فسحةُ سلام؛ التّاسع

38 6 14
                                    

مررتُ مع يونجون على غالبِ شوارعِ القريةِ الأساسيّة ، سحبتُه بصعوبةٍ من أمامِ محلِّ الملابس ، و طاوعَني إذ بدأ النّاسُ يتنبّهون إلينا ، ما الذّي يلفتُهم في شكلِ بنتِ خرقاءَ تسحبُ ذراعَ شابٍّ عنيدٍ و هي تعرفُ أنّ فرقَ الحجمِ لا يساعدُ أبداً؟
على أيّةِ حال ، أخبرني بأنَّه يُحِبُّ الهدايا فحسب ، و تجاهلتُ محبّتَه هذه لسببين اثنين ، أوّلاً ، لا أستطيعُ قبولَ هديّةٍ منه بعدما سخرتُ من رغبةِ خالتي في جمعِ الهدايا له ، و ثانياً و الأهمّ ، يصعبُ من بعدِ ما غضبتُ في وجهِه و أبدى أنَّه يهدفُ للاعتذارِ لا لغيره ، سأُحرَجُ كثيراً ، بدأتُ أفعلُ منذُ وقت.
و في الطّريق ، و بعدما أحسنَ إبدالَ المواضيع ، كعادته ، حكى لي كثيراً من الأمورِ عن نفسِه ، عن أصدقائه في الكليّةِ و عن الفتياتِ اللّائي قابلَ في حياتِه ، لم يضطرَّ لإقناعي بشيء ، فله جاذبيّةٌ ليسَتْ في أيٍّ كان ، حتّى أنا الغارقةُ في غيرِه قَد أحسستُ بها.
أمّا أنا ، فحكيتُ له الكثيرَ عنّي ، حكيتُ له عن كلِّ ما خطرَ في بالي ، عن عملي المُضجرِ و حياتي الرّتيبة ، و حتّى اهتماماتي الخاصّة ، التّي بدا أنّنا نشتركُ في بعضِها ، حكيتُ عن أهمِّ ما يشغلُ حياتي الضّحلةِ المشوّشة ، إلّا بومغيو ، لم أستطع التّلفّظَ باسمِه ، خلتُه في كلِّ مرّةٍ مارّاً بيننا ، و حشرجَ صوتي في حلقي ، خفت ، خشيتُ أن يراني أحدّثُ في أمرِه بهذه البساطة..
كيف سيكونُ ردُّ فعله؟ ألن أُحرَجَ أكثرَ ممّا أُحرِجتُ من يونجون بألفِ مرّة؟
حسنٌ ، لن أهتمّ الآن ، فهذا شيءٌ لم يحصل حتّى لو أخافني ، كما قَدْ كانَ مشواري المفاجئ الصّغيرُ مع يونجون فسحةَ سلامٍ في قلبِ يوميّاتي البائسة ، جعلتني أرجو اللّٰه أن تغلقَ كلُّ الطّرق ، و لا يعودَ قادراً على مغادرةِ القرية ، لا زلتُ أفعل ، و لن أخرّبَ هذه الفسحة ، لا يحقُّ لي أن أفعل

_"يونجون ، دعنا نذهب من هنا"

أمسكتُ ذراعَه أسألُه أن ينعطفَ معي إلى جهةِ اليمين ، أردتُ أن أريَه إجراءاتِ افتتاحِ مطعمٍ أعلنوا عنه في كلِّ أرجاءِ القرية ، و لم يقبل أحدٌ في بيتي أن يرافقَني إليه ، سيتمُّ اليومَ مساءً على ما أعتقد

_"أنتِ تتفادين هذا الشّارعَ منذُ وقت ، ما الأمر؟"

سألَني ، و أشارَ إلى الشّارعِ الذّي نقفُ في ناصيته ، و أبدأُ الانعطافَ عنه الآن ، لم يسأل بنيّةٍ مُخفاة ، و إنّما بمحضِ فضولٍ طريفٍ عمّقتُه بسكوتي ، ليس يملكُ أفكاراً ، تلك الأفكارُ لم تُولَد و لم تتواجَد إلّا في رأسي الصّغيرة..
هذا الشّارع ، هو شارعُ سكنِ بومغيو ذاتِه ، شارعُ مولدِ الخيالِ و منبعِ العواطفِ و المشاعر ، لم أنتبه على الإطلاقِ إلى أنّني أتفادى المرورَ فيه كلّما قربناه ، أو ربّما انتبهت ، و جاءَ ردُّ فعلي آنيّاً تماماً لم أعِ بوقوعه..
سحبَ يونجون علبةً من جيبِ سترتِه ، علبةَ سجائر ، تلك كانَتْ دافعَ الخروجِ الأوّل ، بحسبِ صراحته ، و الآن ، هي دافعُ و مبرّرُ ارتباكي الأساسيّ ، و ليس الشّارع.. أليس كذلك؟

_"هنالك أمرٌ إذاً"

ردّدَ و هو يدسُّ لفافةَ التّبغِ في فمِه ، ارتبكتُ مزيداً و أنا أراقبُ مساسها بوجهِه الغضِّ النّاعم ، و الدّخانَ الأبيضَ الصّادرَ عنها فيما بعد إشعالها ، لا تليقُ به ، لا تليقُ به على الإطلاق.
تنحنحت ، و حاولتُ التّغاضي عن كلّ المشاهدِ الحقيقيّةِ منها و المصوغةِ في رأسي الصّغيرة ، يجبُ أن أخلّصَ نفسي ، و بسرعة..

_"ليس هنالك أمر ، لم أنتبه فقط"

_"هيّا أخبريني ، لن أخبرَ أحداً"

ألحَّ عليّ كطفلٍ صغير ، فضربتُ على ذراعِه برفقٍ كي يتوقّف ، بتُّ أخالُ بومغيو خارجاً من شارعهم في أيّةِ لحظة ، خارجاً من أحدِ الأبوابِ التّي ضعتُ ما بينها في المرّةِ الماضية ، خلتُه يرمقُنا بسكون ، ثمَّ يمضي إلى قربنا بحنق ، يغطّي عليه ما استطاع ، فتحتالُ أمنيةُ رؤيتِه كابوساً مؤرقاً..
ماذا لو.. ماذا لو لم يعد يرغب..
يا إلهي! و منذُ متى كانَ يرغبُ في قربي مثلاً!؟ لماذا أحمّلُ الأمورَ أكثرَ ممّا تستحقّ!؟
تنهّدتُ مستغرقةً في ثقلِ المشهدِ و تبعاتِه ، ثمَّ أقفلتُه ، و بتُّ أريدُ مغادرةَ المكانِ أيّاً كانَ الثّمن ، سأتركُ المشهدَ عاملاً وحده هنا ، عاملاً بعد ساعاتِ الفجر ، و غريباً في المشاعرِ التّي يخلقُها ، مختلفاً مع كلِّ استعادة ، مشهداً من فيلموجرافيا فريدةٍ من نوعها.. نعم.. هذه هي..

_"هنالك مطعمٌ سيفتتحُ في آخرِ الشّارع ، إن كنتَ لا تريدُ أن ترى الحفلَ فلنعد إلى البيت"

_"تريدين رؤيةَ الحفل؟"

همهمتُ له ، فتبسّمَ لي من جديدٍ ؛ لو وافقَ طلبي غيرَ المباشر ، و حتّى لو لم يوافق ، فهمُه السّريعُ لرغبتي المدفونةِ وراءَ أضبّةِ الفظاظة ، يُعَدُّ هديّةً بحدِّ ذاته ، حتّى لو لم أرغب في حسبانها على هذه الحال ، فسحةُ السّلامِ بذاتِها هبةٌ سماويّة ، و سوف أردُّ له مأثرها في القريبِ العاجل

_"هيّا بنا إذاً"

.

.

.

حُرِّرَ في الثّاني من شباطَ عامَ ألفين و أربعٍ و عشرين
و نُشِرَ في العشرين من الشّهرِ ذاته

.

.

.

🎥 يُتبَع 🎞️

هوني هناا🥺🧡✨
حالُ الدُّنيا يختلفُ و يتغيّر ، لربّما هذا الثّابتُ الوحيدُ فيها منذُ بدايةِ الخليقة ، و لا تقلق من التّغيير ، فهو خيرٌ كيفما رأيته يا عزيزي ، لا تقلق طالما الأقدارُ بيدِ اللّٰه سبحانه وحده✨
أُحِبُّك!🥺🧡✨

فيلموجرافيا ~ تشوي بومغيوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن