سحرُ الموتى

197 17 21
                                    

"قبل استرسالك في الطلب، يجدرُ بِك أَنْ تجيب سؤالًا يُحيرني"
خَرَجتْ الكلماتُ طازجةً مِن لسانِ لوكياس آراتاك، الملك الجنوبي الذي يَدَّعِي انشغاله بكتابةِ رسالةٍ خاصةٍ بينما هو في الحقيقة يهدر حبره في حروف لا تتداخل مع بعضها، وعلى المقعد أمامه قَعُدَ ضيفه.
رد الضيف باسمًا بينما يمد يديه وكأنه يرحب بكل ما يأتي به آراتاك:" تفضل طبعًا يا مولاي"
" هل يُولد السحرةُ سحرةً أَم يصبحون سحرةً؟ ثم أخبرني كيف تميزهم؟"
ازدادت ابتسامة ضيفه المروعة:" حرى بالسؤال أن يصبح اثنين؟!"
" سؤال يَجُر آخر"
ضحك الزائر باصطناع ضحكة طفيفة، ثم وضح:" الخياران صواب، يمكن للساحر أن يولد بمواهبه، أو يتعلم السحر على يدٍ غيره" وابتسم باصطناع مجددًا واسترسل:" الخيار الثاني ممنوع بالطبع، وفقًا لأوامركَ يا مولاي"
" أما بالنسبة لتمييز السحرة، فدائمًا يُصاحبهم ظواهرٌ عجيبة لا يتحملها العقل البشري، خاصةً الأقل عمرًا وخبرةً منهم"
رفع كبير السحرة رأسه لِيُقابل سيده وقال:" لكن أخبرني يا سيدي الموقر، هل تشك في شخص ما؟"
خفض الملك رأسه إلى أوراقه؛ مفارقًا بين عيني كُلٍ منهما، وتهجم وجه لوكياس حينما تكلم:" سألتك فقط من باب الفضول، وإلا أعلمتك، كما هو مُتَفقٌ بيننا"
" تاليًا، سيد ماجي، تفضل، اذكر حاجتك"
" نعم نعم، جِئتك في أمرٍ خطير ، مثلما تعلم يا مولانا، فإنا معشر السحرة متفرقون، ومنتشرون فرادًا في بقاع المملكة، فامنحني الإذن أُنشِئ جماعةً للسحرة، وأضمهم في مكان واحدٍ تُحكم سيادتكم السيطرة عليه"
فور أنهى ونجارديَم خطابه المشوق، صرح لوكياس بكلمة بسيطة واحدة دون أن ينظر لعين الساحر:" لا"
بُهِتَ الضيف فهتف بسرعة:" مولاي، ذا سَيَكُو.."
" لا تناقشني في قراراتي"
هنا انتهى النقاش، وبرز انعدام الرغبة في لَمِ شمل السحرة واضحًا؛ خشيةَ ما سَيُسبِبونه من ضرر إذا توحدت كلمتهم فعلًا، بقاؤهم منفصلين دون اتصال بغيرهم من السحرة أقل إنتاجٍ للضحايا.
على الرغم من رده القاطع ظل الملك متشبثًا بشكه في ونجارديَم ماجي، فالسحرة لا أمان لهم، ليست تميزة عرقية، بل حقًا لا يُؤمَن جانبهم، وخير دليل على ذلك أن الوحدة الذي يستأذن ونجارديَمُ فيها لوكياسَ قد تشكلت فعلًا دون علمه.
" أمركَ، مولاي" انحنى الرجل وخرج، وهو متمسك بأي نظرة إلى عيني لوكياس تُمكنه من رؤية ما يفكر فيه، وما ينوي عليه، لكنه فشل.
خرج ونجارديَم من عنده ساخطًا، كيف يرفض الملك تشكيل حزب من السحرة موجود بالأساس! ما تلك الوقاحة! وعلاوة على ذلك ظل يبعد ناظريه عنه! ألا يثق الملكُ بكبيرِ السحرة!
تجمد المشعوذ عند باب مبنى القصر، وظل يُجيل بصره في كل شبر ينعكس منه الضوء، يفكر مليًا بحال القصر، وعينه امتلأت بالشموخ، يَعِد نفسه بالقصر، ويُمنيها بمُلكِه، ستُؤذي المشاجرات صاحباتها، وستُسقِط الممالك بعضها، وحينها سيستغل الفرصة ليعيد أمجاد شعبه، ما يَقوَى البشر على السحرة، وكيف يَقوَى البشر على السحرة!
انقطعت السباحة في الأماني عندما أزاحَ الساحرَ رجلٌ تقريبًا بمثل عمره، يرفع بكلتا يديه دلوي ماءٍ تنسكب منهما المياه التي بللت حذاء ونجارديَم، أكمل الرجل طريقه إلى الحديقة الخلفية بلا اكتراث ولا اعتذار.
ياله من رجل حقير، تافه، لا يفكر عقله إلا بزوجته التي تطلب الطلاق، لديه ثلاث صبيان وفتاة، والده صانع أحذية، ويبيت بالطابق الأرضي للمبنى الأندريسي، وقد نسي المقص، كم البشر أغبياء! يتركون أعينهم بدون غطاء!
انقطعت السباحة في احتقار البشر هذه المرة، بواسطة غلامٍ صغير مر خلسةً بجانبه، وهو يعدو بسرعةٍ صاعدًا السلالم، حتى بالكاد أُعجِب الساحر بلون عينه.
صبي في الحادية عشرة، أحيطت عيناه بالازرقاق؛ نتيجةَ سهره، للكتاب الذي يحمله دخل في هذا.
لقد أجل إنهاء الكتاب أسبوعين، وأقسم اليومَ أن يتمه، الكتاب عن تاريخ الجنوب، مع أنه ليس جنوبيًا، بالضبطِ هذا هو مصدر قلق الملك بشأن السحر.
ارتسمت على وجهه إبتسامة سخيفة، حقيرة، ماكرة، بينما يراقبه يختفي، وأكمل انشغاله بمشاغل وذكريات الناس، الذين هم عنده أقل أهمية وأحط قدرًا.
طلعَ زَيْن الدرج في عجلة إلى - وأي مكانٍ غيره؟! -  حيث تخترق شجرة الغوثهام النافذة، هناك التقطت عينه موجات ضوئية تعكس صورة لير وقد خرجت للتو من الجناح.
قالت بحماسٍ متزايد:" والدي مغادرٌ صباح غد"
" إلى أين؟"
هتفت:" للصيد"
اردف بضجر: " وماذا تريدينني أن افعل؟"
تذكرت لير الخلاف بينهما فأوقفت تزايد حماسها، وأبدلته بتقضيبة صغيرة:" ألن تأتي معنا؟!"
" أنتِ ذاهبةٌ معه!"
تأتأت بعدم استقرار:" نـ...نعم، وأودك أن تأتي معنا"
"وأنا لا أفضل الذهاب.... مع والدكِ" فكرة البقاء مع لوكياس لأكثر من دقيقتين في مكان واحد تزعجه، هو بالكاد يتحمل الكلام معه.
قبل أن يدفع نولان باب الجناح صاحت لير:" سأسامحكَ بعدها"
سعى زَيْن في تجاوز حدود الخصام بينهما - لما ضاق من معاملتها الجافة - بكتابٍ عن ألة الكمان، وتجربة المديح في عزفها عليه، مع أنه لا يجد فيما تعزف لحنًا، ولا يميز أي عاطفة فيه، لكنها استمرت في جفائِها، وهي مخطئةٌ مثله تمامًا.
أشار نولان بسبابته وكأنه يهددها:" وستتكلمين معي بطريقة خير من هذه"
" أعدكَ سأفعل، هيا، اذهب واستأذنه القدوم معنا" أتمت جملتها، ثم جذبته إلى السلالم.
عزيزي القارئ، إنكَ طيبٌ حد الانخداع، نواياك سليمةٌ لدرجة أن تصدق هذه المسرحية على أنها واقعٌ، لا عزيزي القارئ، ليس الجميع يُؤتمن  على التصديق، وأولهم لير.
لقد صدَّق زَيْنٌ ليرَ كما صدقتها أنت، كلاكما مسكينان بريئان، الحقيقة أن لوكياس فعلًا ذاهب للصيد، والثغرة أنه لن يصطحب لير معه، وإنما سيستبدلها بصديقٍ له.
بعض التودد لقائد الجيش - صديق لوكياس - سمح لها بالولوج إلى قاعدة بيانات الصديقين عن الرحلة، أما بعض التودد لوالدها، لم يمكنها من مشاركتهما الرحلة، فقررت أن الجماعة خيرٌ من الوحدة.
توقفت لير أمام مدخل الغرفة التي تقيم بها الملكة، ودقت الباب بعجلةٍ، ففتحت لها أَيِا والابتسامة نادرًا ما تفارقها، ثم نادت:" لوكياس، لديكَ زوار"
أطفَأ الرجلُ لهبَ شمعة باتت على طاولة، وراح يجيب زواره، وإن كنت تستفهم عن ما جرى بين لوكياس وزوجه، وكيف تصالحا في النهاية، فإني أُرجح أنهما غفرا لبعضهما، حتى أسعد البيوت تحدث فيها المشاكل.
صاح لوكياس فور وقعت عينه على ابنته:" قُلتُ لا"
احتجت لير:" نولان يرغب في القدوم أيضًا" ووكزته هامسةً:" تكلم"
شكك لوكياس في صحة ما تقول:" وكيف عرف نولان؟" فيما رمقها نولان بنظرات مصدومة، أليست هي من أصرت أن يأتي؟!
تدخلت العاقلة بينهم:" لِم لا تصحبهما ولو لمرة؟"
زفر لوكياس:" بحقكِ، إنهم أطفال"
صاحت لير بسرعة:" هو الطفل" مشيرة للصبي الأصغر منها، والذي قرر أن لا يتدخل، متجاهلًا انحيازَ لير لنفسها، ومساندتَها لزَيْنٍ أو معارضتَه، اللتين بالنسبةِ لها سواء إذا مَكَّن أحدهما السبيل لِمَّا تبتغيه، لذا قرر ألا يتدخل، فذهابه معهم أو عدمه بالنسبة له سواء كذلك، يظن أنه لو قرروا أن يصطحبوه أو قرروا ألا يصطحبوه فهو في الحالتين لن يصيبه ضرر أو نفع.
" مصير الأطفالِ أن يَكبروا يا لوكياس"
تنهد الملك مستسلمًا:" حسنٌ إذن، لاقوني عند البوابة قبل فجرِ غد"
هللت لير فرحةً، أما نولان فسار مبتعدًا عائدًا للجناح، حيث ارتمى على منضدةٍ تحت رفِ التاريخ، مُسنِدًا رأسه عليها، ووضع الكتاب على رجليه أسفلها.
بعدها بفترة غير طويلة سأله سير أن يعطيه وريقاتٍ استقرت على نفس المنضدة، فلم يجب سؤاله، حتى بعد تكراره عدة مرات، وبالاقتراب منه تأكد سير أنه قد غفا.
هكذا خَرَّب زَيْن مواعيد نومه، وحول نفسه لكائن ليلي نسبيًا، نام قبل تعامد الشمس تقريبًا واستيقظ مع غروبها، فلم يستطع إغلاق عينه طوال الليل، وهي فرصة مناسبة لإنهاء الكتاب في سكينة الليل، بعد تأجيله أسبوعين كاملين.
قبيل الفجر، في وقتٍ يسبق بزوغ الشمس، قرعت لير باب الجناح المُظلمِ برفق، وجنبت الباب بحيث تلمح مَن خلفه، فما رأت إلا عتمةً يشقها ضوءٌ منبعثٌ من لهيبِ شمعةٍ مستترةٍ بين الأرفف.
شجعها الضوء على الدخول، واكتشاف مُشعلِه - هي تعلمه من قبل - فدخلت وهي تنادي هامسةً:" نولان"
انطفأت الشمعة، وبرز لها نولان من خلف رف كتب، وقبل أن يتساءل عن سبب بقائِها مستيقظة تكلمت هي بنبرة همس أعلى:" هل نسيت موعدنا؟! هلم؛ أبي ينتظر"
تنحنح زَيْن قليلًا يتذكر، وحين استوعبت ذاكرته ما تقوله لير، عاد إلى طاولته وأعاد كتاب التاريخ الجنوبي لموضعه، وانطلق يتبعها.
لقد نسي تمامًا أمر الرحلة، ظل مستيقظًا لأنه ببساطة لا يشعر بالنعاس، إلى جانب رغبته في إعادة الكتاب لمكانه، دون أن يضطر لسحبه مرة أخرى.
" وجدته" صاحت لير حين اقتربا من البوابة حيث وقف لوكياس مع صديقٍ له تقريبًا يكبره بسنوات بسيطة العدد، قمحي البشرة، أسود العينين، له شعر مموج قصير بني اللون، على جبينه امتدت ثلاث انثناءات من الجلد مستقيمة، أسفلها حاجبان بالكاد يظهران، وبدا وجهه أقرب للمربع، يُظهِر القسوة لِمَن يراه لأول مرة، على الرغم من أنه لطيف، ودود، لبق اللسان، خفيف الظل.
وكز كتف لوكياس فور لمح الولدين قادمين:" أصدق أن لير أبنتك، لكن هو فلا" ناظرًا إلى صديقه بابتسامة ومكر.
رد لوكياس بضجر:" صديقٌ للعائلةٍ يا ڨَاتْر" 
ضرب ڨَاتْر بقوةٍ على صدره كتحية، ونزع قبعته، ثم قال محتفظًا بابتسامته: بِماذا أُناديكَ أيها الصديق؟"
ابتسم نولان في المقابل:" نولان"
" ياله من اسم، هل اختاره لكَ والدك؟"
رمق زَيْن لوكياس لثانية ثم أجاب بإيماءة ظنًا منه أن هذا ما أقنعه به لوكياس، فجلجل صوت ضحكات ڨَاتْر، بينما مرر لوكياس يده على وجهه برفق والاستياء بادٍ عليه:" أُقسم ليس ولدي، امشِ، امشِ يكفينا تأخرًا"
توجه ڨاتْر للأميرة الصغيرة، وانحنى حتى قاربت رأسه أن تلامس الأرض وهتف:" السيدات أولًا"
" هذا من ذوقك أيها القائد" وتناولت أجزاء من بنطالها، وكأنها ترد التحية، ثم تقدمت، فصدمها بقوله:" أوه، مولاتي المسكينة، لا أحب أن تُفطر بي الفلك، أفضل أن أكون الغداء"
تنحنحت لير:" تمزح!" وظل نولان يضحك لبرهة.
لمعلوماتك: الفلك الذي تحدث عنه ڨاتْر هو حية عملاقة، يُقال أنه لولا خوفها اللّٰه لابتلعت الخلق، وإن كنت تتساءل عن الناقلِ لنا هذه المعلومات، فاعرف: لم يرَ الفلك أحدٌ، ولم يعش أحد رآه.
أما عن بنطال الأميرة، فالأميرة لا ترتدي أبدًا ومطلقًا كهذه القذارة، الأميرة ما لها إلا فستانها ذو جمال البساطة، غالبًا ما تفضله أخضرَ، منسوج عليه أشكال لأوراق الأشجار، وتعقد شعرها في ضفيرة تنتهي دائما بدبوس ذهبي كالفراشة، ولديها واحد فضي تعلقه على صدرها، يحمل رمز النار.
هذه المرة ارتدت كوالدها وصديقه تمامًا، بنطالٌ لا يناسب أميرة، قديم، رث المظهر، ووشاح شكى حاله فوق كنزة سوداء.
وانظر للملك الموقر، كيف نزع عنه عباءته السوداء ذات البريق الفضي، وصار وكأنه بائع خضراوات متجول، وأما قائد الجيش، فصار مظهره ظريفًا بعدما قرر لف وشاحه حول رقبته عوضًا عن إسداله خلف ظهره.
لا يا عزيزي، لا تسأل عن مظهر زَيْن، فإنه منذ زمن قد اعتمد - قسرًا - مبدأ الحياء والعفة، فلا تجده مطلقًا يرتدي ما يناسب مقاسه، بل ما يزيد عنه بدرجات، ما كانت ملابسه إلا أكبر منه، جرب أن تكون نحيلًا، ثم ترتدي سترة والدك، وانظر في المِرآة.
ذا الزُهدِ في الكسوة ليس إلا زهدٌ فاتِرٌ، هدفه إبعاد الأنظار، وتجنب المشاكل فحسب.
دار أربعتُهم حول سور القصر، متجهين إلى الغابة حول جبل الأندرِيس، وما منع زَيْن نفسه، وما استطاع كبت اندهاشه بكل ما حوله، بدءًا من سور القصر وحتى المدينة المرتمية بعيدًا عنه، وأنها على الرغم من مظهرها البِدائي، تبدو أوسع من قلعة والده وقصر خاله.
داعبه خاله وهم سائرون على عشب طويل:" أراك منبهرًا؟"
"لم يسبق أن غادرت القلعة... مستيقظًا"
" إذن فقد حققت بعض أمانيك، أستحق الشكرَ على هذا"
اعترض زَيْن:" لم أتمنَ يومًا ذلك!"
أغلظ صوت لوكياس:" ما زلت أستحق الشكر" فتقدم نولان بضعة خطوات سريعة ليُجاري ڤَاتْر في مشيته، تاركًا لوكياس يسير بمفرده خلفهم.
بلغ الأربعة غابةً كبيرة المساحة، مليئةً بالاشجار من مختلف الأنواع، والعشب فيها قد طالت قامته، برزت الغابة بهيجة الطابع، يتخلل شعاع الضوء معظمها، وأوراقها خضراء حية، تعشش عليها طيور تتهامس، ويكأنها تعرف بقدوم صائدين، حتى ظن الدُخلاء أن الأشجار تجيب على همس الطيور.
تسابق الرجلان على خمس أرانب برية، بلا جائزة مادية أو مقابل، فقط يحتفظ الغالب بلقب الغالب، وتسجل هزيمة في تاريخ المغلوب.
أحسن ڨَاتْر اختيار الحيوان، إذ لم يظهر منذ وطِئت أقدامهم الغابة كائنٌ، وظن نولان الرجلين مغفلين في البداية؛ لأنهما قررا الصيد في مكان لا حيوانات فيه، ولا يمكنهما إلا اصطياد النباتات، لاحظ لاحقًا أن الحيوانات تتخفى في حجور لا يلمحها إلا بالتفتيش  عنها.
ربت لوكياس على جذع شجرة موز قائلًا:" نلتقى عندها قبل التعامد" وافترق الرجلان حتى غابا عن مجال النظر.
استفهم نولان بينما يُراقب المكان حوله:" إذن، ستتركينني بمفردي؟"
" لا أعتقد"
" ألن تذهبي معهم؟"
التفتت لير حيث اختفى والدها قائلة:" لا أحب الصيد"
تعجب الغلام:" ومع ذلك أصررت أن تأتي مع أبيك للصيد!"
" أنا هنا لأجل سبب آخر"
" بحقكِ، أعطني القوس والأسهم" وعينه مثبتة على القوس حول خصرها.
فكت لير القوس مع أسهمه، وألقته إليه ثم سألت:" ماذا أنتَ فاعلٌ به؟"
" أُجرب حظي في الصيد، أتية؟"
رفضت الفتاة الحركة:" إلى أين؟"
أجابها وهو يقفز فوق جذع شجرة نائم على الأرض:"أي مكانٍ يسكن به أي صيد"
لحقت به لير إلى كل موضع فتش فيه عن أرنب بري، فما نالت من ذلك إلا الإرهاق، وهدرًا للجلوكوز المختزن بجسمها، على الجانب الآخر كسا نولان سعادة ونشاط غامران، ولم يتوقف إلا لَمَّا لمح واحدًا فراؤه يغلب عليه البياض، خالفت هذه القاعدة مناطق عدة في جسده الصغير، كالبقعة حول عينيه، وذيله، وأذنيه.
سكنت الدنيا للحظات، وانكتم صوت القبقبة حين ثَبُت الولدان، لم يصدر تاليًا إلا صوت السهم الذي التقطه نولان من الجعبة وهو يودع أخوته السهام.
ورغم حرص نولان الشديد أن لا يخيف الأرنب، شعر الحيوان باضطراب خلفه، فالتف وشرع يركض مبتعدًا.
صاحت لير:" لا تقل أنك..."
ما كادت تنهي جملتها، حتى عاد وتر القوس لوضعه المعتاد، بعدما افلتته يد نولان، وأفلت هو السهم، واستقر بظهر الحيوان البرئ.
أكملت لير:"... ستقتله، لقد فعلت!"
تبددت السعادة التى احتلت وجه نولان جراءَ تصويبه السريع، حين ظهر لوكياس من خلف نخلةٍ استقرت خلف الأرنب، ومع ظهوره ظهر الضيق على وجهه، وفور لَمَحَه زَيْن ألقى بالسهم والنشاب لصاحبتهما التي يستحيل أن يوبخها والدها لسبب كهذا، إلا أن لوكياس اكتفى بتقضيبة، ولم يوبخ أحدًا، ثم مضى يبحث عن صيد غيره.
تحركت لير مسرعة باتجاه الأرنب النافق، وانحنت قربه، فكسرت السهم وأخرجته ببطء من جسده.
وقف نولان يراقب لير تحفر قبرًا للأرنب على مقربة منها، فتكلمت:" إن وُجِدت هواية سيئة فلن تكون بسوء القتل" لم يفكر نولان من هذا المنظور
وقى نولان نفسه من سهام كلمات لير بدرعٍ قماشية:" لا أتخذها هواية"
بعدما انتهت مراسم الدفن، همس نولان للير في محاولة لتخفيف شعوره بالذنب:" هل أتلو بعض كلمات العزاء؟"
علا صوت لير باستغراب:" وأنت القاتل!" فكتم زَيْن كلامه.
نهضت لير، ونفضت يدها، حدقت بضعة دقائق بالقاتل كما سمته وهتفت:" لا تنظر كثيرًا للقبر" فعدل نولان اتجاه رؤيته، ولحق بها بينما تغادر.
" إلى أين ذاهبون؟"
" لأفضل مكان قد تجده في هذه الغابة"
كان العثور على أفضل مكان قد يجده في هذه الغابة عسيرًا بعض الشيء، تطلب منهم اجتياز منطقة كثيفة الأشجارِ ذات الجذوع المتقاربة، المشكلة في اجتياز هذه المنطقة هي أشواكُ الأشجار البارزة.
ظهر جدولٌ بعد ذلك، استمرت لير في السير بمحازاته، وعند نقطة معينة، من ذاك الخط المستقيم فارقا الجدول إلى الداخل، وشك نولان أن لير تعرف أين تتجه.
اعوجت الأرض بشدة تاليًا، وتصلبت بعد أن كانت لينة، وظهر ظل  كبير يغطيهما، ومع التقدم برز جبل الأندريس شامخًا، شاهقًا، مجاوزًا، السحاب.
حين دارت لير ساحبة زَيْنًا خلفها استطاع تمييز أشجارٍ للغوثهام صغيرة بارزة من تربة صالحة، بالكاد نمت زهورها ولم تتخشب بعد، وصل عددهم لتسع شجيرات صغيرة.
" أنا زرعتهم هنا" قالتها لير بفخر، ثم تابعت:" كثيرًا ما قَدُمتُ لِهنا مع أبي"
" تظنين أنها سوف تتجاوز ارتفاع الجبل؟"
" ستخبرنا الأيام"
" ربما يموت كلانا قبل أن تفعل"
غير نولان نبرة صوت إلى الحماس:" كيف نسقيها؟"
" لا أعرف"
فكر لهنيهةٍ ثم أنزل الجعبة من ظهره، وأفرغ ما بها من سهام وتركهم للير تمسكهم، وسار متجهًا للجدول.
كان الجدول منخفضًا عن مستوى جذور الأشجار، مِمَّا اضطرهم للحذر أثناء النزول، والمشقة أثناء الصعود؛ تجنبًا للسقوط من المنحدر في ماء.
تحدث زَيْن وقد رفع رأسه بزاوية مقدارها تسعين درجة ليرى قمته ولم يرها:" لا أظنه شديد الارتفاع"
ردت لير:" إذن لا أظن تسلقه يستغرق وقتًا طويلًا" وحدجت نولان بنظرة خبيثة.
تهرب نولان:" ليس اليوم"
دفعته لير ضاحكة باتجاه الجبل:" هيا، وأتِ معك بصحن جليد من القمة، كي أتأكد من بلوغك إياها"
التف زَيْن باسمًا:" ألا تعتقدين أن والدكِ قلق عليكِ، لِنعد، تكاد الشمس تتعامد"
"لِتهرب، لِتهرب" بابتسامة أكثر خبثًا.
شد نولان ذراعها قائلا:" امشي"
صحيح أنهما مشيا حتى وجدا شجرة موز، وصحيح أنهما جلسا تحتها زمنًا ينتظران لوكياسَ وڨاتر، لكن لا أحد منهما أتى، وأمضيا الوقت بِلا فائدة ولا منفعة، سوى أن لير تكرمت ومَنَّتْ على نولان بدبوس فضي، لكي يُعيْن كمه الذي مزقته أشواك الأشجار على التماسك حتى يعودا للقصر.
بدأت حرارة الشمس تلتهب، وقاربت أن تتعامد، إلى جانب إحساس نولان بانعدام الأمان، وأكدت له أصوات الحركة الصادرة كلما عَمَّ الهدوء مخاوفه، فتكلم نولان مقترحًا وسيلة للهروب:" تأخر والدكِ بشدة، ستأكلنا الشمس لو انتظرنا أكثر، تعرفين طريق العودة للقصر، صحيح؟"
تأتأت الأميرة:" ليس بالضبط"
قام نولان من مجلسه تحت الشجرة، و قف لثوانٍ يدقق النظر حوله ثم صاح فجأة:"لقد ضعنا"
هدأته لير:" هم قادمون، اصبر"
علا صوت نولان ضاحكًا، وهو يشير إلى شجرة موزٍ أُخرى بعيدة عنهم:" انظري"
ركع غير قادرٍ على تكملة كلامه:" الغابة... مليئة بأشجار الموز" سحب شريط جملته، فصدرت سريعة، مشوشًٌ أخرها.
نظرت لير حولها، ولاحظت على الفور انتشار أشجار الموز لمسافات بعيدة، وأدركت متأخرًا أنهم نسوا تمييز الشجرة التي سيتقابلون عندها.
الضحكُ شديد العدوى، ما تكاد ترى مَن يبتسم حتى تبتسم لا إراديًا، فيروسٌ جميل ينتقل بسرعة شديدة إلى جميع المخالطين، يا لِسرعته في إصابة لير، إذ بدأت تقرقر هي الأخرى، في أوضح مثال قد تراه للضحكِ من الخيبة.
هدأ الضحك تدريجيًا مع إدراك المصيبة التى وقعا بها.
" إذن..؟"
" إذن ماذا؟"
" يفترض بنا أن نجد ملجأً نختبِئ فيه، أكره الأصابة بالحمى"
ابتسمت الفتاة ابتسامة ساخرة:"أنت لا تعرف الحمى على حقيقتها أساسًا"
تجاهل زَيْن هذا التمييز العرقي، واقترح:" هل نعود لسفح الجبل؟ هناك يوجد الظل"
هتفت لير:" نعم نعود، لعل أبي قَلِقَ علينا فبَحَثَ هناك"
استغرقت رحلة العودة لهناك وقتا أطول، ومجهودًا أشد، فبات الطريق على امتداد الجدول يتلظى بالحرارة، وانتشرت الشمس في معظم أرجاء المكان، ولإن الأشجار تُظلل ما تحتها، اختار الصبيان أن يتحملا أشواك النباتات على تحمل أشعة الشمس المباشرة وقت تعامدها، ذاك قرارٌ لا يُتَخذ إلا في مملكة الجنوب.
كان زَيْن خائفًا بعض الشيء من الرجوع لسفح الجبل، أو الأسوأ: الانتظار عنده، وهو يعلم ما يوجد به، صحيح هو لا يدري ماهية الموجود الحقيقة، لكنه متأكد من أنه شيء خبيث، يمكث أعلى الجبل؛ لِيظل يشعل النيران ويُطفِئها، والأَمَرُ إن قرر هذا المخلوق استكشاف ما عند السفح، الجبل كله لا يبعث الطمأنينة في النفس، ولا يصح أن يستخدم كملجأ.
على عكسه أمِلت لير أن تجد والدها وصديقه هناك؛ إذ اعتادا زيارة ذلك المكان، لذا فهو أول مكان قد يخطر بِبَال لوكياس الذهابُ إليه إن فَقَدَ ابنته.
حُقَّ أملُ لير، وابتهجت نفسها لَمَّا سمعت صوت ڤاتر يأتيهم من اليمين وهو يصيح ليسمعه أحدهم:" كانوا هنا" أحدهم أشقر الشعر، مشروخ الخد، قاتل والد زَيْن.
خرجت لير من بين جذوع الأشجار راكضة حين وقعت عيناها على والدها، وارتمت في حضنه فرحة بالعثور عليه، فيما قرر نولان تجنب الإصابة بالحمى، واستقر في مكانه، يُراقب لير وهي تشير إليه من بعيد، بعدما سألها لوكياس عنه.
لم يُضطر زَيْن لِللَحاق بالجماعة، وإنما لحقته الجماعة؛ وذلك اتقاءَ أشعة الشمس الحارقة، وفضل الجميع - كما فعل زَيْن ولير قبلًا- شوك الأشجار على حر الشمس.
تكلم لوكياس موضحًا موقفهم:" القصرُ أبعدُ من أن نصل إليه قبل أن تتعامد علينا الشمس بالكامل، لذا نبقى تحت ظل نَزْلِ العواصم إلى أن تعفو الشمس عنا"
أي نعم، اسم النزل نزلُ العواصمِ، وهذا بعد الترجمة.
كلم ڨَاتْر نفسه:" لكم كرهت ذاك المكان"
" أعترف أنه يضم كل فئات المملكة المنحطة، لكنه يظل الملجأ الأخير"
صَدَق لوكياس فيما قاله، لكم كان النَزل قريبًا منهم، هم عبروا جسرًا فوق الجدول عدوًا، ثم لاح النزل لهم على طريق سفري، حيث رُصت عرباتٌ وخيول وهوادج أمام باحته.
صَدَق لوكياس فيما قاله، لكم ضم النَزل كل فئات الجنوب المنحطة، وكل أشكال الفساد التي رأيتها ولم ترها من قبل، خلف الباب الخشبي مجموعة من الدجالين ملتفةٌ الناس حولهم، وجماعة من شاربي الخمر حاوطوا النادل، وتقريبًا من وسط كل ثلاث طاولات، ستجد طاولة تجلس عليها امرأة تضحك ضحكة مجلجلة تخلو من العفة، لرجل ماجن يخلو من العفة.
النزل شديد بساطة الحال، مبني من الخشب ما عدا عمدانه مصبوبة بالأسمنت، وله طابقان، طابق يعمل كملهى حرفيًا وهو الأوسع ، والطابق العلوي يحوي غرف للاِستراحة والنوم لأولئك العازمين على المبيت.
ترتيب الطابق السفلي بارز التواضع على عكس قاطنيه، في مواجهة الباب الخشبي وجدت طاولة كبير تحمل شكل القوس، ملتصقةٌ حوافه بالحائط، ويحصر وراءه رجل عجوز نحيل أسمر مسئول عن تحضير الطعام والمشروبات، وعلى يمينه سلالم خشبية تحملك لأعلى، ثم اصطفت طاولات مستطيلة، تستدير حوافها كلما اقتربت من الباب.
بدا لوكياس مرتبكًا لَمَّا دخل إلى هذا المكان بالطفلين، وإني لألومه على شيء كهذا، حتى أنه أمر لير أن تجلس بجوار زَيْن ووجهها ناحية أبيها، وظهرها لبقية النزل، رافضًا بذلك طلبها بأن تجلس بجانبه، هم شغلوا مائدة أقرب ما وجدوا للباب، حولها أربع مقاعد، ڨاتر في مواجهة زَيْن في المقعدين الأقرب للحائط.
همس لوكياس بصوت خفيض مشيحًا نظره عن رجلٍ مستكين لامرأةٍ:" تَبًا لنَزْلٍ كهذا"
رمقه ڤاتر بنظرة خبيثة مبهمة أطالها فور خرجت الكلمات من فمه، فصرخ مزمجرًا:" لا تنظر إليَّ هكذا" فأبعد ڨاتر ناظريه عن صديقه، وشغل نفسه في تسلية الولدين بحكايات عن طائر الرخ.
أنا أرى أن لوكياس يستحق أسوأ من النظرات المحتقرة، والتهامسات المزدرئة، وأعيبه كلما تكلم عن الفضيلة، ثم أرجع فأغفر له، وأُعلل نفسي بأن النفس تتغير، ألا تفعل؟
ألا يلوم المرء نفسه؟ ألا يُغلظ إليها في العتاب؟ ثم ألا تستكين؟ أليس مُمكنًا أن يحدث العكس؟ تُرى من يلوم الآخر؟ النفس تلوم صاحبها؟ أم صاحبها يلوم نفسه؟
لو تأملت السؤال ستشعر كأنهما شخصين منفصلين، غالبًا ما ينحني أحدهما للأخر في النهاية.
صحيح أني لا أعرف إجابة السؤال، لكني وجدت أُناس يُغلظون في تأديب أنفسهم، أو تُغلظ أنفسهم في تأديبهم، هؤلاء يُعاتِبون أو يُعاتَبون على أتفه الأسباب، تراه لا يُسامِح ولا يُسامَح على أقل خطأ ارتكبه، حتى تصل في بعض الأحيان إلى أن يفرض على نفسه العقاب أو تفرضه عليه نفسه، وربما يقسو العقاب كلما اشتد الذنب، هذا بالضبط هو صوت فحيح التأنيب.
قال لوكياس مدعيًا اهتمامه بأمر الوحوش الأسطورية، متعجبًا من الإعجاب الممزوج بالخوف في عيني لير وزَيْن:" بحقك، أعترف بمزاحك، وإلا لن ينام كلاهما مجددًا"
ضحك ڤاتر مخاطبًا لير:" والدكِ الذي ترينه والشجاعة تغمره الآن، كان يخاف أن يُفارق الجناح الملكي كي لا يأكله حمار القايلة، حتى في الليل"
احتج لوكياس:" إنك لم تعرف أين يوجد القصر حتى قبل أن تنضم للجيش، بحقك كيف عرفت أني كنت أخاف من حمار القايلة!"
" أرايتِ كيف خَشيَ أن نكشفه!"
" وما حمار القايلة من الأساس؟" أيدت لير نولان بإيماءة ونظرة مبتسمة
فسر ڤَاتْر:" وحش أشبه بالحمار، له قدمان أماميتان طويلتان، ولحيُه أطول من أي حمارٍ عادي، أسنانه الأمامية حادة، وذلك لأنه يأكلُ اللحم، لحمُ الأطفال الذين يغادرون منازلهم وقت الظهيرة" قال جملته الأخيرة بنبرة أكثر علوًا من سابقاتها.
قطع جوَ الانتباه الحاد الرجلُ العجوز النادل، الذي جاء عند مائدتهم واتكأ عليها ثم زمجر:"ماذا تطلبون ياسادة؟"
تكلم لوكياس رافضًا:" لا شيء، لا نريد" ممتنعًا عن تناول الشيء الذي يقدمونه، والذي ربما لا يستحق أن يُلقَّب بطعام.
حقيقةً لا أنا ولا لوكياس فضلنا الأطعمة التي تقدم في النُزل، فمن تربي في الجاه لا يُطعَم غير الشاه، ومن عاش في قصر لا ترضيه حياة الفقر.
زادت زمجرة الرجل:" هذه قوانين المكان، عليكم أن تطلبوا شيئًا، يا سادة" عليه الاعتراف أن كلمة يا سادة قد انضمت لكلامه بِواسطةٍ.
تدخل ڤاتر:"أرز بالخضار إذا سمحت" متبادلًا نظرة مع لوكياس مغزاها: لا نريدُ المشاكل.
ما جاءهم على الطاولةِ هو المعنى الحرفي لأرز بالخضار، بالضبط طبق أرزٍ مسكوبٌ عليه أوراق نبات خضراء مفرومة، ووَسطه استقرت قطعةُ فلفل حمراء صغيرة.
أول من تذوق ما وُضِع كان ڨاتْر، وطمأَن مجموعته:" تُؤكل"
فتَلَتْه لير، ثم شجعت والدها:" ليست بهذا السوء يا أبتاه"
فبادر لوكياس بدوره دون تعقيب، بينما ابتسمت لير برقة لوالدها.
أما ولدي، فلا بُوركَ... لا مهلًا، بُوركَ ولدي حيث حَلَّ، عسي دُعائِي عليه لا يُستجاب، بُوركَ ولدي الوحيد حيث حَلَّ.
لا تُعِر بالًا لقلق الأمهات ذاك.
أما ولدي - بوركَ حيثُ حل - لم تمس الملعقة فاه، ورضيتْ بما نالته من تقليب في الطعام، ومزج هريسة النباتات به جيدًا، ما أُسميه أنا إهانة للمطبوخ، والطابخِ والمطبخ.
ليس كَلير، هي أعطت الطعام فرصة، نولان لم يفكر في تذوق حبة أرز واحدة، له في ذلك أسباب غريبة، اسمع بِماذا برر:
لقد أقسم بِعَمري أن تناول الطعام تصرفٌ غير مريح، يُسببُ ضيقَ النفسِ، ويعطي إحساسًا بالغرابة، مع أنه لم ينطق بمثل هذا الكلام قبلًا في قلعة والده، لكم أشرك آسر ولده في طعامه! ولم يتحجج بمثل هذه الحِجج.
أرأيت شخصًا يقول مثل هذا؟
نعم، ولدي يفعل، وإن قالَ فقد صدق، أنا فقط من ينعته بالكاذب، أما أنتَ فلا انتظر رأيكَ فيما فعل.
ضرب لوكياس صفوَ لير بطعامها بِعرض الحائط حين قام معتذرًا على حين غرة:" سأعود بعد ثانية"
ما لم تدركه لير، وأعماها عنه قلقُها لافتراق والدها عنها، أن لوكياس ربما قد لمح أحدًا عرفه من ظهره، أحدًا اجتمع به في يوم سابق، أحدًا لا يفترض به أن يتواجد هنا.
طرق ڨاتْر على يدها لتنتبه له، وتُشتتْ انتباهها المتمركز حول أبيها:" أتعرفين؟ على الرغم من كون حمار القايلة وحشًا خطيرًا، هناك طرق للنجاة من أسنانه المدببة الحادة..." وراح ينصحها عن كيفية النجاة من حمار القايلة.
في تلك الأثناء، وعندما كان نولان يُبدي أهتمامًا مكثفًا بكيفية النجاة من حمار القايلة - خاصة والآن وقت الظهيرة، وهم بالخارج - ربتت يدٌ خشنة لكن رقيقة على كتفه لِبلتفت لصاحبها، كان رجلًا أربعينيًا غريب الهيئة، يرتدي سترة وبنطالًا تلمع عليهما مظاهرُ الغنى، لولا بقعة الدماء المتكتلة التي غمرت سكينًا مغروزةً في بطنه.
حين دخل نولان أول مرة إلى النزل، لاحظ أن هذا الرجل يتبع النادلَ العجوز، ولا يكادُ يَرفع ناظريه عنه كلما تحرك، فإذا عاد إلى مائدته التي يحضر الطعام عليها ظل يتبعه في كل خطوة يخطوها أثناء إعداده للطعام، وإذا انصرف إلى مائدةٍ أُخرى ظل يراقبه حتى يرجع، إلا أن نولان لم يَرَ بقعة الدم إلا حين اقترب.
قال الرجل باحترام مبالغ فيه:" مولاي، أحتاجُ عونك"
خطرت ببال نولان خاطرةٌ واحدة لَمَّا رأى الرجل، وحتى قبل أن يلمح موضع الطعنة أن الرجل الذي أمامه حالتُه تشبه حالة أكرابيل، خاصةً وهو يقف في مساحة محصورة بين كرسيين تكفي بصعوبة أن يمر منها زَيْن، وهو مَن هو في نحافته.
ماذا أتوقع من ولدٍ لا يأكل إلا ما يُبقيه بصعوبة حيًا!
هذه الكرة الثانية، لقد تعايش مع الحقيقة بكل بساطة، ها هو ذا يُكلم ميتًا، والميت يطلب العون منه للمرة الثانية، المشكلة هي هل يتقبل الناس الحقيقة؟
قام نولان من مكانه، وعبر المسافة بين الكرسيين بعدما أفسح له الرجلُ الميتُ المجالَ، والتف خلف لير بدون أن تشعر به، ومع أن ڤاتر رآه لم يكلمه، حَسِبَه ببساطة ذاهب خلف لوكياس قريبه، وحَسِبَ حمارَ القايلة لم يرق له.
وقف نولان بضع ثوانٍ تبحث عيناه عن أي جانبٍ لا يسمعه فيه أحدٌ يُحَدِّث فانيًا، ما وجدتا أحسنَ من السلالم، فتقدم إليها.
وجلس على المصطبة الثالثة ثم همس للرجل الذي صار يلحقه:" كيف أُساعدك؟"
روى الرجل:" أنا قُتِلتُ بغير ذنب يا مولاي، الرجل هناك هو من طعنني"
تعجب زَيْن:" لِمَ تُناديني هكذا؟"
أجاب الأربعيني ببساطة:" لأنكَ مولاي"
" ومن أخبركَ إني مولاك؟"
" الكل يعرف" ومع انتهاء الكلمة سمعا طقطقة في أرضية الطابق العلوي ما أعاراها انتباه.
" ما الذي يعرفه الكل؟"
" أنكَ مولانا"
رأى نولان أن لا فائدة من التطرق لهذا، فعاد لصلب الموضوع:" تقصدك النادل، هل قتلك النادل؟"
" أي نعم، يا مولاي"
" لماذا قَتَلك؟" ودبت حركة أُخرى على السلالم في الطابق الأعلى، وهنا بدأ نولان يشعر بأن هناك ثالث.
"سرقَ مالي ليشتري نَزله، وأردى بي صريعًا لَمَّا دافعت عنه"
سكت نولان لبرهة، ثم همس بأخفض صوت يملكه:" تعتقد أن هنالك من يسترق السمع؟"
فأجاب الميت:" إن شِئتَ تفحصتُ"
" لا سأذهب بنفسي" شجاعة غير مبررة، الأفضل لو ترك الرجل يتفقد الحال، فهو ميت أساسًا، ولن يصيبه أذى، على عكس زَيْن تمامًا.
ما وجد نولان أي شخص على السلالم، وكان الطابق خاليًا من أي صوتٍ أو ساكن، فمشى فيه قليلًا، وطرق على أول غرفه صادفته والتي كان بابها مفتوحًا، وما هي إلا ثوان حتى فُتِحَ الباب ببطءٍ وخرجت منه على حين غفلة يدٌ تشد نولان بقوةٍ للداخل.
تمسك زَيْن بيده الأخرى بالحائط الخشبي المنثني عند إطار الباب، كي لا يُطاوع اليد، واستطاع ركل الباب بقوة، فارتطم بوجه المستتر خلفه فتأوه، وظل متمسكًا بذراع الصبي.
انزاح الرجل من خلف الباب، وظهر وجهُه لنولان، رجلٌ حنطي البشرة، عيناه زرقاوان ضيقتان لا مباليتين، أنفه غير مستوٍ، وكأنه كُسِرَ من قبل، حاجباه كثيفان بعض الشيء، وصفف شعره الكستنائي بحرص إلى الخلف، وغطتْ ذقنَه لحيةٌ خفيفة.
خفف الرجل شدةَ قبضته، وجذب نولان بقوةٍ مُفاجِئة وهو يستخدم سلاحه:" زَيْن بن آسر سارمدان، توقف عن مقامتي"
توقع الرجل أن يُصدم زَيْن فور سماعه لاسمه، أو أن ينصاع بهدوء بعدما استخدم سلاحه القوي- نعم، المعرفة هي السلاح - لكنَّ زَيْن ظل متعلقًا بإطار الباب، وهو يحاول ثني يده، أو غرز أظافره في كف ممسكه.
" كُف أنتَ عن يدي"
بيده الأخرى، فكَّ أصابعَ نولان، وباعدها عن خشب الإطار، ثم سحبه إلى داخل الغرفة بسرعة - ربما لأن الرجلَ كاد يسقط - مثبتًا يديّ نولان ببعضهما في خطين متقاطعين، وظل يترنح به إلى الخلف حتى ثبته الحائط حين ضَرَب ظهره.
تكلم وهو يطبق على يديه أكثر:" سنتحدث فقط، ثم نرحل لو شِئتَ"
صرخ زَيْن:" لا أتحدث مع الغرباء، أفلتـ...." فكمم الرجل فمه.
سحبه الرجل غِلظةً إلى كرسيٍ خشبيٍ، بعدما دفع الكرسي بقدمه فواجه السريرَ المتهالك، وأجلسه قسرًا عليه، وهو مازال محتفظًا بإحكام القبض على يديه.
قال بصوت فشل في أن يكون رقيقًا:" بإمكاني أن أستخرج الكلمات منك رغمًا عنك، أو تتكلم معى كما أتكلم معك، ويمر الأمر بسلام"
أمره زَيْن:" أفلتني أولًا" فرفع الرجل يديه في الهواء ثم خفضها ببطء.
" كيف عرفت اسمي؟ نحن لم نلتقِ قبل هذا"
صحح الرجل:" بل فعلنا، ولكن مولاي كان مشغولًا مع كتبه" تحولت لهجته إلى الاحترام أكثر فأكثر، وظل طوال الحوار يحدق بعيني نولان الرماديتين.
"لا أذكرُ أني رأيتك"
" لم يتثنَ لكَ لَمحُ وجهي، ولكنني استطعت تمييز وجهك في اللحظات التي مررت فيها بجانبي، بقصر الغوثهام، عند الأبواب، ربما لا تذكر"
تجنب نولان شأن تذكره ونسيانه:" ماذا تريد؟"
جلس الساحر على السرير في مواجهة نولان:" ونجارديام ماجي، كبير سحرة الجنوب، جِئتُ أعرض عليكَ خدماتي"
تهللت الصدمة على ملامح زَيْن:" لوكياس أرسلك!"
" كلا، بالطبعِ ما كان سيدي الملك ليُخبرَني بأمرك، أُؤكد لكَ كم كان حريصًا ألا أعرف عنكَ، لولا لقاؤُنا عند الأبواب"
" وكيف يُمكن لساحر أن يعرض خدماته عليَّ؟"
" أدعوكَ أن تنضم للسحرة، وسأتولى تعليمك بنفسي، أعدكَ أن تصيرَ ساحرًا مهيبًا، ولك الاختيار"
رفض نولان تلقائيًا وكأنه حَضَّر الجواب لمثل هذا الطلب:" لستُ ساحرًا"
" لستَ ساحرًا، أنتَ أعظمُ من ذلك، ومع مواهبك اِلاستثنائية بالإضافة إلى السحر، تصبح أعظمَ فأعظمَ"
استفهم نولان:" مواهب استثنائية؟"
" أنك سيد الموتى وحامي حقوقهم، واحد منهم ومنا، الحيُ الميتُ الوحيد على هذه الأرض، يؤلمني جهلك بقيمتك، هؤلاء لن يستطيعوا حمايتك يا سيدي، وستظلُ الطبيعةُ تطلبُ التخلصَ من نقطة اختلالها، اسمح لي، والمقابل بسيط بالإمكان"
سكت نولان برهة يتدبر ما سمع، ويقيسه بواقعه، ثم سأل:" ما هو؟"
التقط ونجارديام ذراع نولان، وأطبق عليها قائلًا:" قطرات صغيرة من دمك، تعطي منفذًا لسحر الأموات..." واسترق نظرة أليه ثم أكمل:" سأعلمك إياه أيضًا"
سحب نولان ذراعه، فلم يفلتها الساحر.
" لا أريد، أشكرك" وعاود جذب ذراعه ليغادر بينما يردف:" قُلتَ أن القرار قراري"
" ليس هذا"
بقى الساحر يُحدق لدقائق داخل المركز الرمادي في عينيي الصبي حتى خاف، وأنزل عينيه لتقع على الدبوس الفضي الذي أعطته إياه لير.
سحب الولد الدبوس على حين غرة من كُم قميصه، وغرزه في ذراع ونجارديَم، ثم اجتذبه كي يصنع به حرجًا امتد على طول ذراع الساحر، الذي أخيرًا أفلت ساعدَ زَيْن، فانطلق إلى الباب.
ما كادت قدم نولان اليسرى تجاوز العتبة؛ إذ أمسك بخصلات من مؤخرة رأسه، وزج به فسقط إلى ركن من الحائط مجاورٍ للباب.
اعتدل نولان جالسًا، متمسكًا بطرف الدبوس في يده، مستعدًا للدفاع به عن نفسه وإن كانت الأداة الوحيدة البسيطة التي يملكها.
لاحظ الرجل البريق الكامن في كفِ نولان، فانقض على يده بحذائِه يهرسها، وانحنى ممسكًا بخصلات شعره الأمامية، فشده منها للأمام ثم أرجعها للخلف لتُؤذي الجدار الخشبي.
تكلم الساحر بلهجة عنيفة:" أتظن أنك أمِنت شري لَمَّا أمِنت سحري؟!" وضرب برأس نولان عرض الحائط.
" كان والدي مشعوذًا صالحًا طيبًا، طال ما وصاني أن لا أكُرِه أحدًا على الانضمام لمجتمع السحر، يؤسفني الإخلال بوصيته" وأعاد ضرب فص دماغ الصبي القفوي بالحائط.
" ليتني أستطيع قول الشيء ذاته عن والدكَ" مكررًا ما يفعله بعدما ينهي أي جملة.
ارتطمت مؤخرة رأس نولان مرتين أُخْرَيَـتَـيْن بالحائط عينه، إلى أن ارتخت يد نولان، فتخلت عن الأداة الحادة، وصار تحريك رأسه أكثر سهولة، وأُسدِلت الستائر لتُخفي بؤبؤ عينه.
كان يشعر بالحركة حوله، وربما يسمع، إلى جانب الدوار، وثقل جفنيه، ظن أنه لن يقدر على فتحهما مجددًا، ومع ذلك أحس بالساحر يجره حتى سحبه لمكانٍ مظلمٍ، وتركه فيه، ثم بدأ صوت طرقات قدميه على الخشب يتلاشى.
صارع دماغ نولان بقيةَ جسده لتستجيب له، بعدما فَقَدَ التحكم بنفسه حتى، وأصدر أوامرَ صارمة لجفنيه أن ينقشعا، فاستجابوا بعد مدة ليست طويلة ولا قصيرة.
أخفى الساحر جسد زَيْن تحت السرير، وأسدل عليه البطانيات لكي تنساب على الأرض وتخفيه، وذلك يعني أنه عائد، إنما يحتاج فقط أثرًا يسمح له أن يغير شكله.
قاوم نولان الصداع الذي أَلَّم برأسه، والدوار الذي قرر مرافقته، وحمل نفسه على الوصول إلى مقبض الباب المغلق، ما استطاع أن يقاوم تشويش البصر، وتداخل الألوان في بعضها، وصارت الرؤية وكأنها لوحة جميلة، قرر راسمها أن يصب الماء عليها بعد رسمها.
خَالَ أنه وصل للباب، وأن المقبض لا يبعد عنه إلا طول ذراعه، فمده طامعًا أن يستند على الباب، ومال بجسمه ناحية المقبض، فلا وجدت يده المقبض ولا وجد جسده الباب، فوقع على الأرض.
على الناحية الأُخرى، رجع لوكياس إلى مائدته، وعلى وجهه تعبير ارتباك.
" ظننت أني رأيتُ أحدًا أعرفـ.. أين نولان؟"
طمأنه ڨَاَتْر:" ظننت أنه معك، على أي حال، لعله لم يجدك الآن، سيظهر في أي لحظة"
بينما بدا ڤاتر مطمئِنًا بدت لير مستغربةً من اختفاء ابن عمتها دون أن تشعر به.
قال لوكياس فَزِعًا:" تركته يغادر!" ثم صاح:" انهض ابحث عنه"
قام ڨاتْر من مكانه مهدِئًا لوكياس:" اخفض صوتك يا صديقي، لا تفزع هكذا" وراح يُجِيل نظره في الحضور؛ أملًا في إيجاده.
اقترحت لير أخذًا في الاعتبار مساحة المكان:" تفرقا وستجدانه أسرع"
فأمرها والدها رافعًا السبابة:" لا تتحركي مِن هنا"
أومئت تعده بالسمع والطاعة.
ما أوفت لير بوعدها لأبيها، وما استطاعت منع نفسها من التفكيرِ في أنواع الوحوش التي تأكل مَن يُغادر وقت الظهيرة، ولعبت الأفكار بعقلها كل الألاعيب، لا سيما وهي تذكر لنولان محاولاته للهرب، فجهزت سهمها، وفتحت باب النزل.
حين يَئِس ڨَاتْر من إيجاد نولان في الطابق السفلي، صعد يتفقد العلوي، أثناه عن فحصه الهدوءُ الذي اكتنفه، فعاد ينزل لأسفل، لعل لوكياس عرف أين زَيْن.
تراجع ڤاتر عن قراره لَمَّا وصله صوت ارتطام شديد، فعاد يصعد السلالم للغرفة التي خرج منها الصوت.
صدر من باب الحجرة الأولى طرقات خفيضة، بدأت تزداد حدة مع انعدام الجواب، ولم يتمهل ڤاتر حتى يصل نولان لمقبض الباب، بل فتحه قبل ذلك.
وجد صديق لوكياس نولان جالسًا جلسةً تشبه الإقعاء في الصلاة، يحك ُعينيه ويسترق نظراتٍ مشوشة إلى وجهه.
" من أنتَ؟" سأل نولان بصوت بحَّ.
" أنتَ على ما يرام؟"
" سيد ڨاتر!"
" ما الذي يحدث؟"
" ساحر، كان ه‍نا، قال شيئًا عن تعلم السحر و... وسيعود"
" لا بأس، أنا معكَ الآن، لو ترى كم قَلِقَ لوكياس عليكَ" آخذًا ما قاله نولان كدعابة، أو خيال أطفال، فهل يُضحى السحرة بحريتهم لأجل مهاجمة طفل!
أخرجه ڨاتر من تلك الغرفة، وهو يحمل بيد قوسه وبالأخرى يرشد نولان إلى طريقه، لأنه رآه يتحسسه بيده.
ما وصلتْ قدمُ ڨاتر الدرجةَ الأولى، حيث ظهر ونجارديَم يلهث من أسفل السلالم، وكفه قابضةٌ على شيء مختفي داخلها.
جاهد ڨاتر لِيتحاشى الساحر، وفي سبيل ذلك أفسح له الطريق كي يصعد لكن حفيد ماجي ثبت على السلم سادًا طريق ڨاتر.
" كيف أُساعدك؟"
" اسمح لي" واتجه صديق لوكياس لليمين فتحرك معه إلى الاتجاه عينه مغلقا عليه السلم.
" لا أسمح لك"
فارقت يدُ فاتر يدَ نولان، واستغلها في سحب سهمٍ من جعبته وجهه إلى صدر الساحر لثوانٍ كتهديد، ثم أزاح به الساحر لاتجاه آخر.
همس له نولان:" إنه هو، مَن أخبرتك عنه، السا...."
كاد ڨاتر ينزل درجةً لأسفل، فمنعته يدٌ خفيةٌ، رفعته في الهواء من الأرض كالدمية، وألقت به بقوةٍ داخل الغرفة، ثم أحكمت إغلاق الباب؛ جراءَ كلماتٍ تمتم بها ونجارديَم.
أعرف أنكَ مرتبكٌ الآن، وستقوم بسخطٍ وفي نيتك التشكيك في قواي العقلية، وذاكرتي، ومصداقية رواية زَيْن، وستطرح سؤالًا شنيع الخباثة: كيف تَعَرَّف نولان على ڨاتر وونجارديَم، وهو مشوش الرؤية؟
سأُدحض شكوكَكَ بتذكيرك أن الحواس خمس، منهم السمع.
أما - والأدهى - إذا كُنتَ تتساءل عن الكلماتِ التي تمتم بها حفيدُ ماجي، آسفة، لا يسعني إخبارك، فما قاله الساحر لا يمت بصلةٍ لِلُغة الشمالية، ولا الجنوبية، ولا العربية ولا أي لغة من اللغات الستمائة المعروفة، ولم نكن - لا فاتر ولا زَيْن ولا أنا ولا المترجمة - يومًا سحرة لنعرف، ولم يتثنَ لي مطلقًا مقابلة ونجارديَم للكلام؛ لِأن روحه خرجت مباشرة إلى عذاب الحجيم، ولو تنثى لي ما قابلته.
سُحِب نولان رغمًا عنه إلى الممر بعد باب الغرفة رقم واحد، وهو يُجاهد بثني يده، وشدها بقوة على حين غرة؛ عسى أن تنفلت من كَفِ ممسكه.
أجبره ونجارديَم على الجلوس، ثم غلغل يده في مؤخرة رأسه فخرجت مكسوة بدمه، فأغناه الجرح القديم عن صنع جرح جديد.
وفقًا لذاكرة زَيْن ومجال رؤيته، فإن المشعوذ قد خط بدمه خطوطًا على ورقة، وهذا أقصى ما تبينته عيناه، أما ڨاتر فقال أن الورقة مُلِئتْ برسوم متشابكة غير مفهومة، وحروف مفصولة بلغاتٍ مختلفة عمَّا يعرفه، ووُضِعت فوقها شعرةُ رمش لشخص ما.
هكذا كلما جَفَّ الحبرُ الدامي من يده أعاد غرزها في شعر نولان.
فور أنهي الرجل ما يفعله، أحكم سيطرته على يدي نولان بقبضته وجسده، وبيده الأخرى دفعه ليستلقى على الأرض وأحكم إغلاق عينيه، ثم ركع بجانبه، فيما تولى جفناه إحكام إغلاق عينيه هو.
ما حدث تاليًا لم يتخيل نولان أن يحلم به، جمد الرعب جسده، وأحكم وثاق صوته، فصارت أنفاسه ثقيلة، وتحولت من عملية لا يلاحظ وجودها، إلى مشقة.
شعر بأصابع خشنة تتسلل ببطء فتستقر على جرحه، وأخرى تمر بخفةٍ على وجهه، وتنشر بدقةٍ نوعًا خاصًا من النسيج الضام، يفترض أنه غالبًا يسري في الأوردة، وكأن يدًا تمتص الدم من جرحه فتخرجه من الأخرى على وجهه، مشكلةً لوحة فنية من دماه، المشكلة أنه ما زال يشعر بيدي ونجارديَم على جلده، فلِمَن تعود هاتان اليدان؟!
صحيح كون زَيْن لا يرى ما يَصيرُ بِوجهه، لكنَّه يحس به، يُحسُ بحرارة دائرة حمراء اُستُدِيرت في منتصف جبهته، وامتد منها خط مستقيم إلى ذقنه، وهذا الخط استطال منه خطان آخران مائِلان مِن أسفل عينيه، وآخرين من أنفه، فبدت اللوحة تُحاكي إنسانًا عديمَ الملامح.
مع كل الرعب هذا، والذي شَلَّ تفكيره، منعه الهلع مِن التدبر في حقيقة وجود راحة يدِ ونجارديَم على وجهه، والتي غَطتْ مع عينه جزءًا من أنفه، وكيف انسابت الأصابع على أنفه ونشرت عليها دمه ويكأن اليد غير موجودة.
اِضطرمت النار في الورقة، وانشغلت الملعونةُ في التهامِها ببطءٍ كوحش يستسيغ فريسته، صار نولان مع كل شبر يحترقُ يصرخ، وبدأ الألم يقتله منذ أنهت الأصابع المخيفة عملها، فكمم الرجل فمه براحة يده.
يصفُ نولان ألمه في هذه اللحظة بجمل ألعنُ بعد قراءتها الساحرَ، ذكر أنه يُضارع رَبط المرءِ من معصميه وكوعيه ثم شد جسده وتمديده حتى تنفجر الأوعية الدموية، وتتمزق الأوتار، وتنفصل كل قطعة في جسده عن مفصلها، فبدلًا من تناول الأطعمة التي تساعد في زيادة الطول والصبر، يأتون بكِ، فيثبتون قدمك، ويشدونها في اتجاه يقطعها.
اختلطت صرخاتُ نولان المكتومة - لأن السيد ساحر كتم صوته - بصوتِ ضرباتِ ڨاتر على الباب،  وصرخاتُ معدن سكينه بصرخاتِ معدن مقبض الباب، حتى تمكن ڨاتر من خلع المقبض، فحشر سكينه بين الباب وإطاره، وضَغَطَ بها على الباب فانفتح أخيرًا.
أول ما فعله ڨاتر هو تمزيق الورقة الملتهبة لأربعةِ أرباعٍ قبل أن تحترق بالكامل، وفور قسمها لنصفين انطفأت النار، وهدأ صُراخ نولان، فاشتغل بعدها صراخ ونجارديَم.
استشاط الساحر غضبًا، فَشَلُ تعويذته لم يبدأ عندما قطع ڨاتر الورقة، بل عندما لم تتغير هيئة نولان بعد كل هذا الصُراخ، مع أنه توقع ألا تعمل تعويذة التحول، تمسكَ بأملٍ زائف أوهمه أنه ساحرٌ عظيمٌ لا تفشل له تعويذة، فاصطدم بحائط الحقيقة الصلب.
ابتعد الساحر عن كليهما، ووقف بشموخ يتلو كلماتٍ لا مفهومة، مع كل كلمة ينطقها يتحول جسده إلى الأخضر، وتلتصق يداه بجسده، وتمتزج قدماه متحولةً لذيل حية خضراء متوسطة الحجم، بدأت تكبر شيئًا فشيئًا.
زحفت الحية بتراخٍ إلى حيث وقف ڨاتر، ولَمَّا أحست منه الخطر قفزت مطوقةً إياه بجلدها السميك، فلم تمهله فرصةً للهرب أو أن يرفع سكينه، شرعت تعتصره بجسدها، وتضغط عليه كُلما قاوم، فصَيَّرتْ لونه إلى الازرقاق، وصار يشهق شهقاتٍ متتالية طلبًا للهواء، وارتخت عضلات يده فسقطت السكين منها.
نهض نولان للسكين، مستدلًا عليها من لونها الفضي، وفي نيته أن يطعن ذيل الثعبان الكبير الأخضر، لعل ذلك ينفع، وذلك ما نفع؛ إذ رأته الحية، فدفعته بذيلها وقذقت به بعيدًا عنها.
ولو لم تفعل الحية وتركته يأخد السكين ويطعنها، لَانكسرت السكين وما غُرِزتْ في جلدها الغليظ.
شعر الصبي ببرودة جسدٍ ميتٍ مُقترِبٍ، شكله مشوش، لكنْ صوته واضح.
همس الرجل ذو الثأر:" مُرْني أُخلصْكم منه يا مولاي، أعطني إذنًا، قله نصًا"
فكر زَيْن أن لا وقت للتفكير، وإن كان بوسع الرجل وِقايتهم من شر ونجارديَم فليفعل قبل أن يختنق ڨاتر.
" أنا... أُعطيكَ إذنا لِـ... لِـ...لِتُخَلِصْنا من الساحر"
ركع الرجل بامتنان شاكرًا، ثم أخرج خِنجرًا من جيبه، وسار بهدوءٍ وثباتٍ ناحيةَ الأفعوان وهو لا يُحس به، وغرز الخنجر في ذيله فنفذ، وأصدرتْ الحية فحيحًا مزمجرةً، وضربت بذيلها في الهواء، ثم التف حولها فضربَها في منطقةٍ أقرب إلى رأسها؛ ونتيجةً لذلك تخلتْ عن قاتر واتخذت طَاعِنها الخفي خصمًا جديدًا.
عاد الأفعوان لصورته الأولى، بجروحٍ سوداءَ متقرحة في يده، اِسوَدَّ موضعُ حرجِ الدبوس بعدما حُرِجَ في الموضع نفسه بِخِنجرِ الفاني، وكذلك حدث لقدمه.
استخدم الرجل ذو الثأر كفه هذه المرة، وراح يُسدد له ضربةً تلو الأخرى، وفي كل مرة يحاول فيها المقاومة يفشل، ولم تُجدِ تعاويذه نفعًا، فنال من الرجل ضرباتٍ متتالية بكفه لا يدري مصدرها، أخرها دَفعَتْه إلى حافة السلم مُترنحًا، لم يسقط للأسف.
بمعادلةٍ حسابية منطقية بسيطة، أدركَ ونجارديَم أن الحرب مع الموتى محسومة لصالحهم ولو امتدت لقرون، فعَزَم على الرحيل بأقل ضرر الساعة، والعودة ساعةً لاحقة، وبقى أملُ تعلمِ سحرِ الموتى متعلقًا بطرف عباءته.
أبصرَه لوكياسُ جيدًا هذه المرة، كان قد وقف أمام مائدة النادل يُجِيل النظرَ في الحضور، فالتقطت صورتَه عيناه، وأيقن هذه المرة أنه رآه حقًا، على عكسِ سابقتها، ظن أنه لَمَحَه ثم اختفى.
استغل الملكُ المساحةَ التي يُخَلِفُها الساحرُ خلفه، وهو يُبعِدُ عن طريقه إلى الباب كلَ مَن يعوقه؛ لِيسحب بيدٍ خفيفة سيفًا من غمده دون أن يشعر صاحبه، ويلحقَ به.
قُطِعَ الطريقُ على ونجارديَم بوقوف لوكياس أمامه بالسيف.
لم يُمهلِ الساحرُ لوكياسَ فرصةً للتفكير في براءته أو إذنابه، واشترط سريعًا:" دعني أُغادر المكان سالمًا يا سيدي، وإلا عرفَ كلُ مَن بالقاعة حقيقتك، أُقسم أن منهم من يَطوقُ لشنقِك هنا والآن، خاصةً وأنت تُجِير ابن سارمدان في البلدة التي قَتَل والدُه ساكنيها"
تزعزعت الثقة التي أمسك بها لوكياسُ السيف: فشجعه ونجارديَم:" ستَجُرُ ابنتكَ للمشاكل يا سيد"
ظل القلج مستقيمًا مغروزٌ نصله على عمقٍ ضئيلٍ مِن صدر الساحر عندما تكلم لوكياس:" ماذا فعلت به؟"
ابتسم الساحر بمكر وألم:" لا يُمكنني القول أنه حي"
في الثانية التى أنهى فيها جملته، أَجبرَ شخصٌ خفي لوكياسَ على رمي السيف بعيدًا عن الساحر، الذي أسرع يُكمِل طريقه إلى الباب، قبيل أن يَقضِي معظم حياته في السجن أو يُعدَم بِتهمة ممارسة السحر بغير إذن.
يا لهم مِن حمقى، من يَسُنُ قانونًا يُحَرِم على السحرة استخدام السحر!

من لا تراهمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن