عُهودٌ بالوفاء

98 40 0
                                    

صار القصر في أخر أيامه أكثر ضجة، واشتعل ضجيجًا وحركة أزعجت حياة نولان كلها، ومل من مباراكات جوربين المستمرة، ودروس ابنها غير المفيدة بتاتًا، وألغت لير سكونه في مكتبة سير وهي تسأله كل دقيقة أي الألوان أفضل.
قاربت طبلتا أذنه أن تنفجر في صباح يوم الجمعة السابع والثلاثين، ودوت أصوات الطبول طوال اليوم من أعلى برج مراقبة القصر.
عفا سير حينها عن لير فقط، وقرر أن يمنحها الوقت لتستعد لعرس والدها، فيما لم ينطبق ذلك على زَيْن، وقد سعد الصبي بذلك، ففضل أن يقضي الوقت بين كتب سير على أن يسمع مباركات جوربين التي لا توافق قلبها أبدًا، وحزن نولان حين أعلمه سير بعد انتهاء درسهما أنه يستركه ويحضر العرس مع الجميع.
في تمام الساعة الحادية والنصف، وقبل منتصف الليل بدقائق، عادت الطبول تدق دقاتٍ منخفضة الوقع ثم توقفت، وفور سمعها سير ترك نولان في المكتبة بمفرده، ونزل السلالم للساحة الخلفية.
أصبحت الكتب كلها في مكتبة سير متاحة ليقرأها نولان، وقد استغل الفرصة وانتشل واحدًا أسود اللون بلا أي اسم وقرأ منه بالكاد سطور من كل صفحة ثم أغلقه بقوة، تحدث الكتاب عن السحر، وقُسم لأبوابٍ عديدة لها أسماء غريبة، وكلما قرأ نولان من تلك الأسماء اسمًا سمع فحيح أفعى إلى جانبه، أو صوت همسات تُردد بسرعة كلمات غير مفهومة.
ترك نولان الكتاب محاولًا الابتعاد عنه بأكبر قدر ممكن، وتوجه لرف آخر قرب الباب موضوع عليه بعض الوصفات والمكونات، وهو مازال يسمع الهمسات والهمهمات المخيفة حوله، فغادر الغرفة كلها وصفق الباب بقوة خلفه لتتوقف الكلمات المريبة التي كانت تُقال.
كان سعيدًا بأن الفرصة أُتيحت له ليقرأ شيئًا غير كتب موندوس، وفضوليًا ليعرف ما القابع خلف أغلفة الكتب التي يخفيها سير، ويغلقها ليرغعا على الرف إذا ما اقترب منه نولان وهي في يد الأول، أما الآن فقد عدل عن الأمر وقرر أن لا يفكر ثانية في السبب الذي يجعل سير مهتمًا بكتب السحر.
وراح نولان يتجول في القصر الفارغ تقريبًا بلا أي هدف، وهنا فقط شعر بأهمية لير، ووحدته بدونها، وأنها رغم أنها تشبه سجانه الموكل بحراسته لكنه أحيانًا يستمتع بثرثرتها.
توقف الغلام عند إحدى النوافذ على أثر ضجة الجمع الذي لمحه منها، واستطاع تمييز الجمع الملتف كدائرة حول الشجرة الكبيرة بالساحة، يتوسطهم لوكياس جالسًا على كرسي في المنتصف وإلى جانبه على كرسي آخر جوربين البادي عليها الانزعاج وهي تحدثه بسرعة وغضب، وحولهما عدد أقل للكراسي المرتبة في دائرة حول الشجرة بينما كان الكرسيان اللذان جلس عليهما لوكياس وجوربين أمام الشجرة أي أمام النافذة التي نظر منها نولان تمامًا.
فاجأه صوتُ رقيق من خلفه :" ماذا تفعل، نولان؟"
التف الصبي مواجهًا أيِا ثم أردف متعجبًا :" أيا! ماذا تفعلين أنتِ هنا؟ يفترض أنك بالأسفل "
ثم أشار لجوربين من النافذة قائلًا :" جوربين متضايقة منكِ "
امتعض وجه أيا وهي تقول :" دعها تغضب أو تنفجر، ألن تنزل أنت؟ " ودفعته أمامها ممسكة يده :" هيا بنا "
ارتدت أيا فستانًا بنفسجيًا طويلًا طُرِز بنجوم فضية، وتركت شعرها الأسود منسدلًا وفوقه تاج أزهار خشبية من الغوثهام، وعلى كتفها شال بنفسجي ثقيل يُلائم الفستان.
أيا كانت قبل كل هذا فتاة عامية في التاسعة عشر من عمرها، عاشت سنواتها مع أهلها في أحد بقاع الجنوب، تحديدًا في فايمس، وهي مدينة جميلة على ساحل بحر سيتياماري مع شقيقتها وأم لها وأبيها في منزل يكفيهم، مازالت ذكراه معلقة ببقايا المدينة.
تلك المدينة التي أضناها الجوع حتى ماتت، واشتد على أهلها الضعف، وقلت الحبوب والغذاء والماء والدقيق، وصار أمرًا نادر الوجود قليل الرؤية، هذه المجاعة سبقها اضطراب حدث داخلها، حيث طغى التجار في الأسعار، ومنعوا الطعام والشراب عن أحياء المدينة طمعًا في زيادة الرزق، فصار الطعام حق كل غني، وحُرِم حتى عن متوسطي الحال، واضطر والدها أن يعمل بناءً حينها، وهي الوظيفة الوحيدة التي جلبت له رزقًا، وهي وظيفة لا يجيد منها شيء، بعدما كان محاسبًا عند أحد تجار الفواكه ثم طرده.
يعود لهم الأب بما لا يكاد يسد الجوع مِن ما هو أقل قدرًا مِن فتات الخبز، أو بقايا الجبن، ومرت الأيام وغاب والدها وما عاد هو ولا عادت أخباره، ولم تعترف الأم بأي شيء وإنما كانت تنفرد في أحد أركان المنزل وتبكي بحرقة.
وانتزعت الأيام أمها منها، وحشرتها وسط أحد شجارات الأسواق، وهم في طريقهم لإنلينيو لطلب العون من الملكة، وراحت الأم هباءً ضحية ثورة قادها الطامعون في المال، تركت لها أُختًا لم تجاوز السابعة تتضور جوعًا ويفتك بها المرض ببطء.
تابعت الفتاتان الطريق سيرًا إلى مدينة الشجرة، وبين ميل وآخر يتوقفان ليلتمسا من أي مارٍ الماء أو طعام، وعادة ما عملت أيا كنادلة في أي استراحة تقابلها على الطريق، لتوفر الطعام والمسكن لعدة أيام حتى يغادرا لمكان آخر، ثم يعود الفقر من جديد.
وافق صاحب المكان الكريم أن تبيت الفتاتان في غرفة بنزله طوال الفترة التي تعمل فيها أيا عنده، واضطرت لترك أختها في تلك الغرفة، وعمل هي بالأسفل على خدمة الرواد، غير قادرة على علاج ما أَلم بأختها الصغرى أو رعايتها، وجاءت ليلة مشئومة فتك المرض بأختها، بعدما نَحُل جسدها وأصفر وجهها وغاب النور عن عينيها، وجلست أيا بجانب جثتها المفارقة الروح تصرخ، بعدما اضطرت لمشاهدتها تتلوى طوال الليل وتشهق بأخر ما بقى في رئتيها من هواء.
بقيت بعد تلك الليلة أيا في ذلك النزل ممتنعة عن الطعام والشراب تقضي النهار عابسة والليل باكية، واستمرت حالتها تشابه أختها بمرور الزمن، ولم تبالِ الفتاة بذلك الشأن، ورأت في ذلك تعجيلًا للقاء الأحبة.
استطاعت أيا في صباح يلي موت أختها بشهور أن تلمح الموكب الفضي المطرز بعلامات النار، فما منعت نفسها من أن تخرج رأسها من النافذة وتصرخ بما أوتيت من قوة :" ألن تجوع الملكة أبدًا! ألن يموت أهلها من الجوع! ألن تراق الدماء في قصرها لأجل ثمرة برتقال؟ " وهي تضحك بطريقة هستيرية والدموع تغطي وجهها، ولم تسكت إلا عندما أحست بحركة داخل العربة ولمحت ما خلف الستار الأسود يتحرك.
وما هي إلا دقائق واقتحمت غرفتها ودخل أربعة جنودٍ بأسلحتهم يسحبونها بقوة من شعرها إلى خارج النزل ويلقون بها تحت قدم السيدة الملكة، فهمست أيا بطبقة صوت ضعيفة وقد أعجبها التعجيل بموعد بلوغ أهلها :" حاشا للملكة أن يصيبها الجوعُ بالمرض، الملكة غير الحكيمة، لو صبرت لفتك المرض بي قبل أن تفعل هي، حاشاها تَحضر مجاعة فايمس"
قالت المرأة بصرامة :" أنت من سكان فايمس؟ أثبتي "
" ارسلي بعض جنودك يسألون في فايمس عن تراب والدي، حتى أنا لا أعرف موقعه"
أمرت لها الملكة ببعض طعام وانصرفت مبتعدة بخيلاء، فسحبت أيا بحركة مجنونة كتفها وأدارتها نحوها لتتقابل وجوههما وصرخت لما غلبتها الدموع :" أنا فقدت أبًا وأُمًا وأُختًا هنا، لا أريد رأفة طعامك هذه، تلك لا تعيد جثث أهل فايمس للحياة وإن تضاعفت مليونَ مرة، إن أبي لا تراب له، وأمي مكسورة الرأس لم تجف تربتها بعد، وأختي الطفلة تشكو الجوع بعد الموت، عسى طعامكِ يملأ قصرك شبعًا "
غير ذلك اليوم مصير الفتاة، لم تتخيل يومًا أن تقف أمام المرأة التي بحثت عنها وهاجرت مدينتها؛ لتُعرض أمامها وتُمنح عطفها ثم ترفض الطعام منها، لو أن المرأة أتت مبكرًا لوجدت أيا تنتظر ذاك الطعام، أما الآن فقد فات ما فات ومات من مات.
صُيرت أيا منذ ذاك أول ابنة لقصر الغوثهام، ومَنحتْ مِحنة أيا الملكةَ الفكرةَ لتبدأ الأمر وتجمع من مات أبوه أو أمه أو كلاهما ليتبناهم القصر، هؤلاء الذين فقدوا ذويهم أواهم القصر، وترقت في درجات الثقة حتى صارت خادمة الملكة.
سار نولان مع أيا إلى أن نزلت الساحة، وحين برزت عند المدخل بدأ الجمع أمامها يغطونها بأجسادهم عن اتجاه لوكياس فيما يفسح لها البقية الطريق لتمر، فباتت أشبه بقطب مغناطيس موجب محاط بأقطاب موجبة، وظلت ممسكة بيد الصبي حتى جعلته في الصف الأمامي ثم أفلتته، وجراء ظهورها نهضت جوربين تاركةً الكرسي فارغا، وتحرك لوكياس ناحيتها ليلتقط يدها.
أول ما لاحظه نولان أن لوكياس قرر التخلي عن ملابسه ذات اللون الأسود المشئوم واكتسى بنفس اللون الذي ارتدته أيا، فارتدى عباءة بنفسجية داكنة بهيمة أي لا يشوبها أي لون غير البنفسجي، هذه هي أول مرة يتفق فيها نولان مع كلام لير بضرورة ارتداء ما يلائم الوجه من ألوان، بعدما ظهر له مثال حي، وتأكد أن البنفسجي لا يليق بشخصية لوكياس ولا وجهه الممزق.
لِأمنعك فقط من الوقوع في الفهم الخطأ، سأخبرك بأن اللون البنفسجي ليس الراعي الرسمي للزواج وإنما هو لون أيا المفضل فقط ثم سأنهي أمر البنفسج.
كانت عينا نولان تقلب الحاضرين عن لير قبل الآن، حتى ظهرت لير من خلف الجموع واستوقفت والدها ثم أعطته تاجًا يشبه المعتلي رأس أيا قبل أن يتحرك ناحية أيا.
سحبه منها لوكياس غير مبالٍ ووضعه على رأسه، وتراجع مع أيا التي ظهر على وجهها الحياء ناحية الشجرة أسفل القصر حيث وقف رجلٌ يحمل دفترًا صغيرًا يقرأ منه، وحين باتا تحت الشجرة أمام الرجل سكت الجمع وتحدث الرجل قائلًا بصوت مسموع للجميع :" أيسمعني الملأ؟ "
صاحوا في صوت واحد :" نسمع "
ثم توجه بحديثه للوكياس :" سيد لوكياس بن أوكتان سليل آراتاك، هل تعترف بأيا بنت أفاساغ سليلة يرسن زوجة لك؟ "
أعترف "
" تعترف؟ "
أعترف "
تعترف؟ "
"أعترف "
وبماذا تجازي طاعتها؟ "
" بعمري إن قبلت "
" وبما تجازي عصيانها وخيانتها؟ "
" بنفيها إلى أواخر بقاع الأرض إن فعلت "
سجل الرجل في دفتره نص الحديث ثم توجه لأيا بقوله :" السيدة أيا بنت أفاساغ سليلة يرسِن، هل تعترفين بلوكياس....."
وكررت أيا ما قاله لوكياس نصًا، عدا أنها اختارت عينه كجزاءٍ لخيانته إن خان، ثم سجل الرجل ما قالت، ونادى أول اسم في قائمته :" جُوربِين كِمَا "
وسألها ثلاث مرات عن شهادتها فشهدت، ونادى أسماءً أخرى لتشهد أيضًا، وبعد الشهادة قلب الرجل من دفتره صفحة وسلم سكينًا للوكياس صنع بها شقًا صغيرًا في إصبعه ثم طبع إصبعه في تلك الصفحة وكررت أيا نفس العمل وفور انتهت أيا اشتعلت الساحة بالصفير.
وسط المباركات والتهليلات والضوضاء لمح نولان لير متوجهة بسرعة ناحية باب القصر حيث الأضواء، واكتشف لمَّا لحق بها أنها كانت تبكي!
همس نولان محاولًا إيقاف خطواتها السريعة :" ما بكِ؟ مابكِ؟ "
دفعته وابتعدت تمسح دموعها :" اتركني وشأني "
توقف أمامها وقال :" مهلًا، لقد فسد شعرك "
توقفت لير وصرخت بضعف :" كفاكَ عني "
تحدث نولان بجدية :" بحقك لير! كفاكِ أنتِ حزنًا، هيا امسحي دموعكِ ورتبي شعركِ وعودي أدراجك باركي لوالدكِ وما يشبه ذلك"
" اذهب أنت، سأبقى أنا قليلًا في غرفتي ثم أعود بسرعة "
أردف نولان متعجبًا :" وهل يُعقل! ألا يُفترض أن تكوني سعيدة "
تقطع صوت لير:" إنني أحب أيا، لكن .. لكني .. لكني كنت أود أن يكون العُرس لِأمي أنا "
صمت نولان برهة ثم حاول تهدئتها :" لا بأس"
وسحبها خلفه معيدًا إياها للتجمع وهي يقول :" استجمعي نفسك، لا أظن والدكِ سعيدًا برؤيتك هكذا "
ودفع بها بينما تمسح دموعها ناحية مسند الكرسي الذي جلس عليه كلا من لوكياس وزوجته، فتفاجأ لوكياس بوجودها خلفه، وسحب يدها ناحيته مبتسمًا، قبلت لير يد والدها أولًا، ثم راحت تلثم يد أيا التي سحبت يدها واحتضنت لير ثم أرسلتها لما شعرت باهتزاز جسدها الباكي، ومسحت دموعها وعادت تعانقها وتمسح على وجهها، ولم تستطع تهدئتها فوكزت لوكياس ليلاحظ ابنته، وأدناها والدها جانبه وراح يحادثها بشيء لم يسمعه نولان.
قطع الضحكات والتهليلات والتهنئة ومواساة لير قدوم أحد حراس البوابة وانحنى على أذني لوكياس ثم حدثه بأمر أجبره أن يترك زوجته وابنته وعرسه لحل تلك المشكلة.

من لا تراهمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن