10 . عادت الذاكرة

4 2 1
                                    

كيف تذكرت كل هذا؟ كيف تذكرت تلك الليلة ؟
قد تتسائلون...

لمدة شهر بعد تسريحي من المستشفى مكثت في منزل سامر مع والدته التي لم تكن تختلف عن والدتي ابدا ؛ عاملتني كأنني ابنتها ؛ حتى انها ذكرتني و اخبرتني بمعظم التفاصيل التي كنت اجهلها خلال كل تلك السنوات التي قضيتها داخل مستشفى الامراض العقلية و النفسية ، منعزلة عن هذا العالم ، محبوسة داخل ذلك العالم الخيالي ... إلا انها لم تستطع اخباري بما حدث تلك الليلة ...
لكنها اخبرتي بما هو افضل من كل ما سبق !
اخبرتني بالكثير عن سامر الذي كان قد استأجر شقة قريبة من منزل امه ليمكث فيها ، رغبة منه في جعلي اكثر راحة رفقة والدته ...
كانت قد اخبرتني اشياء جعلتني اقع في حبه كليلى ؛ اشياء يعجز المرء عن نسيانها بعد معرفتها ...
قالت ان سامر احبني منذ اول ليلة التقينا فيها ، و على الرغم من انه لم يخبرها قط بذلك الا انها امه و انها تشعر بابنها ... قالت انه لم يتركني ابدا ، فبعد ما حصل لي في تلك الليلة اخذاني الى المستشفى حيث اكتشفا انني قد اصبت بانفصام الشخصية ، و منذ ذلك الحين اضطرا الى دفع كل مصاريف علاجي ... قالت امه ان سامر لم يدعها تدفع شيئا ، فقد عمل في العديد من الاماكن و درس في نفس الوقت ليوفر مصاريف علاجي قائلا انه يريد ان يكون وفيا للوعد الذي قطعه ... مرت سنة على ما حدث و تخرج سامر من الثانوية بمعدل عال ، كان هدفه ان يتم قبوله في مجال علم النفس و الطب العقلي و النفسي !
اخبرتني امه انه لم يرد ابدا ان يتخصص في اي مجال آخر ؛ كان هدفه ان يصل الى طريقة لعلاجي ، كان يمر الى المستشفى كل اسبوع ليسأل الطبيب عن تطور حالتي لكنه كان يرى اهمالا كبيرا من طرف ذلك الطبيب ، حتى انا لا اذكر شكله ! فحسب ما قالته خالتي ام سامر انهم كانوا يتركونني لوحدي لانني كنت عنيفة او بالاحرى كانت شخصياتي عنيفة ...

كيف لي ان لا احبه ؟ و هو الذي لم يكترث للتعب و المسؤوليات التي كانت تثقل كاهله ... هو الذي ايقظ روحي و جعل قلبي ينبض مجددا ، هو الذي اخرجني من تلك الزنزانة التي كنت محبوسة داخلها ، هو الذي قاوم رغباته و غير اخياراته و اختار ما كان حاسما ليجعله تعيسا مدى الحياة لكنه الوحيد الذي آمن بانه سينجح فيما يخطط له ، هو الذي كان يتحدا افكاره السلبية مصدقا انه الوحيد الذي يستطيع ارجاعي ... و فعلا كان الوحيد الذي استطعت سماع صوته على الرغم من انني كنت غارقة داخل مستنقع اعمق من بحار و انهار العالم كلها ، حرك شيئا بداخلي ... كيف لي ان لا احبه ؟ و هو الذي وقعت كل شخصياتي في حبه ، كان الأعز لدى خالد ، كان حبيب ظلام ، و كان صديق لفردوس و حافظ لاسرارها ! خذلهم لاسترجاعي لكنه خلال فترة علاجي في المستشفى لاحظ ان تلك الشخصيات كانت تدرك هدفه ... و لذلك وثقت به و ساعدته على استرجاعي حتى و ان كانت ستختفي ...
اعلم انني اكثرت من قول هو و هو و هو ... لكن فلتعلموا انه هو و هو الوحيد الذي كان يخاف علي من كل شيء ... لكنه اتخذ قرارا في احد الأيام ليأخذ آخر خطوة نحو مسار مجهول ، تلك الخطوة كانت ستحدد هل فعلا تلك الشخصيات اختفت ام لا ... لقد قرر أخذي لذلك المنزل ... نعم ... الى منزلي ...
كان هذا قرارا اتخذه سامر بعد تذكري لمعظم اللحظات و الذكريات التي عشتها الا تلك الليلة ...
بعد بضعة اشهر ، كنت قد اعتدت على حياتي الجديدة ، تعرفت على جيران ام سامر و بدأت أستقر اكثر ، الا ان هذا الاستقرار قاطعه سامر في احدى الأيام الماطرة ... كان قد أتى صباح يوم السبت و هو يوم عطلته ، طرق الباب و توجهت نحوه لفتحه دخل سامر و لم ينزغ سترته كالعادة ليعطيني اياها لاعلقها في الخزانة بجانب الباب بل اخذ سترتي من الخزانة و البسني اياها ثم التقط حذائي من الأرض و اجلسني على كرسي و البسني اياه ، حاولت مقاطعته قائلة : - ماذا تفعل يا سامر ؟ الى اين نذهب ؟ دعني ارتدي حذائي بنفسي لست فتاة صغيرة ...
لم ينطق باي شيء سوى : - لن اتكلم اليوم ، هناك قرار اتخذته و يجب ان انفذه الآن .
امسك بيدي و نهضت لنتوجه بسرعة الى السيارة ؛ كنت قد ناديت خالتي ام سامر بصوت عال قائلة انني سأخرج رفقة سامر ، اغلقت الباب بقوة لسرعة سامر الذي كان يجرني من يدي ، ركبنا السيارة و بدأ سامر بالسياقة مسرعا ، لم اكن افهم حالته تلك و لكنني لم أسأله عن اي شيء لانني كنت واثقة من قراراته ...
توقفت السيارة على جانب ناصية الشارع ، تذكرت هذا الشارع حتى و لو انه كان منظره ضبابي داخل ذكرياتي ، كان الشارع الذي يتواجد فيه منزلنا و بالضبط في مقدمته ، شارع واسع على جانبيه منازل و مباني مصفوفة على التوالي بشكل يجعلها تبدو راقية على الرغم من ان ذلك الحي كان حيا للناس من الطبقة المتوسطة .
بقيت في مكاني لبضعة دقائق ، كان رأسي قد بدأ يؤلمني بالفعل ، لانني فهمت ما كان قرار سامر حينها ، كان يريد مني تذكر تلك الليلة ليتأكد من شفائي تماما ... استدرت نحوه و الدمعة واقفة على عتبة عيني تنتظر محفزا لها لتنزل منزلقة على خدي ، و ما ان رأيت وجه سامر حتى نَزَلَت دون سابق انذار ، سامر الذي كان الحزن يبدو على ملامحه لانه فهم حينها انني بدأت استرجع ما حدث ...
امسك حينها بيدي و قال : - يجب ان ننزل الآن من السيارة .. 
اومأت برأسي باكية و نزلت من السيارة ، توجه سامر نحوي و امسك بيدي ، استمريت في الوقوف برفقة سامر أتأمل ذلك المنظر المريب .
منزل حاله يرثى لها ، ذو بوابة بنية اللون يبدو مهجورا منذ زمن طويل جدا ... قال سامر ناظرا اليه : - لم يستطع احدا ان يسكن فيه بعد ما حدث في تلك الليلة .
ادار رأسه ناحيتي ثم قال : - يجب ان ندخل الآن هل انت مستعدة ؟
اومأت برأسي مجددا و الدموع تنهمر من عيناي و لم اكن قادرة على النطق بحرف واحد حتى ، كان رأسي سينفجر من شدة الألم ، كان سامر يشاهد منزل يعمه الخراب لكنني كنت أشاهد ذكرياتي معه عند عتبة ذلك الباب ، نجري و نلعب و نضحك ، كنت أرى أمي في تلك الذكريات تفتح الباب بالمفاتيح التي زينتها لها بحامل مفاتيح على شكل قلب منحوت عليه اسم فردوس ، كنت أشاهد ليلى الصغيرة تركض مسرعة عند السادسة مساءا باتجاه ذلك الباب لتلحق مشاهدة حلقة رسومها المتحركة المفضلة ...
استعدت كل الذكريات التي عشتها عند تلك العتبة ، و دون ان اشعر وجدت نفسي اخطو خطوة بداخل المنزل ممسكة بيد سامر و باليد الاخرى كنت المس رأسي لشدة الألم ... بعد تلك الخطوة رأيت البهو الذي كان يحتوي على أثاث قديمة رثة و مدمرة ، لكن بداخل عقلي لم اكن اشاهد سوى امي التي كانت تجلس كل سبت على تلك الأريكة تدلك العجين بيديها على الطاولة و تشاهد احدى البرامج ، توجهنا نحو المطبخ حيث تذكرت كل النكهات و الأطعمة التي كانت تعدها امي ... تجولنا في ذلك المنزل الذي كان بالفعل خراب تام ، رائحته كانت لتسمى برائحة الموت و ان كان للموت رائحة لأسميتها برائحة منزلنا ...
ما ان وصلنا الى غرفتي حتى اسندت جسدي على الحائط و سقطت باكية دون ان اشعر ... كان ذلك مسرح الجريمة ؛ الغرفة التي رأيتها في ذلك الحلم ، الغرفة التي عشت فيها اسوء ليلة في حياتي ، تلك الليلة الماطرة المظلمة و الكئيبة ...

ظلام حيث تعيش القصص. اكتشف الآن