القَاضِية

76 7 1
                                    

تَكَلمَ الميتُ بعدما اقترب مِن زَيْن بطريقةٍ هادئةٍ لا تُلائِم ما سبق وفعل:" لو تُعطيني الإذن يا مو..."
ما تمَهلَ زَيْن ليسمَعَه، أو يعطيه إذنا آخرَ،
وإِنما نهض مُستنِدًا إلى الحائط، ومُعتمِدًا عليه فِي تحديدِ وجهتِه، بينما تجتهد عينُه في تَمييزِ الألوان المختلفة.
رَكع قُرْبَ ڨاترِ الذي ظلَّ زمنًا يَتَأوه، وهَمَسَ بلا داعٍ للهَمْسِ:" سيد ڨاتر، أأنتَ على ما يُرَام؟"
دَبت أقدامٌ على السلالم صاعدةً يَصحبُها الفَزَع، صدرت عاليةً متعجلةً لشخصٍ يُهرولُ على السُلَم، قابلَها نولان بخوفٍ خشيةَ عودة الساحر، ليس الوحيدَ، إذ قام ڨاتر بتثاقُلٍ والتقط سكينَه، ووَقَفَ متأهبًا - ليسقُط إِنْ دَفَعه أحدٌ -
سُرعَانَ ما اطمأن نولان لاختلافِ الألوان المنبعثةِ مُن هيئتِه، وأنه لا يشبه بتاتًا من تُخشَى عودَتُه.
أطلقَ ڨاتر تنهِيدةَ ارتياحٍ وعاد يجيب نولان:"كيف يُرَام ما أنا عليه، هيَّاْ لِنخرج من هُنا، يا لوكياس"
زَعُمَ زَيْنٌ فِي قَرَارةِ نفسه أَنَّ القادمَ يُشبه إلى حد ما خالَه، وقد اطمأن إلى حَدٍ ما بالتأكُد، على عكس لوكياس تمامًا، إذ بَهُتَ وجهه واكتسى بالفَزَع لرؤية آثار السحر على مطلَعِ ابن أُخته، فتقدم بخطواتٍ ثابتة نَحوه مُغفِلًا ڨاتر بِعظامه المطحُونة، حتى دَنا مِنه فأَمسَكَه من عَضُدِه مُجْبِرًا إيَّاه على القيام وكفه ظلت تنكمشُ على ساعِده.
"ما الذي حدث؟" خرجتْ الثلاثُ كلماتٍ فَزِّعَاتٍ أكثر من كونهن مُفْزِعَات.
شرَح صَدِيقُ لوكياس في محاولة مِنه ليُسَّكِنه:"لا تهلعْ عليه؛ فقد مزقتُ الطِلَسْم قبل اكتمال التعويذة"
لاحِظ عزيزي القارئ أَنَّ كلمة "طِلَسْم" يستخدمها ناطِقوا الجنوبية كمَجَاز مُرسَل علاقته الجزئية، إذ يذكرون الطلاسم وما تحتويه الورقة، بينما يقصدون الورقة المكتوب عليها الطِلَسْم نفسه.
التفتَ إِليه بِدوره:" وأنتَ ماذا جرى لك؟ ما الذي أصابَ كليكما؟"
أجاب ڨاتر بجملة قصيرة بَلِيَّغة - والبلاغةُ الإيجاز -:" كلُ ساحرٍ وأذاه"
أوشَكَ لوكياس أنْ يتقدم إليه فيُعينه على الوقوف لولا رفضُه:" ابقَ مع ولدِكِ إني بخير"
ألحَّ الصديق على صديقه وهم ينزلون السلالم:" متأكد؟"
فصاح بضجر فيما يتشبث بالدَرجِ ويعَّدل من وِقْفَته كي تستقيم فقراته القَطنية:" انتبه لولدكِ وإلا سقطَ"
" هل ينبغي أن أقسم؟! لستُ والِده"
كوسيلةٍ للإلهاء استطرد ڨاتر:" ربما ينبغي أن تعرف بشأن إصابة رأسه، يا والدَه" ولسانه يظهر كلمه "والدِه" بأجْود وأغلظ طبقةِ صوت عنده.
في الواقع، لولا تذَّكُرُ ڨاتر الإصابةِ في رأسه ما تذَّكَرَها نولان، أغفَّل عقلُه الألمَ السابق ليستوعِب الحالي، وشغله عن نزيفِ رأسه سحرُ السحرة والأوراق المحترقة والثعابين المتحولة، عوضًا عن توارِي الجرح خلف شعره.
إن الإنسان إذا ما نزِلتْ به نَازِلةٌ، هَلَع لها، وأحس بالدنيا تُغلِق أبوابها عليه وتَضِيق، كأنها القاضية، يُقر ما بعد هذه مِن بلاء، فيأتيه ما بعدها مِن البلاء، وينسى القاضية الاولى؛ لِهلعِه للثانية، ألم تكن القاضية! أليس بعدها بلاء!
تنقشع الغُمة الثانية ليتدارك الأولى، وتنقشع الأولى برحمة مالكِ الملك، ويدرك الفاني في النهاية أن الحياة عندها دائما الأسوأ تخْتَزِنه لِتاركي الحمد، كثِيِّري الشكوى.
بِالنسبةِ للُوْكَيَاس، جاءته القاضِيةُ الثانية، كان نازِلًا السُلم ومعه صديقه الذي يدعي القوة والصبي المتشبث بيده حين وصل لآخِر درجةٍ، وانكشف السِتار عن القاضية.
ألهاه ما اقترفه الساحرُ في صديقه وابن أخته عمَّا قد يقترفه في ابنته، أعماه بَحثُه عن نولان عن اكتشاف خلوِ مائِدتهم السابقة من الجالسين، بل خلوِ المكان من لَير.
تَجمَّد جسَدُه في موضِعه وأطبقت يدُه بشدة على يد زَيْن، لا يتحركُ منه سِوى عينيه، تَجُوب النَزل بحثًا عنها، ولا يسمع إلا خطواتِ أقدام ڨاتر البطيئة على السلم خلْفَه، لا صورةَ لها، ولا صوت.
وصَّى ڨاترَ بينما يَقُودُهما إلى الطاولة:" ڨاتر، إن عادت لير إلى ه‍ُنا لا تدعها تغادر، أو تتحرك حتى أرجِع، أرجوكَ ابقِها" كشفت كلمتاه الأخيرتان تماسـكًا مزيفًا.
كان ڨاتر قد جلس منذ ثوانٍ، فقَام قائِلًا:" دعني أُساعِـ.."
أعاده لوكياس لموضعه الأول:" ابق أنتَ هُنا في حال أتت"
سَعَى صديقُه في طمأنته:" لا تقلقْ عليها، هي كبيرةٌ عاقلة، لا شك أنها ستعود الآن"
همس لوكياس لنفسه وهو يغادر بعدما ألقى نظرةً أخيرةً على الحُضور:" أرجو ذلك"
لاح على هَيئة لوكياس ما لاح عليه يوم فقد أُختَه، ويوم كاد يقتل زوجته، تلك الملامح لا تظهر عليه إلا في لحظات الخطر، الرعب والتهديد، فِي أشرسِ المعارك، حيث لن تنفعه حيلته هذه المرة.
ظل يبحث ساعاتٍ عن تميمته، حول النزل، وخلف الجسر، وبين الأشجار، ثم عاد إلى الغابة يَتَفقَّدُها، وقوسه في يده والسهم مُستعِد.
لا أصواتَ حوله، لا لحيواناتٍ ولا لِبَشَر، كُلها مُختبِئةٌ من القَيظ، حتى الطيور اعتزلت الغِناء، الوحيد الذي يتحمَّل حرارة الشمس وقت تعامدها هو لوكياس إِنْ فَقدَ ابنته.
بعد نِصف ساعة من التنقيب عن لير، بدأ القلَقُ يأكل فريسته، وتُثَبِّتُها له الهَواجسُ بِحبالٍ مِن الأفكار، والاحتمالات غير السارة.
مِثل أَنْ تضيع لير هُنا، ولا يَجِدها أبدًا، أو يَجِدها الساحرُ قبله فيُؤذِيه فيها، لقد ندِم على الدقيقة التي سمح فيها لِونجارديَم أنْ يهرب، أو ربما يعثُر عليها حيوانٌ مفترس، أو قاطع طريق، أو تقتلها الشمس.
كلُ هذه الهَواجس لا تُساوي شيئًا أمام الهَاجسِ الأكبر، أردَته سوءُ الظنون صريعًا لَمَّا أقنعته أنه يُعاقَب في ابنته، وأنَّ كلَ ما سيحدث لها سينتهي بنهايةٍ واحدة، أنَّه لن يَراها مجددًا أبدًا، وراحت تحذره من ملاقاة ما لاقى غيْرَه بِه، تُهدِّده بِأن تُجَرِّعه ألم! فقدان الولد، هل حَسِبَ أنْ لا عقابَ لِمَّا فعل؟ الدنيا تدور في دائِرة.
أصابه الاحتمالُ الأخيرُ بالجنون، حتى صَار يُنقِّب عنها بين الأشجار وهو يكرر ثلاث جمل:" أنا خاله، ما كنتُ لأوذيه، لقد عُوقِبتْ بالفعل"
أرخى سهمه من قوسه، واستند على جِذع شجرةٍ يلهث، وقلبُه يكاد ينقلع ألمًا، لا يدري إلى أين يَذهب أو ماذا يفعل، لِمن يلجأ؟، هذه هي القَاضِية، القَاضِية نفسها التى قَضت على سارمدان، القَاضِية نفسها التي سلبت مِن صِهره مُلكَه، ومملكتَه، وجيشَه، ويداه، وروحَه، وولدَه.
رَفَع رأسَه إلى السَماء بعدما نَفِذت مِنه الحُلولُ، وضَيَّقت الأفكارُ عليه الطريقَ، لم يَر إلا شُعاعَ الشمس يخترق عينيه، والجبل الكبير يخترق السماء.
هتف:" الجبل!" ثُم جَهَّز سهمه كرةً أخرى وفرَّ اتجاهه، وهو يدعو بأغلظ الأيمان أَنْ يَجِدها، لا يَهُم كم تَستنزِف أشواكُ الأشجار مِن دَمِه، المُهِم أن لا ينتَكِس الأملُ بعدما انبثق شُعاعُه.
دار لُوكَياس حول سَفْحِ الجبل، وقلبُه يخفق بسرعة، يُجاهِدُ نفْسه ليُبعِد عنها ما يُصيبها من الخوف، حتى بدأ الخوف ينفلتُ مِن يده، ويتزايد كلما كادت الدورة تتم دون أنْ تَظهَر لير.
أخيرًا عاد الهواء يتدفق عبر رِأتيه، ورَجِع قلبه يَدُقُ مجددًا، وسَرى الدَمُ في عروقه مِن جديد، وآبَ إلى وجهِه عهدُه السابِق.
وجدَها مُمَددة مُغمَضة العين في جزء مِن الظل، التَعَبُ وآثار الشمس بَادِيان عليها، فجَرَى إِليها وركع جانِبَها، ثم هزها وتكلم بِصوتٍ كاد الفَرَحُ يُخْرِسُه بينما يَضُمها إِلى صدره:" إِيَّاكِ أَنْ تُكَرريها، إِيَّاك أَنْ تكرريها"
همست لير بصوت مُرهَق:" كُنتُ وَاثِقةً أنَّكَ ستعثر عَلَيَّ" في الوقت عَيْنه الذي كان لوكياس غَيْرَ وَاثِقٍ أَنَّه سيعثر عليها.
الحالة التي رَجِعت مع لوكياس لا تُشابِهُ أو تُقَارِب التي خَرَجَ بِها من ذاك الباب، اختلفت مع اختلاف مُرافِقتِه، مِن الظاهر أَنَّ لِلَير وَقعًا خاصًا عليه.
بعد مغادرة لوكياس، بَقَى نولان مدةً قصيرةً يَتبيَّنُ مَا حوله، كان قد اكتفى مِن السَهرِ والسِحرِ لأعوامٍ قادمة، فأرخَى رأسَه على الطاولةِ وحَاوَطَها بِيديه، فغَفَى لِدقَائِقَ قليلةٍ قَبِيل إِيقاظ لوكياس له بِرَفْعِ رأسِه بِرفقٍ بينما يَعَضُّ على شفتيه.
خَفُتَ صوته:" أَنتَ بِخير؟"
لَكَمْ كان سُؤالًا أخرقَ لا يُلائِم وجْهِ نولان الباهِت، لِذا لم يُجبه واكتفى بالعودة إلى وضعه الأول دون رَدِّ.
سَحب لُوكَياسُ نولانَ مُن ساعده، فأجبَره على النهوض، ثُم انتزع سهمًا وغرزه في طرف رِداء نولان مُحْدِثًا ثُقبًا استطاع توسيعه حتى افترقت قطعة مِن القماش طويلةٌ عن بَاقِي الرداء، وسط سُكونٍ تام مِن طرف الصبي، لا يُمانِع ولا يـبالِي ولا يَعِي ما يحدث.
حَاوَطت القطعةُ القُماشية المَنزُوعة مِن نهاية قميص زَيْنٍ رأسَه وأُوثِقَت بشدة، فِي محاولة مِن أخِي لـِ...لَيس لِشيءٍ حقيقةً، هو لا يدري أنَّه يُوْقِف النزيفَ، ولا يَفقَهُ في التطييب شيئًا، إلا اعتياده أنْ تُلَفَ رأس من أُصِيبت رأسه، وإحساسًا منه بالمسؤلية، أغفِلْ إغفالَ لوكياس لأساسياتٍ مُهِمة: كَطهارة الشَاشِ وطهارة الجرح.
هَذا كُله وزَيْن مُستَسلِمٌ تمامًا، لا يُقاوِم، ولا يُجادِل، ولا يُبعِد يده، ولا يسأل ماذا أو لماذا، فقط ينتظر حتى يَنتهي فيَعودَ لِمكانِه كما كان.
مكث القُماشُ دقيقةً فِي مَوضِعه قبل أنْ يَشعُر نولان بحرارة الجرح، فرَفَع رأسه عن الطَاوِلَة وفَكَّ القُماشَ ثُم رماه وأراح رأسَه مجددًا، دون أَنْ يَنْبَثَ بِبِنتِ شفة.
مَضت فترةُ الظهيرة أثقلَ على قلوبهم مِن أي فَترةِ ظهيرة سَابِقة، أربعةُ تماثِيلٍ جالسةٌ على طاولة وَاحِدة، لا يتكلمون ولا يتحركون ولا تتغير ملامحُ وُجوهِهم، كلٌ مِنهم يَستَحِث الوقتَ على المَضي، ع!دا نولان؛ إذ نام تِلكَ الفترة، هكذا لا يُحدِّث بينهم اِضطرابًا إلا حَركةُ لوكياس من حين لآخر لِيهز نولان؛ عَله يطمَئِن عليه.
حِين أَذِنت الشمسُ لهم بالرحيل، بدوا كَأنهم قد نَسوا كيف يسيرون، استند ڨاتر على لوكياس الذي انشَغَلتْ يدُه بِمساندة صديقه، والأُخرى مُتشَبِثة بِها لير، والتي ظَهرت عليها بَوادِر الحُمى.
استوقَفَ نولانُ ثلاثتَهم على مقربة مِن النزل؛ إذ تذكَّر الرجلَ الذي ساعدهما ، وكيف أَنَّه جاء أساسًا يطلب المساعدة، الرَجلُ المَقتُول مِن صاحب النزل، فنَطَقَ بِسرعة:" القَتيِّل" وكادَ يعاود الدخول للنزل، لولا أَنْ زَجَره خَالُه بعدما أدركَ ماهيةَ الرَجُلِ الذي انطَلقت ذِكراه الآن مِن العَدم، أفلتَ لَيرَ وصديقَه وجر ابن أخته إلى خارِج بابِ الشُؤم، والصبي يُقاومه ويَدفع يَده، فزجَره زِجْرَة أخرسته:" كيف لِحي أنْ يُنجِدَ ميتًا!"
رُبما كان نولان أَخفَ حِملًا مِنه بعدما تجلَّط الجرحُ في رأسه فتوقفتْ الدِماء، وغفى تقريبًا ثلاث ساعات، لم تكن مُرضِية لكنْ كافِية للعودة - على خِلاف لير التي صاحبتها الهَلوساتُ كُلَّما استكانت عيناها - وتلاشت الغَمامة عن عينيه تدرِيجيًا حتى لم يَبقَ منها إلا الحواف.
ما مَكثوا إِلا دقائق  معدودة فِي الطريق، إذ وجدهم مَجمُوعَة مِن الحُراس كانوا قد خرجوا للبَحث عنهم، بعدما استبطَأ كُوسْتُود عودةَ لُوكَيَاس.
أعانَ شابٌ - هو قائد المجموعة - ڨاترَ على امتطاء حِصانه، فيما رفض المَلكُ الرُكوب لَمَّا عُرِض عليه، وفَضَّل أنْ تركب لير عِوضًا عنه، أما نولان فقد حَاذَر رُكوب الحِصانِ فِي أَرضٍ وَعِرة كهذه، واختار السَيْرَ جنبًا إلى جنب قائِدِ المَجمُوعة، سُرعَانَ ما اختار قَائِد المَجْمُوعَة السَيْر جنبًا إلى جَنبِ مَلِيكِه.
تبادَلَ كلاهما حديثًا قصيِّرًا انتهى بِضحكةٍ مِن الشاب وَصكةِ وجْهٍ مِن لُوكَياس قبل أَنْ يُغادِره الأخير، غالبًا كانتْ الكِناية عن كُوستود.
انتفضَ زَيْنٌ لَمَّا وَضَع لوكياس يَده على كَتِف الولد؛ جَرَّاء ذلكَ الفَزع طَالَعه لُوكياس بنظراتِ شَكٍ قَائِلًا:" فيمَّ كُنتَ تُفكِر؟"
قالها نولان بِسرعة:" لا شيء "
" بل شيءٌ سيء تَخشَى معرفتي إيِّاه " لم يَردَّ نولان، لم يَكنْ على استعداد لِمُناقَشة ما حَدَثَ اليوم مع أَي أحد.
همس بنبرة لازِعة النفس حِين مَرَّ مِن جانبِهما راكبٌ:" سبق وركِبتَ خيلًا؟"
"ليس قبل عامين" طبعًا، عِلة فتور نبرته واضِحة، لا حاجة للتفسير.
"أبوك تقريبًا لم يُعلمْكَ..."
قطع نولان انعدام أدبِ خالِه فِي الحديث عن الأموات " عَلمَني أَبِ أَكثر مِمَّا تعتقِد"
تنهَد لوكياس بِجملةٍ خبيثة:" اليومُ يُكَذِّب الأمسَ"
عساكَ لا تعرف، ولكنِّي كَأختِه أعرِف، لَكم أقررتُ أَنْ لوكياس أشدُ مِني مَكرًا وحيلة، يُجِيدُ التلاعبَ بِخطط الهُجوم، ووَسائِلِ الدفاع، وأعدادِ الجيش، والكلمات.
لم ينقطعِ الحوارُ شديِّدُ التشويق هذه المرة على خِلاف عادتِه، لقد انتهى في الأساس قبل صُدورِ الجَلبة خلفهم، وقبل أن يُنادي أحد الرِجال مَولاه، وقبل اكتِشافِ لوكياس أنْ ابنته أشتد عليها المرض فسقطت مِن حِصانِها.
هَلعَ الملكُ لأميرته، وراح ينزع عنها ما لوَّث ملابسها من تُرابٍ ويُساعِدُها لِتقِف، ويسألُها للمرة المَأتين أتستطيع الصمودَ حتى البوابة، وفي كُل مَرةٍ لا يصله رَدٌ يُفهَم، وإنما أناتٌ متتاليات.
انفصل المَلكُ عن المَسيرة، واعتلى حِصانًا سبقته إليه لير، مُمسِكةٌ يَده بِاللِجام والأُخرى ثَبَت لير بِها إلى صدره كَيلا تَقَعَ أثْناء حَركةِ الحِصان، وانطَلقَ بِها إلى القَصر يَتبَعُه ثلاثةُ فرسانٍ ثَقُلَ عليهم أَنْ يَتركوا مَولاهم.
بعد فترة مِن السَيْر لاحَ القصرُ أمام نولان، بِلونِه الأبيض الذي صَيَّرته العواملُ الجوية مصفرًا، بِشجرتِه العِملاقة التي تُطوِقه، وسُورِه الذي لاحظ نولان أَنَّه يبدو مِن بَعيد أقصرَ مِن سُور قَلعَة سُورمَند، أعلاه وقف رجلٌ قصيِّرٌ بدين بِالكادِ يظهر ضئيِّلًا مقارنةً بالسُور، مُمسِكٌ بمِنظَارٍ وإلى جانبه طَبلٌ كبير.
وظيفة الطَبلِ هي التواصل بَين حَارِسي البوابة وبعضِهم، وحتى أهل القصر، فقَرعَة واحدة تُخبِرُ أَنْ المُراقِب يَرى أَحدَ أهلِ القَصرِ المُسالِمين خارج البوابة، اثنتانِ تعني أَنْ القادِم غريبٌ على القَصر لكنْ مُسالِم، ثلاثٌ تَعنِي أَنْ القادم قد يَتسببُ فِي المشاكل، تِلك سَمِعها نولان يوم عُرِس لُوكَياس، وأربعُ قِرعات متتاليات تُنْذِر بِالخطر، لا تُسْمَعُ إلا في حالات الحرب، إذا هُدِد القَصر مِن اقتحامٍ أو هُجومٍ أو غيره، آخِر مرة أُطلِقت فيها الأربع قِرْعَاتٍ مَرَّ عليها أكثر مِن عشرين عامًا، كان القصر حِينها في يَد ملكةِ الجنوب لوسِيريلا آراتاك، والجيشُ فِي يَدِ ڨاتر.
قَرَر نولان أَنْ يَتصَرفَ بِشهَامةٍ ويُوصِّل ڨاتر لِحكيم القصر سَير، عَدَلَ عن الأمر لَمَّا سَبَقَه إليه فارس فزَجَره ڨاتر رَافِضًا مساعدته.
حاولْ يا عزيزي أَنْ تَقْرأَ عقلَ الغُلام، ألم تكنْ مُهتمًا بِما يَفعله لأربعةٍ وعشرين فصلًا، هيَّا؟! تُرى ما الخطوة التالية التي قد يُفكِر نولان فِي اتخاذها بعد عودتِه للقصر؟ وأي مكانٍ يَذهب إليه غَيْره؟ وهل يُوجدُ بِالقصرِ مكانٌ كالمكتبة؟
مع عِلمِه عَدم وُجودِ سير بالمكتبة إلا أَنَّه صَعَد إِليها على أي حال، وطرق الباب أيضًا مِن باب الأدب، وفتحه عندما لم يصل الرد.
فَكَر في أَنْ يَجلِس ويُفكِر فيما حدث بِجدية، أو يُكمِل الكتابَ الذي زادت المُدة اللازِمة لإنهائِه عن الأسبوعين، لكنَّه وجد القراءة والتدبر أمر مُرهِق، لن يُحَصِّل منهما إلا القلق والكلل؛ فاتخذ قرارًا بِفعل ما هو أحسنُ له حاليًا، وأَنْ يَذهب فورًا لِينام.
بِالضبط وَضَع زَيْن رأسه على الوسادة لِدقيقتين، نَجَح فيهما تَجَاهُلُ التفكيرِ في أي ساحر رآه مُسبقًا، وبِالضبط بعد هذا النجاح، وَلَجَ سَير مُهروِلًا قَاصِدًا رُفُوفَ العقاقير في الناحية اليمني مِن الباب وقُربَ النافذة مباشرةً أمامَ السرير، وما لَبِث أَنْ وجد مُبتغَاه فَهَمَّ بِالخروج.
استوقَف وجودُ نولانِ سيرَ عن تكمِلة المسافة إلى الباب، وهو حقيقةً ما لم يَبتغِه نولانُ، كان يَود أنْ يَنامَ فقط، وحِين يَستيقِظ قد تنْفَرِج الكُروب، المُهِم ألا يُواجِه هذه الكُروب وهو مُستيقِظٌ منذُ أمس.
تَكلمَ سير بِنبرته حِين يتَزاحَمُ عليه المصابون:" نولان! متى وصلتَ لِهُنا؟!"
رفع الصبي صوته دون أَنْ يَتحركَ مِن مكانه:" كُلُنا وَصلنا مُنذُ قلِيل"
" أخبرَني لُوكياس أنَّكَ جُرِحت"
وَضَعَ زُجاجةَ خَافِض الحرارة التي فُي يَده على طاولةٍ قَريبةٍ ومِن ثَم التقطَ يَد نولان لِيُجبِره على النهوض:" رأسكَ؟ أليس كذلك؟"
بدا صوتُ نولان كَمَن أَجبرتْه أُمُه على الاستيقاظ مُبكِرًا يومَ الجمعة:" بَلَى"
أَمالَ الحكيم رأسَ نولان، وصار يُنقِبُ بِيده عن موضِع الجرح.
لم يَصعُب إيجاد موضِع الجرح، ولِأنَّ الدَمَ تَخثَرَ والتصق بِشعر زَيْن؛ فقد ظَهرت كُتلةٌ غَيْرُ مُنتظِمةٍ حَولَ الحرج مُمتلِئة بالدَم المُتخَثِر، أما تحدِيدُ مدى عُمقِ الحرج أو خُطورتِه فكان مستحيلًا مع تلوثِ الوَسط المحيط.
رُويدُكَ يا صديقي، خَمِن ما الخطوة التالية في الأحداث، ما الذي قد يَفعله حكيمٌ لحرجٍ متسخ؟ بالضبط!
رَجِع سير لِصُفوفِ الأدويةِ والعقاقير، وانتزَع مِن الرَفِ الثاني مِن الأعلى زجاجةً شَفافَةً ضيقةَ الفوهةِ، بِها سَائلٌ عديمُ اللون مُنخفِض اللزُوجة، وجَلَبَ مَعه كيسًا صغيِّرًا يُخَزِن فِيه القُطن ومِقصًا.
تَرَاجعَ نولان خُطوةً لَلخلفِ حتى اصطدمَ بَاطِنُ رُكبتِه بِخشب السرير؛ حيثُ فَكَرَ لِثانيةٍ ووَجَدَ كَونَ المِقصِ مَجلوبٌ لِقَصِ القطن فِكرة فِي غاية الغَباء.
ضَحِك سَير مُمَازِحًا:" لن أُغيِّر مِن شكلِك، احتاجُ فقط لِرُؤية الإصابة بِوضوح"
تَشَبثَ نُولان بِموقِفه:" لا"
جَلَس سير على السرير وأَشَار إليه بِيده:" لير تنتظرني، هَيَّا"
" قُلْتُ لا، لم تنتَهِ سنواتُ العَزاءِ بَعد"
" وما دَخلُ العَزاء بِشعرِك؟"
" وما دَخلُ الزَواجِ بِالشَجر؟"
ألقى سير المِقص مُسْتَسْلِمًا:" حسنًا، تفضلْ"
عزيزي القارئ الذي لا يَعرِفُ تقاليدَ وعاداتِ الممالك، فِي الشمال، هناك طرائق يُعبِر بِها أَهُل الفقيد عن فَقدِهم، منها الامتناع عن قَصِ شُعُورُهم لعامٍ على الأقل، وبالنسبة لولد ظلَّ أبوة تِسع سنواتٍ فِي حداد على أمه الفَقِيدة، ومع كُلِ الاحترام الذي يُكِنُه آسِر للموتى، بِمعادلة بسيطةٍ طرفاها الأباء والأبناء، تُوضِّح إلى أي مَدى يَنْسخ الأطفالُ أفعالَ ذَويهم، كان مِن المُتوقَعِ أَنْ أرى ردَّ الفِعل هذا مِن زَيْن.
لا تحْسَبنَّه قد نسي، لا تَحْسَبنَّ الجنوبَ قد ألهاه عن ذِكرى والده، بل كُل شبرٍ في الجنوب يُذَكِره، لا تَحْسَبنه قد نسي، هو فقط يَخافُ أَنْ يَتَذكرَ، تُرعِبُه صَرخاتُ والدِه والنار مُضطرِمةٌ فِي جسده أكثر مَن لوكياس ومِن مُقابَلاتِ المَوتَى، لا تَحْسَبنَّه قد نسي، رُبما يَخافُ التَعامُل مع الذِكرى الآن فيُؤجِلُها كلمَّا راودته، لكِنَّها ستواجِهُه يومًا، وستَحُول بينه وبين العالم.
للاِستِدرَاكِ، لا يُشتَرَط للزَواجِ فِي الجنوب أَنْ تَشْهدَ شَجرةُ الغُوثَهَام على العهد، لكنْ وُجُودَها يُعتَقَدُ أنَّه يَجلِبُ البركة.
سَأَلَ نولان بينما يَخْفِض رَأسه:" كَيفَ هي لير؟" انتهى السؤال بِصوت هَسهَسة أشبه بِصوتِ ألأفعى حِين تَدُوسُ ذَنَبَها، أو صَوت مَجرُوحٍ حَين تَضَعُ المُطهِر على حرجه.
تَعرِفُ - ولا تَدعِي أنَّكَ لم تُجَرِب - الألمَ المُصاحِب لِمَّا تُسَمُونه الآن الكُحول حِين يُلامس إصابةً حديثة، هذا الألم الطفيف يَزولُ أسرعَ مِن سِواه.
أجابه سير وهو يُقطِر مِن الزُجاجة على مَا يُقابل الفُص القَفوي:" تُهَلوسُ قليلًا، ودَرجةُ حرارتها مُرتَفِعة، ماذا أقول! لَكَم نَبَّهتُ ألا يَتعَرَض أحد للشمس وقت الظهيرة، ومع ذلك لَكَم كَثُرتْ الحُمى"
صمتَ سير لثوانٍ تَنبَه بعدها إلى مكان الإصابة، فسأل:" تَرى بِوضوح يا نُولان؟"
" ليس قَبل ... عِندما كُنا هناك"
" ماذا حدث عندما كُنتَ هُناك؟"
" كان يُوجَد... ضباب.. تشوش.."
" غمامة؟ حول عينيك؟ "
صاح نولان:" نعم"
" لكِنَّها اختفت الآن؟"
" نعم"
قام العجوز مِن مكانه:" إِنْ تكرر ذاك خَبِّرني، سَتجِدُني فِي غُرفة الأميرة" وعاد يَجلِب خَافِض الحرارة، قبل أَنْ يُغْلِقَ الباب خَلفَه أعلمه نولانُ بصوت عالٍ يَصِلُ إلى الباب:" هُناك شخْصٌ يُدعى ڨاتر.. أُصِيب اليَوم أيضًا فـ..."
" قَابَلتُه، ورفَض أي تَدخُّلٍ مِني" ثُم صفق الباب، فرَجِع نولان إلى قرارِه الأولِ بِأَنْ يَنَام.
أيقظ نولانَ بعد مُدةٍ شخصُ لَحُوح عَجُول، ظل يَهُز الصبي بِرفْقٍ حتى إذا لم يُجِبه نولان انتقلَ لِوجهه، وهو يردد:" نولان... نولاان.... نولان..."
أَزالَ نُولان يَد لوكياس عن وجهِه بِرَميها بَعِيدًا عنه وصاحَ غاضِبًا:" نعم... نعم... أُقسِمُ أنَّي مُستَقيظٌ"
وما كان يَود أَنْ يَستيقِظَ؛ مُباشرةً بعدما اعتَدلَ جالِسًا اسْتغلَ الصُداعُ حِجة إِصابتِه ووَجد لِنفسِه مَسكنًا جديدًا.
" أنتَ على ما يُرام؟" صدرتْ بِصوت حَنون يُخالِف طَبيعةَ لوكياس، جَع!ل هذا الصوت نولان يَترددُ قليلًا فِي الإجابة:" نعم"
حَشَر سير نَفسه فِي ثُقُوب جُدرانِ الحديث رُغمًا عن لوكياس:" فِي العجلة الندَامةٌ يا مولاي،  ألا تُؤجِل..."
زَفرَ لُوكياس مُتضَايقًا:" أُعِيدُها للمَرة المَائة، هل تَرانِي مُتفرِغًا كُلَ يَومٍ لِلَّهو مع الأطفال؟!"
فِي البِداية، أحس نولان أَّنه كالأطرَشِ فِي عُرس، إلا أَنَّه فَهِمَ فور رَأى سَيفَ لير فِي يَد لُوكَياس، فَهبَّ وَاقِفًا، وكرر بِحماس حتى تداخلتْ اللاءات:" لا... لاالا لاا...أنا بِخير" مما جعل سير يُحدِجه بِنظرةٍ تُشْبِه نَظرةَ امرأةٍ عربية لم تغسِل ابنتها الأواني.
" مُتأكِد؟"
" نعم"
لَمَحَ لُوكَياس وَجهَ سير المُستَاء، ثم توجه إلى الباب يتبَعُه زَيْن، وقبل أن يُغلِق الأخير الباب رَفع سير سبَابتَه مُهدِدًا:" إِنْ أتيتَ إليَّ تشكو مِن التعب فلن يرتَد إليَّ جِفنٌ شَفقةً"
ردَّ نولان بِعبارة قصيرة مُستهتِرة:" لا تقلق"
واجَه الحماسَ العقلُ، وكونُ العقل مَفطُورًا على الشَكِ والبحث لم تَرُق له مَوجَةُ الأدبِ والحنان المُفاجِئة، وكيف لِلُوكَياس أَن ْيطمَئِن على نولان ثُم يتكَرم فيُعَلِمه دون سُؤال مِنه المُبارزة فِي يوم واحد! جُرعَات المُعامَلة الحَسنة هذه لا يُحَضِّرها لوكياس أبدًا.
فأزال العَقلُ سِتار الحماسِ مُتوقِعًا أَنْ يَجِد خَلفه خِدعة، ولَمَّا استدركَ نولان التَغير غَيْر المنطقي سأل:" أنتَ بِخير يَا سيدي؟"
التفتَ إليه لُوكياس وهُم ينزلون مِن الطابقِ الثاني إلى الساحة:" هل تخشى أَنْ أُصاب؟"
" كلا، هذه فقط ليست عَاداتَك"
توقَف لُوكياس لِثانية استدار فِيها لِيُقَابِل نولان، وعلى عكس ما توقَّع اكتفى لوكياس بتحدِيجه كاظِمًا غيظه، وعاد يَهبِط الدرج، أكدت هذه النظرة أنْ لوكياس ليس على طبيعَتِه.
اتخذا جانِبًا مِن الساحة الأمامية الصَاخِبة فِي العادة، حيثُ يَملَأُها ضجيجُ مَن يَصقُلون ومَن يُنظِفون، ومَن يَلعَبون، أو يَتدربُون، وكلُ مَن يَحتاجُ مَكانًا مَفتُوحًا لِيفعل أي شَيءٍ يَجِدُ مُبتغَاه فِي الساحة الأمامية.
هُناك سَلَّم لوكياسُ نولانَ السيفَ فِي يَدِ بَدلًا عن رَميه إليه كَمَا فعل ابن عَمَتِه الكُبرى: أُوكْتَان، وبينما تَوقَّع نُولان مِن لوكياس أَنْ يُهاجِمه، واستعدَ لِينبطِح إِنْ وَجَدَ مِن لوكياس أَي إِمارة على نواياه السيئة، أمره خاله بِبَساطة:" لوِّح بِه"
" أفعل ماذا؟!" استفهم مُتشتَتًا بين توقعاتِه والحقيقة.
ظَهرَ نفاذُ الصَبرِ فِي الكلمات:" لَوِّح بِه، حرِّكه، اِفعل بِه أي شيء"
سَأستبعِدُ الجزءَ الخَاص بِتلويح نولان بِالسيف، لأنَّه بدا أخرقَ للغاية.
نَزَع آراتاكُ سيفَه مِن غِمدِه على حِين غفلة؛ مِمَّا جعل زَيْن يتوقف عن تلويحه الأبله، وعندما اقتربَ شاهِرًا إِيِّاه تَرَاجع الغُلام لِلخلف بِسرعة، وشَهَر السيف بِدوره في وجه لوكياس، الذي صاح:" ما مُشكِلتُكَ يا هذا؟"
خافضًا السيف:" لا شيء" ثم سكتَ قليلًا.
أجبرته نظراتُ لوكياس الصبيَ على الاِعتراف:" الشمال ما عاد يثق بالجنوبِ قط، واللطفُ ليسَ مِن شِيمكَ يا سيدي"
بَقى لوكياس آراتاك بُرهًة يُحدِجُه بِنظراتٍ مُتضايِقةٍ يَتَذكرُ آخِر مَن أسمَّعه هذه الجملة، تَذكَّرَ وعَاد فورًا إلى طبيعته، فانتزع السيفَ الصغيرَ بِقوة مِن نولان، وصرخ:" انتهينا...انتهينا مِن هذا....حِين تتعلم كيف تجعل الشمال يُعيد ثقته بِالجنول تعالْ أعلمْكَ المُبارزَة"
ظَهَر خَلُيطٌ مِن التعبيرات على وَجهِ نولان، مِن حُزنٍ لأَّنه فَقَدَ فُرصة لم تكنْ لِتُعَوضَ، وخوفٍ مِن كره لوكياس لَه وللشمال، والترددٍ فِي الحُكم على موقِفِه، هل أخطَأ فِي الاِعتِرَاف بِانعدام ثِقتِه فِي لوكياس أم أصاب؟
اكتفى فِي النهاية بِأنْ قال:" لِذا.. هل أُغادِر؟"
أخذ الرَجُل نفسًا عميِّقًا ثُم أخرجه بِبُطء، ولَفَّ سيفه لِيُقابِل مِقبضُه نولانَ، ثُم أمره بِلهجةٍ لازِعة:" هاك" فأخذه مِنه بِحذر.
ظلت هُناك ثوانٍ للصمت والتحديق فقط، مكثَ فِيها لوكياسُ يُصارِع رَغبةً كامنةً فِي حَرقِ نولان على المِنصة كَما فَعَلَ بِوالده، لكنْ صوته عَلا بِتحذيرٍ فِي آخِر الأمر:" أفعلُ هذا لأجل أُختي، أتفهم؟!" فيما هدده بِسبابته أومأ نولانُ.
" جيد، أمسِك بِالسيف فِي يَدِك ولوِّح بِه، فقط حرِّكه، بِحذر"
التَعامُلُ مع سيف لير أسهلُ مِن التعامُلِ مع هذا، هذا أقصى ما قد يفعله به نولان هو أن يُلوِّح بِه بصعوبة، أما أَنْ يُوازِنَه فُي يَده، فهذا صعبٌ، ويَصعُبُ أكثرَ عِندَ المُواجَهة.
تَكَلَّم لوكياس مُحَسِّنًا نبرةَ صوتِه:" ما أُريده مِنك أَنْ تَتَعلم كيف تُوازِن هذا السيف وتسير وتُلوِّح بِه بِرشاقة فِي يَدك وذَا يعني أَنْ تعتاد يدك عليه، حتى تفعل، فلا يوجد ما أعلِمُك أيَّاه"
" إذن، ما الذي نفعَلُه هنا؟"
" في ساحةِ المعركة...."
قاطعه:" ساحةِ المعركة! ألا تعتقُد أَنْ ذلك مُبَكِر؟"
" فلماذا تَتعلمُ المُبارَزة؟"
" للدِفاع؟"
" ومتى تُدافع؟!"
" عندما أشعرُ بِالخطر؟"
" رائعٌ، أجبتَ على نفسك، فِي ساحة المعركة، يُغْلَبُ أكثرُ الرِجال شجاعةً بِضِرْبَةٍ فِي الظهر"
" هذا ليس شَريِّفًا!"
رمَقَه الرَجُل بِنفاذِ صَبر:" وهل تَظنُ الشَرف مُهِمًا فِي هذه اللحظة؟"
" بِالطبع!"
" حالتُك سيئةٌ للغايةِ يا فتى، مَن أفهَّمك هذا؟"
" سمعت أبِي يَقُول..."
أوقفه:" يَكفِي، يَكفِي، لِنفتَرِضْ أَنْ هُناك شَخصُ غَيْر شريِّفٍ يَودُ أَنْ يقتلك مِن الخلف بينما أنتَ تُبارِز أحدهم، كيف تراه؟"
سكتَ نولان، بِحقكَ كيف يرَى شخصًا خلفه، بينما ينظرُ أمامه؟!
هبَّ فجأة:" أجبني"
" لا أعلم"
" أأنتَ أبله؟! كيف سترى بِمؤخرة رأسِك؟! بالطبع لن تراه"
" أنتَ مَن سأل!"
صدع صوته حَنِقًا: " تَقصدُ أَنِّي أنا الأبله؟!"
تفادى نولان المشاكل بِقوله:" لا بل أنا" فهَدأ حِنْقُ خاله.
" هل قَتلتْ رَجُلًا على حِين غُرة مِنه مِن قبل؟"  كان الغرض من السؤال أَنْ يَتَأكد نولان أنَّه على حقٍ إنْ سَمِع "لا"، أو يستشعِر عَظمةَ نسبِه لوالدِه إن سمع "نعم".
" سَبقَ وقُلتُ، هَولُ الموقِف يُجبِرُك على التغاضِي...."
" لا يوجد ما يُسمى هكذا، الشرفُ يستحيل أَنْ يَصير مُؤقَتًا"
خفض لوكياس السيف حتى لامس نصله الأرض، واستند على مِقبضه ثُم أشارَ بِيده:" تابِع، أسمعك"
توتَّر نولان:" قرأتُ ذلك فِي كِتاب"
أومأ لوكياس:" أها، أكمِل، دعنا مِمَّا كُنا فٓيه، ولِنستمِرَ فِيما أنتَ فُيه" إنما هي وسيلةٌ للفرار مِن السؤال، رُبما أحس لوكياس بِالخِزي مِن طريقته فِي هزيمة أعدائِه.
" حسنًا، أغلقتُ فَمي"
مَكثَ الرَجُل على حَالِه يُحدِج نولان لفترة وجيزة، ثِم ضرب كفًا بِكف وسحب السيف مِن نولان واسترسل:" تفاديًا لِقطع عُنُقِك على حِين غرة، حاوِل أَنْ تشعُرَ بِمَّا حولك، ونشِّط الأربع حواس المتبقيات لِتجَنُبِ خُمولِها للأبد"
وتابع:" مثلًا لُكل شيء صوتٌ تقريبًا، إِذا ما أغفَّلنا بَعضَ الكائِنات"
" قد يَبدُو لكَ هذا غَيْر منطقي، ومع ذلك فعقل الإنسان أكثرُ فاعليةٍ مِن غيره مِن الأعضاء فِي الأهوال، لا يستمِع فقط، بل يُميز الأصوات المُتداخِلة، ويُحدد مَوقِعها أيضًا، لن يخبرك أحدٌ غيري بِهذا"
ظنَّ نولانُ فِي لوكياس التلفِيقَ فِي بَادِئ حديثِه، وسُرعَان ما تَغيَّرت ظُنونُه، لَقَد كان كلامُ لوكياس غَيْر مَنطِقي نسبيًا، لكنَّه يَتحدَّث بِطريقةِ الخَبير المُجرِب، مع أنَّه ليس حكيمًا.
" جرِّب، ما الذي تعتَقِد أَنَّه خلفَك مباشرةً؟"
كاد نولان يلتَفُ إلا أنَّه مُنِع:" لا تنظر"
تردد قليلًا وأجاب:" أعتقد أنَّها سيدة، و..." تأتأ قائلًا:" تُجادِل رَجُلًا، يبدو مِن صوتِ الرَجل أنَّه يستَشِيطُ غضبًا "
التف بِسرعةٍ لِيرى الخلل فيما قال؛ فوجد الرَجُل البُستاني عِند البوابةِ الداخلية وهو يصرخ فِي صَبِي إلى جانبه، أما السيدة حُوُل فقط وَقَفتْ أمامه ومعها ثلاثُ فتياتٍ تُوزِّع عليهن المهام.
تكلم لوكياس وهو يلوِّح بِالسيف فِي دوائر ويبتعد:" لن تنجحَ مِن أَولِ مَرةٍ، لا تنسْ، أعِد السيف للير"
ناداه بينما يبتعد:" أهذا كُل شيء؟!"
" ليس لَدي وقتُ لِلَّعِب مع الأطفال" وغاب حتى دخل  البوابة.
حقيقةً، لوكياس- خالُ نُولان بِالمُناسبة - أبرزُ رغبةً لِتعليمه مِن أوكتان، كُلُ ما أبداه الأخير هو رَغبته المُلِحة فِي أنْ يَسمَع مِن نولان عباراتِ إعجابٍ وتعظيم، تمركَز هدفُه مِن تعليم نولان فِي إثارةِ إعجابه فقط، هذا إلى جانبِ إحساس نولان كوَّن أوكتان مُجردَ فَتى عديم الخبرة.
إِنْ جمَعنا مُحَصِلةَ ما جناه نولان مِن خاله فهو نسبيًا لم يَجنِ شيئًا ولا تعلَّم، فقد ترك لوكياس لنولان مُهِمةَ تدريب نفسِه على موازنة السيف والإنصات بِحذر، على الرغم مِن ذلك، زَيْنٌ مُمتَنٌ لِمَّا درَّسه، حتى إِذا اضطُر لِتحمُّلِ تَحامُلِ خالِه.
فَكَّر فِي هذا كُله وهو صاعِدٌ إلى الغرفة التي تقيم فيها الأميرة، الغرفة ذاتُ البابِ الخَشبِي الأخضرِ، بَاديةٌ مِن الخَارِج كغرفةٍ قديمةٍ مُتهَالِكة، على عكس مَضمُونِها الدَاخلي البَهيّٓج.
قَرَعَ الصبي البابَ مَرةً لم يُجِب عليها أحدٌ، وفِي الثانية انبثتْ لير بِجُمل عِدة بِصوت خَفِيض مُرهَق أبرزها وأعلاها:" لا أريد استقبالَ أي زياراتٍ"
حفَّزت جُملتها الإحساس المُتواجِد لَدى زَيْن مُنذُ وَطِئت قدمُه الجنوب، إحساسٌ بل يَقينٌ أَنَّه فِي مكان لا يَرغبُ فيه وكذلك المكانُ يرغبُ عنه، وجودُه فِي الجنوب مُقتَرِنٌ بِما يُمكِنه أنْ يُقدِمَ، إِنْ اِستطاعَ مُساعدةَ مارسيل فيا مرحبًا بِه، وكذلك إِنْ كان للير حاجةٌ عِنده - كَسيفِها مثلًا - فيَا أهلًا ويَا سهلًا، الشمالُ فقط يحتَمِلُ وجودَه بِدونِ مُقابلٍ، وتحديدًا قَلعة سُورمَند.
يُدرِك نولان تمامًا هذه الحالة، وأَبرزُ دليلٍ على إدراكِه لها أَنَّه صاحَ وهو يَطرُق الباب تارةً أُخرى:" لَديَّ سيفُك" فنادت ليرُ مُستخدِمةً صوتَها الخَفيضَ والذي بِطريقةٍ ما يُلائِمُ  مَرضَها:" حسنٌ، تَفضَّل"
بَهُتَ وَجهُ لير كثيرًا عمَّا كان عليه وَقتَ الفَجْر، واختلط لونُه الأبيضُ بِتأثيراتِ المَرض، وضَعُفَ صوتُها عمَّا كان عليه وقتَ الفَجْر، كما ظهَرَتْ علاماتٌ للحُروقِ على مناطِقَ فِي وَجهِها مِعصَميها، كانتْ جالِسةً على سريرها وقد أسنَدتْ رأَيها على خشبِه العَريض وراءَها حتى يَخرُج الزائرُ ثُم بِالتأكيد سَتعودُ لِتغفو، ولفَّتها بَطانِية مُتوسِطَةُ الكثافةِ؛ لِأنَّها على الرغم مِن ارتفاع حرارتِها ظلتْ ترتَعِش.
فَضَّل زَيْن ألَّا يُحدِّثَها فِي مَرضِها أول الأمر، وسأل بأدب:" أين أضعه؟" فأشارتْ - على حَدِّ عِلمِها - إلى خِزانةٍ فِي طرف الغرفة، لم يُخبِرْها نولان أبدًا أنَّها تُشِير إِلى الحَائِط وليس الخِزانة.
عَدلَ الغُلام عن قرارِه الأول؛ فقَبل أَنْ يُغادِر بِالضبط حتى أَنْ مِقبضَ البابِ ما انفكَ فِي يده سأل:" أنتِ بِخير؟"
ردتْ بِلهجة مُتعَبَةٍ:" أنتَ مُجبَرٌ؟"
" على إِعادةِ السيف فقط، ليس السؤالُ عن حالك" فأومَأَتْ بِهدوء.
كادَ نُولان يُغلِق البابَ قبل أنْ تسأل بِدورِها:" أأنتَ بِخير؟" ثم عادت تقول:" أخبَرَني سيرُ بِشأنِ السَاحِر"
حكَّ الصبي مُؤخرة رأسه بِرفقٍ وهو يُجِيب:" لم يكن يومًا لطيفًا كما توقعتِ"
أخبرَتْه لير:" ظنَّ أبي أنَّك هربت" فابتسم نولان بِمَكر:" يُفتَرضُ أَنْ أتفاجَأ؟!" فِي حِين لم تضحكْ لير ولم تبتَسِم أساسًا.
" إِذن فنَحنُ هكذا..." قَطعَ جَفافُ حلْقِها حَدِيثَها بعدما عَسُرتْ عليها التكملةُ، فارتَشفتْ شَرْبَةً مِن الأبريق على طاولة ثُم عادتْ تَقولُ:" قُلتُ أَنَّنا هكذا مُتسَاوِيان"
" فيَّم؟"
" أنا دَفعتْ بِك إِلى طَريقِ المَخاطِر، لولاي لَمَا أتيتَ معنا وتورَّطتَ مع ذاك السَاحِر، وكذلك فَعلتَ أنتَ"
وَضَع نولان راحةَ يَدِه على صَدرِه وهُو يُبرِئ نفسه:" أنا! ما فعلت بِكِ أنا؟!"
وضَحتْ الفتاة:" لقد تركتُ النزل بحثًا عنكَ"
" لأَنَّكِ ظَننتِ أَنِّي هربتُ، على العموم، لا أُحِبُ أَنْ نتساوى فِي مِثل هذا"
لم تَجِد لير ردًا، وإلى جانبِ مَرضِها، فضَّلت ألَّا تُرهِق نفسَها أكثَرَ فِي البحث، فأومَأتْ.
عرض عليها قَبل إِغلاقِ البَاب:" تحتَاجِين شيئًا؟"
" كلا، أشكُرُك"
" لا تخافي، أنا الشمالي الذي لن يتحمل الحُمى وليس أنتِ" كرر عليها مَقولَتَها ومِن ثَم أقفلَ البابَ.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Sep 24 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

من لا تراهمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن