فيلموجرافيا؛ الأخير

97 7 124
                                    

انتهَتْ أيّامُ زيارةِ يونجون في غمضةِ عين ، و غادرَ العزيزُ بأنسِه و الأُخوّةِ التّي حُرِمتُ منها سنيناً ، ثمَّ تبعتها إجازتي ، و صارَ يجبُ أن أعودَ ، و بأقصى سرعة ، إلى عملي المقيتِ في مدينةِ الأشباحِ تلك ، و إلّا سينالُ أحدُ المُوظّفين نصيبي من غضبِ المُدير ، أو سيراكمُه لي ، أعرفُ كم يُحِبُّ التّأنيب.
ودّعتُ أُمّي و جدّيّ ، بطيبِ نيّةٍ في هذه المرّة ، حملتُ حقيبتي ، و جررتُ قدميّ إلى الخارجِ بغيرِ رغبة ، كعندما كنتُ أخرجُ إلى الحضانةِ في طفولتي.
لا يمكنُ الاحتفاظُ بالأيّامِ الحلوة ، و لا يمكنُ تفادي أقبحها ، كلُّها تولّدُ ذكرياتٍ متفرّقةً مجتمعة ، فيلموجرافيا أنتَ المخرجُ و أحدُ الأبطالِ فيها ، و في لحظةِ تنظرُ إليها من بعيد ، ستجدُ أنّ لها جماليّةً ما وُجِدَتْ و لن تُوجَدَ في غيرِها ، أؤمنُ بهذا ، أوقنُ به ، حتّى لو شككتُ به ، سيظلُّ حقيقةً قابلةً للنّقاش ، و واقعةً قاطعةً في مناسباتٍ أُخرى.
مشيتُ في الطّريق ، غيرِ العاصفِ في هذه المرّة ، و تابعتُ الأشجارَ و العصافيرَ و المارّة ، الهواءُ قارسٌ و الشّمسُ ساطعةٌ مسلّطةُ الأشعّة ، جوٌّ مُمرِضٌ من الدّرجةِ الأُولى ، و جميلٌ أيضاً.
الكلبُ نائمٌ بسلامٍ أمام البوّابة ، و صاحبُه يعملُ في الجهةِ الأُخرى ، يدقُّ أحدَ المساميرِ بتأنٍّ شديدٍ لئلّا يزعجَه ، و أحدُ الأطفالِ واقفٌ يراقب ، يراقبُ صوتَ الكلبِ المُميّزَ في الشّخيرِ و التّنغيم ، مشهدٌ ظريفٌ آخر.
وصلتُ أخيراً إلى موقفِ الحافلة ، كنتُ أتمنّى في أعماقي لو أرى بومغيو جالساً من جديد ، سيختلفُ ردُّ فعلي أقسمُ بذلك ، لكنَّه لم يكن ، كانَ المقعدُ الشّاغرُ قادراً على استثارةِ أحزاني الدّفينة ، و قادراً على إحياءِ خيباتي أكبرها ، واحدةً تلو الأُخرى ؛ بومغيو كانَ البطلَ في الفيلموجرافيا الأعزِّ خاصّتي ، كانَ من بدأ صياغتَها و من أعادَ إحياءها من جديد ، بغيرِ أن يحضر حقَّ الحضورِ فيها ، بطلٌ فريدٌ قادمٌ من الذّاكرة ، و ساكنٌ في الخيالِ و إليه ، أحنُّ إليه ، أحنُّ إلى مشاعرِه الرّقيقةِ التّي ما استطاعَ في يومٍ إخفاءها برغمِ أنَّه حاول ، أحنُّ إلى صوته الجميل ، إلى عينيه الحلوتين الغاليتين ، عينيه ، لوحة الطّبيعةِ الأغلى ، المعروضةِ بكاملِ ألوانها و مشاعرها عليّ أنا فقط ، على روحي المنهكةِ المتعبة ، المُضمّدةِ باهتمامه النّفيسِ و بكلماته البسيطةِ مكمونةِ المقاصد ، أُحِبُّكَ يا بومغيو ، و سوف أظلُّ أذكرُكَ حتّى آخرِ يومٍ في حياتي.. سأظلُّ أُحِبُّكَ كيفما كانَتِ الظّروف ، حُبّاً صادقاً و رقيقاً ، أقصدُه و أعنيه و لا أحتوي غيره.
تنهّدتُ أتفاعلُ مع نفسي ، ثمَّ ارتميتُ على المقعدِ ريثما تحضرُ الحافلةُ و تأخذُني من هنا ، ربّما كانَ يجبُ أن أقبلَ عرضَ يونجون و أرافقَه بسيّارته منذُ أيّام ، لكن لا بأس ، كلُّ الخياراتِ طالما كانَتْ ممكنة ، فهي جيّدة

_"مرحباً"

نهضتُ مع رنينِ السّلامِ في أذني ، و رددتُه لصاحبته بالرّغمِ من استغرابي ، هذه إيانا الفتاةُ المتفائلة ، التّي ما عدتُ أراها منذُ وقت ، و سمعتُ مجرّدَ السّمعِ منذُ يومين ، أنّها مع تايهيون الآن ، أتمنّى لهما التّوفيق.
كلُّهم عادوا يا بومغيو ، إلّا أنت.
أفسحتُ لها المجالَ كي تجلس ، كانَتْ تبتسمُ بحياء ، على عادتها ، و تنظرُ في الأرض ، ترغبُ في سؤالي عن حالي ، لكنّها لا تعرفُ كيف تبدأ ، ما تزالُ كما تركتُها ، لم يتغيّر فيها شيء ، و أظنُّ تايهيون ما يزالُ كما كانَ أيضاً ، مهتمّاً بها ، كيفما كانَتِ الأوضاع ، أنا فعلاً أتمنّى لهما كلَّ الخير ، فكلاهما يستحقّه

فيلموجرافيا ~ تشوي بومغيوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن