ظلُّ الأحلام؛ الثّاني عشر

58 6 39
                                    

تداعَتْ أحلامي تباعاً في هذا البيت ، أرى جدرانَه الصّفراءَ تستهلكُ طاقتي و أيّامَ عمري واحداً تلو الآخر ، تستهلكُ شبابي و حلاوةَ روحي ، تستهلكُني أنا ، تستهلكُ شخصيّتي و سعادتي ، و أقفُ أنا أتابعها ، لا أحرّكُ ساكناً.
أجلسُ أحياناً أمام إحدى نوافذِ البيتِ العتيق ، أتابعُ الشّمسَ و النّاسَ المترامين في دفئها هنا و هناك ، و أفكّر ، هل أنا الوحيدةُ التّعيسة؟ ألا يجرّبُ غيري هذه المرارة؟ لماذا؟ ألأنّ لي أهلاً أنانيين لا يرون إلّا رغباتهم؟ ألأنّني لم أعد أحظى بالحُبِّ من بعدِ رحيلِ والدي؟ ألأنّني أنمو بعكسِ الشّمس؟ أنمو إلى العتمةِ و لا أفرُّ من تبعاتها؟
لا أدرك ، حتّى الشّابُّ الوحيدُ الذّي اهتمَّ بي في يومٍ اضمحلَّ تواجدُه ، غادرَني ، و عندما لاقتنا الظّروفُ تجاهلَني ، أكادُ أختنق ، أكادُ أُجَنّ أيضاً ، و لا أستطيعُ أن أشكو ، ما من أحدٍ أشكو إليه تعبي و تلفي و قلّةَ حيلتي ، و عندما أفتحُ فمي ، تُسلّطُ عليّ فوّهاتُ الأسلحة ، من الاستخفافِ إلى الاتّهاماتِ و الشّتم ، إلى أين أذهبُ يا اللّٰه ، أخبرني أرجوك ، إنّني عاجزةٌ و قَدْ ضاقَتْ بي كلُّ الأماكن..
أفقتُ في وقتٍ متأخّر ، كانَ البيتُ يعجُّ بالأصواتِ و رائحةِ النّزاعات ، صوتُ جدّي غيرُ واضح ، إذاً فخالتي الصّغرى ، و على العادة ، قَدْ وجدَتْ فرصةً لتضعَ عنها قناعَ اللّطفِ و المسكنة ، و أبانَتِ السّوادَ الذّي ، و مع أسفي ، لا يراه إلّا ضحايا سُمِّه القاتل ، لم يره غيري ، و لم يداوِني أحدٌ و لم يعترف بإصابتي أحد ، ظلَّ هذا السّمُّ يأكلُني من الدّاخل ، بصمت ، حتّى متُّ و أنا على قيدِ الحياة.
نهضتُ بعدَ عدّةِ مناقشاتٍ فارغةٍ مع نفسي ، و توجّهتُ نحو بابِ الغرفة ، استرقتُ السّمعَ إليهم ، كانوا يتحدّثون في أمرٍ ما ، في صالةِ البيت ، و قَدْ تصاعدَتْ وتيرةُ الحديثِ كثيراً ، إلى حدِّ لم أعد أرغبُ في سماعهم ، لقَدْ تعبت ، تعبتُ و أنهكت ، تعبتُ تعبتُ تعبت.. لم أعد قادرةً على احتمالِ شيءٍ بعد..
ماذا تقول؟ نعم ، تقولُ على الأكيدِ أنّها المظلومةُ الوحيدةُ على وجهِ الأرض ، و أنّنا بسببِ أعمالها _الخيريّة_ قَدْ صرنا ما نحنُ عليه اليوم ، و لولاها لمتنا منذُ عقود ، لمتنا جوعاً و برداً ، و كلُّ ما فعلته ، و بحسبِ ذاكرتي ، أنّها ، براتبها و تعبها غير الموجودِ في أرضِ والديها ، دفعَتْ في البيتِ ما ندفعُه جميعاً ، و لكن أنا ، أنا لم أكن أدفع قبلما وُظّفت ، و اضطرَّتْ للتّصدّقِ عليّ في عدّةِ مرّاتٍ كي يتسنّى لي إكمالُ دراستي ، تقولُ أنّني ناكرة ، و هذا ليس دقيقاً تماماً ، هي تكرهني فحسب ، تكرهني كثيراً ، و هذا واضحٌ للجميع ، عدا أُمّي و جدّيّ ، لقَدْ تعبتُ يا ربّي.
فتحتُ البابَ أخيراً و خرجت ، لقيتُ يونجون واقفاً في الممرّ ، ممتعضاً إلى حدٍّ ما ، و والدتُه تمسحُ على كتفه ، أخشى أنّ سمّ الأفعى الصّفراء قَدْ طالَه أيضاً ، أخشى ذلك.
توجّهتُ إليهما ، و هنالك ، بلغتني أصداءُ الكلمات ، بلغني حسبانها لكلِّ حركاتي ، بلغني لؤمها المعتاد ، بلغتني سخريتها من شكلي و أسلوبي و تخصّصي و حياتي ، بلغني كلّ هذا ، كلُّ كلامها السّابقِ عادَ يُغرَسُ في صدري ، و بسبب كلمةٍ واحدةٍ فقط ، تلك النّاكرة ، هذا ما قالته ، بدايةً..

فيلموجرافيا ~ تشوي بومغيوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن