مُعلمٌ راسب

107 41 1
                                    

بعد سماع لير الإذن من عمتها للدخول فتحت الباب وهي تجر أخاها -كما تحسب جُوربين- الذي بدا أنه أتى قسرًا تحت تهديد لير، كانت السيدة تصفف شعر ابنتها الجميلة ذات العيون الزرقاء والشعر البني الناعم فيما اِتكأ أوكتان على مقعدٍ في ناحية من الغرفة وراح يرمق القادمين ببرود.
وأول ما لاحظته السيدة كان العبوس على وجه نولان فقالت بصوت طفولي وهي ترسم امتعاضة على وجهها مازحةً :" ما بك يا نولان؟ إنك مستاء اليوم " وأضافت بشيء من المزيح الفاتر :" هل هي لير من ضايقتك؟ " وجلست تضحك بدون سبب.
همس نولان وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة لو استطاعت لنطقت بأن صاحبها مرغم عليها :" إنني بخير "
قطع أوكتان الحوار وقال بلا اهتمام :" أتجيد حمل السيف يا نولان؟ "
استغلت جوربين الفرصة وقالت في سرعة :" أوكتان ولدي يحب كثيرًا التباهي بمواهبه " ومالت على نولان وهمست بصوت مسموع :" أؤكد لك أن مهاراته كانت أكثر من متوسط عندما كان في عمرك "
تبادلت لير نظرات منتصرة مع نولان كأنما تقول :" قلت لكَ " وابتسمت بخبث.
عقب أوكتان :" ليس من اللائق أن تكون أبنًا لآراتاك ولا تستطيع المبارزة، في مثل سنك ... "
أجاب نولان بثقة على سؤاله الأول :" لا "
أقترحت السيدة :" ما رأيكَ يا أوكتان أن تعلمه شيئًا مما تعرف؟ لربما لم يكن والده متفرغًا ليعلمه، إنك تعرف وضعه، مؤكد ستفيده بشيء " وختمتها بلهجة مشفقة.
رد أوكتان موافقًا وهو ينظر لنولان بطرف عينه :" حسنًا " وقد أعجبته فكرة أن يُعامل وكأنه خبير، وتوقع أن يلمح السعادة الغامرة على وجه نولان الذي أومأ شاكرًا بفتور.
وراحت العمة جوربين - كما توقع لير ونولان وأنا وأنت ولوكياس، لكننا ندعي خلاف ذلك - تقص على الصبيين قصص البطولات والمغامرات التي قضى أوكتان حياته غارقًا فيها منذ ولد بطلًا، وتعلم من والده الملك نفسه وأن حُلمه الكبير أن يجندل بالعدو، وعلى ذكر العدو فقد لمحت جوربين بطريقة غير مباشرة للغازي الشمالي، والذي تعتبرته أكبر عدوٍ لها ولولدها، وتعهد أوكتان في لحظات تحمس زائد أن يفتك به.
يعترف نولان - وبكل بساطة - أن أوكتان أفضل منه في أمر السيف والسلاح والمغامرات والبطولات التى حكتها جوربين، إن أخر تعامل لنولان مع سيف كان مع سيف والده، لما تمكن من رفعه لثوان في الهواء ثم أسقطه، وأعتبر السيف من بعدها قطعة معدن حادة ثقيلة، ومع أن والده وعده حينما يرجع من رحلات استطلاعاته سيعلمه بنفسه، وأكد له بأن هناك أنواع أخرى من السيوف أكثر حدة وأخف وزنًا تناسبه، غير أنه انطلق يشرح تفصيليًا الفروق بين أنواع معينة من الأسلحة وأستخدامتها الأنسب لم يَفِ آسر بوعده لولده، أو بمعني أصح قررت الأيام تنفيذ مشروع آخر.
صار أوكتان أكثر تحمسًا لدروس المبارزة التي وعد بها نولان، على خلافه تمامًا تأكد نولان بأنه لو تهور واستمع لكلمة واحدة عن المبارزة من أوكتان فستنتهي مسيرته كمبارز كاملة قبل أن تبدأ، وأصبح لا يراه إلا شبيهًا بجلدوري لوكهارت معلم السحر الأسود لهاري بوتر.
ومع أن لو هي حرف امتناع لامتناع فقد امتنع فعل شرطها عن الامتناع، وسئم نولان إصرار أوكتان على رأسه ولم يدعه وشأنه، حتى تمكن أخيرًا من استدراجه، وأمسك يده وقطع السلالم لأخر طابق، وهو خلفه محاولًا تحرير يده ويتحجج بأشياء تافهة، حتى غادرا مبني القصر وهذا كله والشمس لا تزال لم تتعامد علي القصر.
يبدو على قصر الغوثهام من الخارج والداخل القدم والشموخ، إذ حَول الزمان لونه الأبيض النقي إلى أبيض لفحته الشمس حتى كاد يصبح رماديًا، ورغم السنوات التي استهلكها نولان داخل القصر لم يتذكر عدد طوابقه، وحصر الرقم بين الخمسة والعشرة، وللقصر ثلاثة مبانٍ متصلة ببعضها على شكل أضلاعٍ لمربع، المبنيان الجانبيان منهم بكل طابق منهما ممر يُطل على الساحة المحصورة بين الثلاثة مبانٍ ، ومن الناحية الأخرى يُطل على الأرض خلف القصرِ وجبل الأندرِيس، أما المبنى الأوسط فلا يوجد به هذه الممرات المفتوحة، وإنما نوافذ مرتفعة عن أرضية الطابق وتصل تقريبًا إلى سطحه، وإلى جانبه الأيسر يُرىٰ جبل الأندرِيس، ومعلق فوقه برجِ استطلاعٍ صغير الاتساع طويل الارتفاع، وخلف كل هذا ارتفعت شجرة بيضاء الأزهار عجوز قوية أعلى القصر كله، وطوقت فروعها برج الاستطلاع.
المربع الذي اتخذته مباني القصر كشكل لها لم يكن مكتمل الأضلاع، حيث لم يكن هناك ضلع رابع مُقابلًا المبنى الخالي من الممرات المطلة على الساحة، وكان المبنيان الجانبيان غير متصلين من تلك الناحية بمبنى آخر وإنما برز جسرٌ يعلو كليهما ويصل بينهما بدا وكأنه محلقٌ في الفضاء.
وإن جلست تحت الجسر فستجد ناحيتين مختلفتين: أمامك - وهو الجزء الأقرب للقصر مسافة -
محصور بين مبانيه مساحة ضيقة مُلِئتْ بالحصى بأحجام مختلفة عدا بعض المناطق الجانبية وتكدست بها بعض أكياس الطعام والرمل والأسلحة وأشياء أُخرى لم تُنقل للداخل، وخلفك ستمتد ممر دائري حجري حوله حلقة من النباتات، هناك مجموعة متنوعة من الأعشاب والأشجار المثمرة والأزهار مرتبة ترتيبًا دقيقًا في حلقة حول السور من جهة الداخل، فالأعشاب الصغيرة تنمو على جانبي البوابة والحوائط الداعمة للجسر، والأشجار في منتصف الحلقة بين البوابة ومباني القصر، أما خلف القصر فنبتت جذور الغوثهام البارزة من التربة، وحولها بمسافة غير كبيرة تلونت أزهار من مختلف الأنواع، وحُوِطَ القصر والحديقة بسورٍ أقصر من سور قلعة سورمند بأمتارٍ، فيما امتدت منه رماح مسننة تلمع في ضوء الشمس الذي حول لون أبواب القصر الخضراء للناظر زرقاء.
صُنِعتْ البوابة الخارجية من حديدٍ قديم يبدو عليه بعض التصليحات الحديثة، وامتد فوقها رماح كالتي على السور، ونام على الحديد من جهة الداخل بعض الرماح المتصلة بما يشبه عجلة ضخمة أسفل البوابة، وإلى جانبها مترسان متوازيان، يلفهما الجنود إذا خافوا اقتحام القصر فتلتف الرماح مائة وثمانين درجة وتبرز مستقيمةً من الناحية الخارجية للبوابة.
سحب أوكتان ابن أخيه إلى الساحة الصغيرة المحاطة بالحوائط الثلاثة لمباني القصر، وألقى له في مهارة قطعةَ خشبٍ منحوتة لتشبه السيف، بكل بساطة لم يلتقطها نولان وتراجع للخلف تاركًا إياها تقع بعيدًا عن وجهه، بعدما استشعر ثقلها من شكلها، وأدرك أن محاولاته لالتقاطتها ستنتهي بأذيته.
مشكلة نولان الوحيدة مع السيوف أنها جد ثقيلة، فيضطر لحمله بكلتا يديه، وإن مال السيف من يده مال جسد نولان كله خلفه، لذا فقد كان من الحماقة أن يعطي أوكتان نولان قطعة خشب مساوية الوزن تقريبًا مع السيف.
تحجج الغلام بينما يلتقطها بكلتا يديه :" إنها ثقيلة "
رد أوكتان بخيلاء :" السيف أيضًا، وهو حاد "
بُوركت معلومات أوكتان، لكم كان صعبًا على نولان معرفة ذلك، وراح الفتى الكبير يشرح للغلام الصغير كيف يمسك السيف بطريقة صحيحة، هو لا يدري أساسًا أن نولان يجاهد ليمسكه بيد واحدة لأكثر من دقيقة دون أن تشل يده وتُسقِط السيف، ولو أن وزنه خفيف ما قلق من حدته.
لم تستقر كلمات أوكتان لأكثر من دقيقة داخل عقل نولان، إذ كان مشغولًا بمحاولة جعل قطعة الخشب متوازنة مرفوعة لأعلى في يده، حتى هتف أوكتان :" حسنًا، جرب "
سأل ببلاهة :" أُجرب ماذا؟ "
" أمسكه بطريقة صحيحة كما شرحتُ لك "
همس نولان ممتعضًا دون أن يسمعه أوكتان :" شرحتُ لك! "
عرف نولان أن الساق الخشبية ستسقط من يده لا محالة، وإن بقت لأكثر من دقيقة مرتفعة ومثبتة في يديه وقبل أن ينتقده أوكتان جاءه صوت لير من أعلاه :" السيف يُحمل بيد واحدة يا نولان "
كانت قد تعلقت على سور المبنى الأندريسي وتدلى شعرها حتى غطى معظم وجهها، وجراء صياحها هذا التفتَ تقريبًا كل من كان موجودًا بالساحة لها والصبي في الأسفل، وأحمر وجه الصبي خجلًا وتوعد أن لا يحدثها مجددًا عندما يُنهي هذا الهراء الذي يفعله.
لكنه عدل عن رأيه لما رأها اختفت من أعلى وظهرت مجددًا عند المدخل حاملةً لفافة طويلة قليلة العرض، جلست على الأرض بجانبهم وفتحتها وأخرجت منها سيفًا طويل النصل رفيعه، له مقبض خشبي أسود منحوت عليه رمز النار علم المملكة الجنوبية، ومحفور على حديده اسمها كاملًا، استطاع منه نولان تمييز :" لير ابنة لوكياس بن أوكتان بن سيكليونوف ....." وأسماء أخرى لم يتثنَ له رؤيتها لكنها امتدت حتى طرف نصله الحاد وانتهتْ باسم " آراتاك"
اقترحت لير :" هذا أخف من ذاك" ومدته باتجاه نولان وهي تكمل :" إياك أن يصيبه ضرر، إنه هدية " وبالطبع كلنا يعرف من المُهدي.
سأل أوكتان متعجبًا وهو يقلب سيفه في يده :" اتودين التعلم أنتِ أيضًا؟ "
أجابت لير مسرعةً :" لا أشكرك، والدي يعلمني بنفسه "
" رائع رائع، وهل تُجيدين الطريقة الصحيحة لحملِ الـ...."
قاطعته لير وكأنها تتلو عليه نصًا مأخودًا بنصه :" قال أبي أنه لا يهم كيف تحمل السيف إن كانت طريقة حمله تمكن مستخدمه من استعماله بطريقة أفضل "
بعد تلك الجملة، فُتحت مناقشات عدة، وصياح واختلاف بالرأي بين لير وأوكتان، ووجدها نولان فرصة ملائمة ليعيد للير سيفها الذي لم يلمسه إلا مرة ليتأكد من وزنه، ودار عائدًا لكتبه عند سير.
نادته لير من خلفه وهي تجري محاولةً اللحاق به ثم توقفت جانبه عند باب جناح الغوث فسألها :" كيف تخلصت من أوكتان؟"
"تركته يصرخ وحده "
"هل أراه؟ " استأذن نولان مشيرًا للسيف في يدها، فناولته إياه.
اختار لوكياس هدية ابنته بحرص، وصنع السيف خصيصًا لها، وراعى فرق السن وقدرة يدها على حمل ثقل كبير، وإن كان زَيْن ذو خبرة لا تتعدى الصفر عن السيوف لكنه أدرك من شكله أنه قيم.
تحدث الصبي وهو يتذكر خنجره:" كان لي خنجر قبل قدومي إلى هنا"
هتفت بحماس :" أرني إياه إذن "
" لا أستطيع، ليس معي من الأساس، أخذه والدك، سبق أن رأيته معه " ثم تابع بأدبِ من له حاجة :" اطلبي من والدكِ أن يعيده إليِّ، هو لا يرفض لكِ طلبًا "
" اطلبه أنتَ منه "
سخر نولان من حديثها :" أجل، بالطبع "
ردت بجدية :" لا، حقًا، التمس لحظةً يكون فيها صافي المزاج واساله أن يعطيه لك "
احتفظ بنبرته الساخرة حين قال :" آه بالطبع بالطبع "
" ولديك فرصة وجود عمتي "
" تحرضينني على والدكِ! "
دفعته لير برفق وهي تقول ضاحكةً :" لِم أشعر أنكَ ستقود انقلابا ضد الملك! ثم إنني أنصحك لأنني أشفق عليك، كف عن استفزاز...... "
صرخ نولان غاضبًا " أنا استفز من؟ ها؟ من؟ "
سكتت لير برهة ثم اردفت :"بعد غد يوم مميز، ولا أظن أبي سيعترض على طلب لابنه أمام زوجة والده "
هتف نولان ساخرًا :" كدت أنسى عُرسه"

من لا تراهمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن