ هي تذكره بوالدها ونولان يبغض والدها جدًا، واعتاد الغلام سكوتها حتى كسرت تلك القاعدة وصارت كثيرة الضوضاء قلقة في ذلك اليوم، أصبحت تثرثر وتثرثر وتثرثر بأشياء عدة عن عمتها وابن عمتها وابنة عمتها القادمين للزيارة.
أعلمَ لوكياسُ ابنته بأمر زيارة عمتها وأبنائها لهم منذ أكثر من أسبوع، لم تشغل لير بالها بأمرهم طوال هذه المدة، وتذكرتهم فقط صباح يوم وصولهم للقصر.
تقريبًا لم يلحظ أحد قلقها إلا نولان؛ إذ تركته في ذلك اليوم ولم ترافقه لتراقبه كما تفعل، وظن المسكين أنها فرصة مناسبة لاستطلاع القصر لعله يجد منه مهربًا، فخاب ظنه لما تولى سير مهمة لير في مراقبته، بل والأدهى أنه أبقاه في المكتبة يرتب الكتب واحدًا تلو الآخر حسب ترتيبها الأبجدي وموضوعها حتى إذا انتهى أَمَره أن يحضر كتابه وقلمه ويأتي ليجلس بجانبه.
تحجج نولان حينها :" بدون لير؟! "
رد العجوز وارتسمت على ثغره ابتسامة صغيرة :" لير ستلحقنا عندما تنتهي، أما أنت فلست مشغولًا، أليس كذلك؟ "
همس نولان لنفسه بينما يُقلب كتابه بحثًا عن قلمه :" القلم! القلم أخذته لير "
ويبدو أن سير سمعه فقال :" اذهب بسرعة وخذه منها قبل أن تنشغل مع زوارنا "
يعلم نولان أن عمة لير وصلت بالفعل قبل دقائق معدودة حيث شَهِدَ من نافذة الجناح قدوم موكبها، لكنه لم يبالِ على أي حال، هو يريد قلمه، هذه الأقلام يصنعها نولان بنفسه، لقد بقى يومين كاملين يُفرغ عود نخلةٍ وينحته ليُناسب القلم، وثَقبَ ثقبًا ضيقًا في أول طرف العود الحاد بينما ترك آخره مفتوحًا، ووضع على الفتحة الكبيرة قطعة صغيرة من مادة مطاطية لتمنع انسياب الحبر للخارج، ثم اكتشف بعدها أن الحبر يتدفق من الفتحة الضيقة فأضطر لأن يُغلقها هى الاخرى بقطعة مطاط أصغر، ورغم أن صناعة القلم ونحته صعب فزَيْن يفضل الكتابة به عن غمر الريشة في الحبر كل ثانية، كما أنه يذكره بوالده؛ فآسر هو من علم زَيْن تلك الحيلة.
وقد تكرم نولان وأعطى القلم للير حين احتاجته مرة بعد توسط سير بينهما، ونسيه معها؛ لذا قطع ممر جناح الغوث في خمس ثوان، وربما صعد السلم في ثانيتين للطابق الأعلى الذي تبيت فيه لير، ووقف يلتقط أنفاسه أمام باب غرفتها ويطرق الباب في نفس الثانية.
لم يأته الرد سريعًا، فوقف مكانه يزيد حدة طرقه على الباب وهو يأمل أن تكون لَير ما زالت في الداخل وتفتح الباب وتعطيه قلمه، وقبل أن ييأس من رجوع القلم فتحت لير باب غرفتها بقوة وهي ممسكة بيدها الثانية مشبكَ شعرٍ ثبتته في شعرها وقالت بصوت أشبه بالصراخ: " ماذا تريد؟ "
" قلمي، تركته لكِ المرة السابقة، أريده الآن "
" مع سير، اذهب وخذه منه "
" هو معكِ يا لير أحضريه، ثم إني كُنتُ عند سير منذ دقائق والقلم ليس معه "
" اتظن أن الوقت مناسب! "
" لا أكترث للوقت، أعطني قلمي وقد أفكر في صناعة قلم لك "
عادت لير إلى داخل الغرفة وهي تتمتم: " سأفرغ مِما في يدي وأحضره لك "
ارتدت لير فستانًا أحمرًا ساطع اللون، زُركِشَ الجزء السفلي منه بورود سوداء اللون لامعة، وقد انتفخ هذا الجزء فباتت لير وكأنها ارتدت دلوًا كبيرًا تحت تنورة الفستان، وتخلت عن ضفيرتها المعتادة وتركت بعض شعرها منسابًا فيما عقدت البقية في ضفائر صغيرة جدًا أخر كل واحدة مشبك أسود صغير، وبدت غريبة الشكل عن لير التي اِعتاد نولان عليها، هي دائمًا تصنع ضفيرة واحدة في شعرها، وترتدي فستانها الأخضر الطويل غير المنتفخِ الذي تحبه، وتشمر عن ساعدها إذا أحست أن الأكمام تعيق حركتها.
بررت لير وهي تلتف لتنظر في المرآة وتضفر أخر ضفيرة في شعرها:" إنني لست معتادة على هذه الألوان، كثرة البريق تؤلم عيني لكن عمتي دائمًا ما تتباهي بابنتها، وقد سئمت غرورها "
ثم التفت مواجهة نولان :" كيف أبدو؟ "
رد الصبي مستفزًا إياها :" أكاد أجزم أنه يوم عُرسك "
سكبت لير بعض الماء على يدها ومسحت عينيها اللتين بدأتا تنزفان دمعًا من أذية الألوان الساطعة لهما ثم دفعت نولان، وأغلقت الباب خلفها، وانطلقت تسير بسرعة إلى مكتب والدها.
ناداها نولان وهي يسير خلفها مصدومًا:" ماذا عن قلمي؟ "
" ساحضره لك، لا تقلق هكذا عليه، ثم أنني تركت الكتاب عند أبي وأشك أن القلم بداخله"
وقف نولان أمام باب المكتب المشئوم وهمس :" سانتظرك هنا، لا تنسي القلم "
صراحةً نولان يكره انتظار لير في ذلك المكان، ويكره هذا المكان أساسًا، لم تمضِ مرة مَرَّ فيها نولان على هذا المكان ولم يلعن فيها اليوم الذي أتى فيه إلى الجنوب، وكان متأكدًا بأن الأمر لن يمر على خير فصحح كلماته قبل أن تدخل لير :" لا، سأنتظركِ عند سير، أحضري القلم وتعالي هناك "
سقط قلبه في قدميه حين سمع صوت طرقات الأقدام على الأرضِ خلفَ الباب، فقطع كلامه وانطلق يسير بالإتجاه الآخر بأكبر سرعة يستطيعها، واستطاع نولان سماع تحية لير لعمتها واتضح من هذه الجلبة وجود أفرادٍ آخرين غير لير ووالدها وعمتها.
ودق قلبه بسرعة كبيرة لما أتاه صوت أنثوي حاد يسأل بوضوح :" من هذا؟ " وتمنى أن يكون السؤال عن أي شخص غيره.
انتفض الصبي وتجمد مكانه فور شق طبلة أذنه أكثر صوت يكره في حياته ينادي بأكثر اسم يكره، واستدار ببطء محاولًا رسم ابتسامة مزيفة على وجهه.
كانت عمة لير امرأة كبيرة السن مقارنة بعمر لوكياس، وظهرت التجاعيد على وجهها واختلط الشيب بشعرها، ارتدت عباءة سوداء براقة ويبدو من شكلها أنها غالية الثمن، و لفت حول كتفها وشاحًا أسودًا، وعلى رأسها وضعت قماشة شفافة سوداء، وبدت وقورة إلى حد كبير، وقفت إلى جانبها ابنتها ذات العشرين عامًا، والتي بدا من فستانها وشكلها أنها تبحث عن زوج، وابنها ذو الخمسة عشر عامًا، والذي كان يرمق نولان وكأنه مذنب.
مظهر عمة لير يدل على الوقار أما صوتها فيزيل عند سماعه وقارها تمامًا إذ كان حادًا يوحى باللؤم الشديد عندما سألت بلطف مصطنع :" من تكون يا صغيري؟ "
رد نولان بصوت مختلج وعيناه تراقبان وجه لوكياس :" نولان "
" أعرف يا نولان، قصدت أصلك: والدك وعائلتك؟ "
أجاب لوكياس بدلًا عنه في عجل :" آراتاك "
لم يجد لوكياس مبررًا مقنعًا لتواجد نولان مع لير، وخاف إن أخبر المرأة أنه أحد أبناء القصر شكت في الأمر، فحتى بنات القصر لا يتجولن مع أميرته أمام باب مكتب الملك، فنطق لسانه دون وعي منه محاولًا إنقاذ الأمر قبل أن يسوءَ أكثر ناسبًا نولان إليه حتى لا يستطيع أحد الاعتراضَ على ما قال.
بعيدًا عن لير التي كادت تنفجر ضحكًا، ونولان الذي لا يدرك ماذا يحدث، ولا كيف صار في شهرين أبنًا للقصر ثم أخًا للير، ولا شهقة الفتاة المدللة إلى
جانبهم، فلا أيًا من ذلك يعادل نظرات المرأة المصدومة إلى لوكياس ويكأنه قام بفعل شنيع.
حاولت المرأة استدراك نظراتها فأزالت عينيها عن لوكياس وقالت وهي تضع يدها على كتفي نولان وتبتسم بصعوبة :" آه، عزيزي الصغير، لا بد أنك لا تعرفني، أنا جُوربِين زوجة جدك المرحوم أوكتان بالطبع أنت تعرفه "
أومأ نولان مدعيًا أنه يعرفه فيما تابعت المرأة وهي تشير لابنتها :" وهذه ابنتي آرسي، وهذا ولدي أوكتان، آرسي سلمي على ابن أخيكِ "
رمقته آرسي بنظرة متفحصة ثم مدت يدها تصافه، ولما نبهته لير تذكر دور تحية أُوكتان.
سألت السيدة جُوربِين :" وكم عمرك يا صغيري؟"
لا أدري أنا حتى الآن ما غاية جُوربِين من هذا السؤال، ولا أعرف أكانت تسفسر عن عمر الغلام أم كانت توقع بلوكياس، لكنني أُقر بأنه سؤال مخادع، ولولا نباهة لير لأوقع بثلاثتهم حيث سبقتهم وهتفت :" سبع سنوات، أخي نولان في السابعة "
قالت السيدة في محاولة لمداعبة الصبي وهي محتفظة بابتسامتها السخيفة على ثغرها :" عينيك جميلتان يا ولد، من أين لك بهما؟ "
أجاب نولان مترددًا وهو يسترق من حين لآخر نظرة خاطفة لتعابير وجه لوكياس :" ورثتهما عن أمي " ولم يكن متأكدًا من لون عيني أَيِا.
" وشعرك أيضًا "
اومأ الصبي فتابعت :" وماذا عن ملامحك؟ "
أجاب نولان ليتجنب أي سؤال آخر عن ملامحه التي من المستحيل أن تتشابه مع لوكياس :" أكاد أكون نسخة مصغرة عن أمي "
أقسم لي نولان عدة مرات أنه رأي لوكياس يبتسم ساخرًا حينها .
" ومن هي أُمك؟"
كاد نولان ينطق اسم أَيِا لما منعه تدخل لوكياس، وقد قال مفسحًا الطريق للسيدة :" جُوربِين، لا تُشرِكي الطفل في هذا الأمر، تعالي وسأحكي لكِ إن أردتِي، آراكم متعبين من طول الطريق، دعي الصبيين يستريحان ولنتحدث نحن "
أومئت المرأة موافقة وبدا على وجهها الرغبة في المعرفة، وسحبت لير نولان خلفها قائلة :" لدي كلانا درس مهم، سنلتقي بكم لاحقًا، أنار القصر منذ زيارتكم "  وقبل الفراق صاحت آرسي بنبرة تحدي :" إلى اللقاء لير "
" آراكِ قريبًا آرسي "
وفور ابتعد الصبيان عن الضيوف همس نولان :" عمتكِ تشبه الأفعى "
وتعجب من رد لير :" هي أفعى فعلًا، لقد أتت هنا لأنها سئمت زوجها، أتت لتجعل أهل القصر يسئمون حياتهم "
كرر نولان :" زوجها! لقد قالت إنها زوجة جدكِ، هي ليست عمتكِ من الأساس "
استدركت :" أعرف، أعرف، إنني أُناديها عمتي مجازًا فقط، تزوجها جدي بعد جدتي والدة أبي، لما مات أبي تزوجت أميرًا، أقسم أن كل ما تبالي به هو المال والفخر بإنجازات أبنائها غير الحقيقية "
صاح نولان بنبرة عالية :" أتقصدين أن آرسي وأوكتان ليسا أشقاء والدكِ "
صححت لير :" اخفض صوتك، كلا، هي لم تنجب من زوجها الآخر " ثم أكملت :" أستطيع أن أقسم أنها سألتك عن عمرك لتتأكد من صحة كلام أبي "
" كيف؟ "
" هي لم تأتِ للزيارة منذ مدة، آخر مرة أتت منذ ثماني سنوات، ولم تكن أنت موجودًا بالقصر حينها، أصبر فقط أصبر، ستظل تتفاخر بابنها أمامك حتى تكرهه، دائمًا ما أحبت فعل ذلك "
وأكملت مقلدة صوتها :" أُوه، أوكتان ولدي الجميل الوسيم المبارز الشجاع، قتل ألفي إنسان، وحرر الجنوب سبعمائة مرة، وتزوج خمس مرات، ويجيد المبارزة والرماية والسباحة والتسلق والكتابة وركوب الأهوال والأمواج وكل شيء وقرأ أكثر من سير نفسه "
ضحك نولان على طريقتها في تقليد صوت زوجة جدها الحاد بينما أضافت :" لن ترحم أحدًا في القصر من تكبرها "
سأل نولان متعجبًا :" ولا حتى أيا؟! "
" إن أيا لا تطيقها أساسًا، ولا جوربين تطيق أيا، أخر مرة التقيا حدثت بينهما مشاكل كبيرة اضطر أبي للتدخل ليفصل بينهما "
هتف الغلام وكأنه وجد إجابة لسؤال يحيره:" لهذا لم تأتِ إيا لاستقبالها "
" أيا لا تأتي لاستقابلها من الأساس حتى قبل أن يتعاركا لم تكن تستقبلها ولا يجب أن تستقبلها أساسا، هي ليست فردًا من العائلة "
تعجب نولان من الطريقة التي تتحدث بها لير عن والدتها، رغم أنها لم يسبق أن نادت أبوها باسمه، فها هي تقر بأن أيا ليست فردًا من العائلة فسأل :" هل أنتما متخاصمتان؟ "
اندهشت لير :" أنا وأيا! لا لسنا كذلك، لم؟ هل أخبرتك أنها متضايقة مني؟ "
" لا لم تخبرني، لكنكِ تتحدثين عن والدتك بطريقة سيئة " وجالت في نفسه فكرة غبية بأن لو كانت أمه حية ما تكلم عنها بسوء قط.
توقفت لير عن السير وحملقت في نولان وعلى وجهها تعبير ساخر ممزوج بالإشفاق واردفت :" هل تعتقد أن أيا هي أمي! "
سأل نولان بدهشة:" أوليست زوجة لوكياس؟ هل تزوج لوكياس قبلها؟ "
سيطرت على لير موجة من الضحك الهستيري لا يعلم نولان سببها وقالت والضحك يقتل كلماتها :" لا لا، أيا ليست أمي، وأيا وأبي ليسا متزوجين من الأساس "
استفهم نولان مستغربًا :" أنتِ ابنة زوجته الأولى؟ "
توقفت لير عن الضحك تدريجيًا وأحمر وجهها بشدة وهمست بصوت متقطع :" أبي لم يتزوج أبدًا "
زاد استغراب الفتى :" إذن كيف تكونين ابنته! "
ظل نولان معتقدًا أن لوكياس متزوج من أيا وأنجبا ابنة واحدة هي لير إلى أن غيرت لير هذا المعتقد وها هي ذي تشتت عقله بقولها أن لوكياس لم يتزوج سابقًا.
أجابت لير بصوت متقطع هامس :" أنا ابنته غير الشرعية، تفهم أليس كذلك؟ لن أفسر هذا أيضًا "
عزيزي القارئ، إنني لا أمنعك أن تلوم لوكياس وتشمئز منه، ولست أكترث حتى، العار على لوكياس حتى يموت، لكنني أُحذرك وأمنعك أن تلوم لير على شيء لا دخل للفتاة به، إن كنت عادلًا تلوم لوكياس، الخطأ خطأه هو، ما ذنب لير! أستطيع أن أعدكَ أني سأتي وأضع خنجري هذا في صدرك إن حاولت مضايقة لير بشأن هذا الأمر.
أجاب نولان بتردد وهو نصف فاهم:" صدقًا؟! لم أعرف هذا من قبل، هذا يُؤكد أن لوكياس أحمق كبير"
دافعت لير :" ويحك، لا تنسَ أني ابنته، هل تريد مني أن أخبره "
قال الغلام بتحدي:" اذهبي وأخبريه إذن "
في ثانية التفت لير وعادت أدراجها بينما لحق بها نولان وغير اتجاه السير متحججًا :" ألا يفترض أن سير بانتظارنا؟ "
سير لم يعد بانتظارهما بل لقد نسي أمر نولان، وجلس يقلب في صفحات أحد الكتب مندمجًا مع ما كُتب داخله، لو أنهما لم يقدما لما تذكرهما سير.
قال والضيق بادٍ على وجهه :" تأخرت يا نولان جدًا "
برر نولان :" أحضرت لير معي "
" لير، ماذا عن السيدة جُوربِين؟ "
" هي بخير مع أبي، والكتاب أيضًا و.."
هنا قاطعها نولان وقد تذكر قلمه :" وقلمي"
" حسنٌ، تعاليا اجلسا، لدي بعض الريش هنا، ونسخة أُخرى من الكتاب ستظل معي فهي الأخيرة "
كان درسًا قصيرًا لا يتذكر منه نولان الكثيرَ عدا أن سير قال أن هناك كلمة تحمل معنيين: يأتي إلى مكانه الأول أو يعود، وراح يوضح متى يصبح معناها هذا ومتى ذاك ومتى الأثنين، وكيف تعرف المعنى من سياق الجملة وأشياء غريبة أخرى، انتهت لما أغلق سير الكتاب وقال غاضبًا :" لير هل مازلتِ معنا في هذه الغرفة؟ هل تسمعينني أم أنكِ في وادٍ بعيد، نولان هلا كررت فضلًا أخر كلمة قلتها؟ "
أمضت لير فترة الدرس كلها تقريبًا تفكر في جُوربِين وأمرها، أما نولان فقد وضعه السؤال في ورطة فأجاب بعدما تلاعب بالكلمات :" قلتها "
نظر له سير من طرف عينه نظرة تشبه تلك التي يمنحه إياها سيكتور إن أجاب إجابة خاطئة، بدا واضحًا أنهما تعلما عند نفس المعلم وقال دافعًا الولدين بكلتا يديه :" اذهبا، اذهبا الآن ونكمل درسنا في وقت لاحق، كلاكما سارح في عالم آخر "
في وقت متأخر من تلك الليلة، اتخذ سير مقعدًا إلى جانب رف أعشاب وأخذ يقلب بعضًا منها في يده، وفرز منها ما هو مميز عن غيره، وإذا بالصبي يُفزعه.
كان نولان نائمًا على السرير في الزاوية، فاعتدل فجأة جالسًا، وعلى وجهه تعبير فزع أكبر من المُرتسِم على وجه الرجل العجوز.
همس الشيخ وهو يجلس بجانبه ويفرك شعره بيده ضاحكًا :" ما بك؟ هل رأيت حلمًا سيئًا؟ "
لم يجبه نولان بأي شيء وإنما جلس في مكانه وجسده يرتعش، لقد فهم أخيرًا ما يُقال له كل ليلة.

من لا تراهمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن