موطنُ الخيال؛ الرّابع

52 10 6
                                    

رأيتُه ، رأيتُه من جديد ، رأيتُه كما عهدتُه طوالَ سنواتِ رفقتنا ، يضعُ سمّاعاتِه و يبتسمُ لي على عجلة ، أمامَ بوّابةِ المدرسةِ حيثُ كُنّا نتودّعُ كلَّ يومٍ و نفترق ، و لسوءِ حظّي ، كانَتِ الرّؤيا في رأسي ، حُلماً عابراً لا صلةَ له بأحداثِ حياتي.
فتحتُ عينيّ ببطء ، علّي لا أفقدُ هالةَ الحُلمِ الورديّ في خوضِ واقعٍ أسود ، علّي لا أفقدُه ، علّي أعاودُ مشاهدتَه مرّةً بعدَ مرّة ، و لا أستيقظ أبداً ، أبداً أبداً.
تحرّكتُ قليلاً أستكشفُ موقعي من بعدِ ما يئست ، لمحتُ ساعتي الرّقميّةَ تضيءُ بجانبِ رأسي ، السّاعةُ الخامسةُ فجراً الآن ، و أنا مرتميةٌ فوق الأريكةِ في صالةِ البيت ، غافيةٌ منذُ ساعاتٍ قليلةٍ غيرِ مريحةٍ و لا بأيّ شكل ، و فقط لئلّا أظلَّ مع خالتي الصّغرى في مكانٍ واحد ، هذه المرأةُ مُختلّة ، تجعلُني أتساءلُ في كلِّ يومٍ عمّا إذا كنتُ أحقدُ على البشريّةِ أو على حياتي أو عليها ، أو أكرهُ وجودي بقربها فحسب ، و ما من إجابة ، أرجو أن ، حسنٌ لن أرجو ، هذا يكفي.
نهضتُ رويداً ، و جئتُ بحاسوبي المحمولِ الموضوعِ إلى قربي ، بحثتُ عن مسوّدةِ البريدِ الإلكترونيّ التّي كتبتُها مساءَ البارحةِ للشّركة ، رسالةُ اعتذارٍ و إذنٍ و طلبِ إجازةٍ جديدة ، نسختُها ، أرفقتُ معها معلوماتي و نشرةَ الطّقسِ و نسخةً عن إجازتي الماضيةِ و قرارِ الحكومة ، لئلّا يجدَ المديرُ أيّ منفذ ، ثمَّ أرسلتُها ، ممتاز ، أصبحَ في إمكاني النّومُ بسلام.
و لكن ، يبدو أنّني لن أفعل.
مررتُ على غرفةِ النّومِ المشتركة ، سحبتُ منها ملابسي بسريّةٍ تامّة ، اعتماداً على تصاعدِ وتيرةِ الشّخيرِ و الغمغمة ، ثمَّ تسلّلتُ بسرعةٍ إلى الحمّام ، اغتسلتُ على استعجالٍ بالماءِ قارسِ البرودة ، ارتديتُ ملابسَ الخروج ، و غادرتُ البيتَ لأتابعَ انبعاثاتِ الصّبحِ في مكانٍ ما ، وحيدة ، تماماً كما كنتُ طوال حياتي.
هدأتِ العاصفةُ منذُ ساعات ، لكنَّ الجوَّ على العكسِ منها ، لم يهدأ على الإطلاق ، فتارةً ما يكونُ صاقعَ البرودة ، و تارةً ما ينحازُ إلى الدّفء ، لا أحدَ يدري كيف و لماذا.
لا تُهِمُّ هذه الأمور ، المُهِمُّ أنّ الحكومةَ لم تسمح بالرّحلات ، و لن تفعلَ قبلَ أسبوعٍ حسبَ الإعلانِ الرّسميّ ، لذلك ، سأرتمي مجدّداً في موطنِ التّعاسةِ هذا ، سأظلُّ مدفونةً فيه طوالَ العطلة ، أرجو ألّا أظلَّ إلى الأبد.
مررتُ بين المنازلِ القريبة ، توغّلتُ في القريةِ إلى وسطِها ، و رحتُ أبحث ، بغيرِ أن أدرك ، عن بيتِ بومغيو ، أذكرُ أنَّه كانَ في هذا الشّارع ، فقَدْ صدفتُه ذاتَ صباحٍ هنا ، و مشيتُ معه إلى المدرسة ؛
كنتُ بصحبةِ نابي الأُولى على صفِّنا في ذلك اليوم ، و صديقاتها اللّائي يكرهنني ، أو ربّما لا يحبّونني ، نابي تعرفُه ، تعرفُ بومغيو جيّداً ، سمعتُ أنَّها ارتادَتْ معه ذاتَ الكليّة ، و كانَتْ في مجموعةِ أصدقائه ، و لم أجرؤ على سؤالها عن الأمر ، ثمَّ مرّتِ السّنون ، و لم أعد أقابلُ أيَّهما.
ليته يظهرُ من جديد ، لن أتجاهلَه كي أبعدَ عنّي الشّبهاتِ كما فعلتُ في ذلك الصّبحِ البعيد ، سوف أقتربُ منه ، سوف أسلّمُ عليه و أعرّفُ بنفسي ، هذا ليس خاطئاً ، فهذا ما يفعلُه الرّفقةُ دائماً ، أولم يكن صديقاً لي؟ فما الذّي سوف يختلفُ اليوم؟
توغّلتُ في الشّارع ، بحثتُ عنه في الشّرفاتِ و أمام الأبواب ، لم أجد إلّا خيالاتي المتناثرةَ هنا و هناك ، لم أجد إلّا مواطنَ شوقي و محبّتي و دفءَ ذاكرتي ، وجدتُ كذلك الخيبة ، المُسطّرةَ في كلِّ صفحةٍ من صفحاتِ مذكّراتي ، أو المعنونةَ لها بمعنىً أدقّ.
توقّفتُ عند أحدِ الأبواب ، هذا البابُ مميّز ، مميّزٌ بطريقةٍ ما و كأنّني أعرفُ ساكنيه ، و كأنّ العمرَ قَدْ حطَّ عنده من ذي قبل ، و عادَ يحطُّ من جديدٍ اليوم ، فما تراه يخفي؟
تحرّكَ البابُ بغتةً ، فاستعجلتُ التّحرّكَ لئلّا يستهجنَ أمري الخارجُ منه ، مشيتُ و مشيت ، ثمَّ اختبأتُ في مدخلِ بناءٍ آخرَ مفتوحِ الباب ، و استرقتُ النّظرَ إلى موقفي المتروكِ عنوةً ، كانَ الواقفُ فيه رجلاً غريباً لا أعرفُه ؛ ما به قلبي ينبضُ بعنف؟ أمن التّوتّر؟ أم لحسباني بأنّني سأرى بومغيو فعلاً؟
أهذا موطنُه؟ أم أنَّه موطنُ خيالاتي و أوهامي؟ ما المميّزُ فيه إلى حدِّ خلقَ فيَّ شعوراً ، شعوراً حقيقيّاً تماماً ، و على الرَّغمِ من أنّ دواخلي لا ترحّبُ بهذا النّوعَ من التّحوّلات؟
خرجتُ مهمومة ، أداري اضطرابي ، و أتلفّتُ ذاتَ اليمينِ و ذاتَ الشّمال ، تخيّلتُه يخرجُ من أحدِ الأبواب ، يقفُ ، و يبتسمُ لي ، يبتسمُ كما كانَ يفعلُ في أيّامِ الثّانويّة ، ابتسامةً رقيقةً بريئة ، يشردُ في أثناءِ إظهارِها ، تلمعُ عيناه ، و تثبتان في محاجرهما ، تثبتان و تبرقان ، أمام وجهي أنا..
لم ينظر إليّ أحدٌ بذاتِ الطّريقةِ على الإطلاق ، لا قبلَكَ و لا بعدَك ، و لم أقدّر نظراتِكَ في وقتِها على أحسنِ ما يجب.. لم أفهمها و لم أحلّلها.. يا إلهي.. يا إلهي كم أشتاقُ إلينا..
هل ستعودُ و تنظرُ إليّ بذاتِ الطّريقةِ إذا ما التقينا من جديد؟ لم تفعل ، لم تنظر إليّ أبداً و برغمِ أنّكَ خاطبتني..
لماذا لم تنظر؟ هل خسرتُكَ بفعائلي؟ هل خسرتُكَ بغبائي؟ كنتَ تخبرُني دائماً بأنّني الأغبى ، ألا تمرّرُ لي تصرّفاتي طالما كنتَ تعرف؟
لا يُهِمّ ، فبومغيو الذّي في ذاكرتي ، لم ينظر بعدُ إلى غيري ، لم ينظر إلى أحد ، أُحِبُّه هو ، أنتَ لا أعرفُك..
تلفّتُّ حولي من جديد ، ألتحفُ دفءَ الذّكرياتِ و حرارةَ النّدم ، أتلفّتُ في موطنِه ، هذا موطنُ بومغيو ابن الذّاكرة ، هذا الموطنُ الذّي ننتمي إليه ، و لو ما عادَ و أحيا نفسه ، لو ظلَّ مدفوناً هنالك.. و لو دفنني هنالك برفقتِه.. و حتّى لو كنتُ أكذبُ على نفسي ، لا بأس..

.

.

.

حُرِّرَ في ليلةِ الأوّلِ من شباطَ عامَ ألفين و أربعٍ و عشرين
و نُشِرَ في الثّاني عشرَ من الشّهرِ ذاته

.

.

.

🎥 يُتبَع 🎞️

هوني هناا🥺🧡☁️
أرجو لكَ يوماً سعيداً ، و عمراً مريحاً مُشرِقاً ، أرجو أن تعرفَ أنّ أحكامَ الآخرين ليسَتْ إلّا كلاماً فارغاً في أغلبِ الأحايين ، و طالما أنتَ راضٍ عن نفسك ، و تعرفُ بأنّ ربّنا راضٍ عنك بإذنه تعالى ، فلا تقلق ، و لا تفكّر فيهم كثيراً ، امضِ قُدماً كلُّنا سندعمك!
اسطع يا عزيزي!
أُحِبُّك!🧡🧡☁️

فيلموجرافيا ~ تشوي بومغيوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن