"نهاية الحماس"

17 4 0
                                    

            "الإعتراف"

في الصباح ، شعرت أن هذا أول يوم لي في هذه الحياة …فقرب "إياس" مني يشعرني بالوجود، إستمرت لقاءاتنا وهذه المرة علمت أنه درس في كلية الأدب ، كان يلقي علي الأشعار و يقرأ لي مقالات طويلة ، لا أخفي أنني كنت لا أفهم كنهها، فأنا أميل إلى الخيال العلمي.
بعد أسبوع وفي يوم بارد جدا ، وقد إلتقيته تحت الشجرة كالعادة، فاجأني بحزنه الغير معتاد.
_ما بك يا "إياس"، هل تخاصمت مع تلك الفتاة!.
_لا شيء مهم، لا تقلقي.
_كيف لا أقلق وأنت بهذه الحالة!.
_هل أنا مهم بالنسبة لكِ!.
_بالتأكيد، أنت أهم شخص أعرفه.
_لماذا!.
_لأنك صديقي العزيز.
_حسنا، أريد إخبارك بشيء، ربما سيكون آخر حديث بيننا.
_ما هو!، ولما سيكون الأخير!.
_أنا مريض، قلبي ضعيف جدا، أعاني من غصّات قلبية، وقد قال الطبيب أنها تتزايد يوما بعد يوم، انا أفنى ولا أريد أن تتعلقي بي أكثر من هذا، أرجو أن تسامحيني على كل شيء.
أجهشت بالبكاء من دون إرادتي، إنه أسوء خبر سمعته على الإطلاق.
_لا تفعل هذا أرجوك، قل أنك تمزح!.
_انا لا أمزح يا "سيبال"، أتذكرين حين قرأت لكِ:
" وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ قَصْرِي حُفْرَة ***
غَبْرَاءٌ يَحْمِلُنِي إِلَيْهَا شَرْجَعُ"
والآن أريد ترككِ قبل أن تتعلقي بي، سامحيني.
_لا... لا تذهب أرجوك، أفديك بقلبي وروحي، تعلقت بك حقا ولن ينفع الفراق إلا في الألم، أريدك أن تبقى... معي فحسب، رجاءًا!.
_حسنا، سأبقى يا صديقتي الصدوقة، أتعلمين! أنا محظوظ بكِ حقا.
_حتى أنا يا "إياس"...
مر اليوم طويلا وقلبي يعتصر، ماذا سأفعل إن مات حقا! سأجن... أو ربما أموت قهرا، زاد إهتمامي به في الأيام الموالية، أصبحت أعد له الطعام كي يواجه مرضه، كثرت زياراته إلينا بصفة صديق لأخي، وقد أصبح يعلم بصداقتنا، لامني في البداية لأني لم أخبره، وأصبحت أنظاره تتسلط عليّ كلما خرجت من البيت، حتى أنه يمنعني من الخروج عندما يكون غاضبا، أصبحت كالسجينة... لا أخرج إلا لساعات محددة، رغم ذلك بقيت علاقتي ب" إياس" متينة، وقد زاد حبي له... وفي يوم تفجرت أساريري لسماعي أنه قد تحسن، وأصبح مرضه خفيفا، إلى أن حل ذلك اليوم... كنت متضايقة حينها ولم أرغب بحديثه، ولم أجب عليه.
_صباح الخير يا صديقتي الصدوقة.
.…_
_كيف حالك! هل أنتِ بخير!.
_لا أدري.
_ألا تريدين حديثي! أم أنكِ وجدتي صديقا جديدا!.
…._
_كما ترغبين، هذا خيارك.
وذهب دون أن ينظر خلفه، شعرت بالندم والحرقة، ما كان علي أن أفعل ذالك، توقعته خلافا قصيرا... لكنه طال، أمضيت أيامي كلها بالبكاء حتى إنتفخت عيناي، كان جدي يسألني دائما عن حالي هذا.
_لماذا تبدين متعبة يا حلوتي! هل كنتِ تبكين!.
_نعم يا جدي.
_ولماذا تبكين! هل أذاكِ أحد! أم أن "إيهاب" أزعجك! أخبريني كي أسمعه ما لا يرضيه.
_في الحقيقة! أخاف أن أخبرك فتغضب مني.
_ليس هناك ما يغضبني بقدر حزن حفيدتي.
_أنت تعرف أن "إياس" صديقي، ولكن... قد خانني قلبي و... أحبه، أو ربما هو إعجاب فقط، لا أدري... أعلم فقط أنني أختلج لفراقه وبعده.
_هناك قاعدة تقول: "لهفة البدايات ليست حب! لا يحب الإنسان بأسبوع أو شهر، لا يمكنك أن تحب البحر وأنتِ تقفين على الشاطىء، يجب أن تغوصي أعماقه، تضربكِ أمواجه، تضرب قدمكِ صخرة، وتري قاعه المظلم، فتلمسي عيوبه، وتري ظلماته، وتعرفي كيف يغضب، وبعدها فقط إما أن تحبيه كله... أو تكرهيه كله"، يبدأ الحب عندما ينتهي الحماس يا عزيزتي.
_أظن أنني غصت في البحر، ولمست قاعه، أنا متأكدة الآن... أحبه.
_حسنا يا بنيتي، في هذه الحالة…لا تملكين إلا أن تسلمي أمركِ لله، وتنتظري الفرج، وتدعي الله أن يطيب قلبه، ويضع حبكِ فيه.
كان كلامه شفاءً لروحي المكسورة، إلا أن ألمي لا يزال قائما، أعلم أنه خطئي، لكن ما الحل!.
مر يومين على حديثي مع جدي، وفي الليل بعد غروب الشمس دق الباب، رحت بكسل أفتح الباب، لأجد أخي برفقة فتاة وشاب محارب على ما أظن، وشخص آخر يتوارا خلف الظهور، كأنه يتجنب النظر في وجهي، إبتسمت لهم، ثم أمرني أخي بإدخال الفتاة التي كانت مغموسة في الطين، وأن أعيرها بعض ثيابي…فعلت ذلك بعد أن رحبت بها، دخلتِ الحمام كي تغتسل من ذاك الطين وبدلت ملابسها.
_تبدين رائعة الآن…هل يمكن أن نتعرف!.
_بالتأكيد أنا "تالية".
_سررت بمعرفتك، وأنا "سيبال"، كما تعلمين أنا أخت "إيهاب" … أ… أتعرفين من كان معه!.
_نعم إنه "أيهم"، لقد جاء معي إلى هنا.
_أقصد ذاك الذي كان في الخلف.
_أوه! إنه "إياس".
إرتجف قلبي لسماع إسمه، وقد بدى عليّ الإرتباك.
_هل تعرفينه!.
_نعم.
_أظن أنكِ تحبينه، فنظراتكِ هذه تفضحكِ.
_بصراحة، نعم أنا مغرمة به.
_هذا رائع، فنحن نبحث عن شخصين متحابين،" الموحدان".
لم أفهم ما كانت تقصده، لكني أتذكر تلك الأسطورة التي كانت تقصها لي أمي قبل النوم، بدأت تحكي لي عما خاضته في هذه المملكة، وأنها ليست من هذا العالم، لم أصدق في البداية، لكن مع الوقت أحسست أنها صادقة وطيبة، تقاسمت معها غرفتي وأصبحنا صديقتين في غضون ساعات، إنها فتاة جريئة تحب المغامرات، واتضح أنها تحب "أيهم" من كلماتها، سهرنا حتى ساعة متأخرة من الليل، وفي الصباح ساعدتني في تنظيف المنزل، وقد أعجبت بالحياة هنا، وخاصة الأرنب الذي سمته "فلامنغو"، كان "أيهم" يتفقدها يوميا، وقد بدى عليه الهيام بها… ولم يظهر "إياس" بعد، أظنه يريد تجاهلي ولا يريد رأيتي مرة أخرى، قررت أن أكتب له رسالة ربما تكون الأخيرة، وربما تكون بداية جديدة.
_«تمضي الأيام عليّ بعد فراقك مؤلمة وجارحة، كأن قربك هو الذي كان يطبب الجراح، فتحت لك قلبي وبحت لك بأسراري، ضممتك إلى روحي وإعتبرتك صديقاً… لكن قلبي خانني وذاب فيك عشقا، والآن…أنا أسيرة لحبك الذي علقتَ عليه لافتة مكتوب عليها "ممنوع"، أتدري! أنا لم أحب أحدا سواك، حتى الذي أخبرتك عنه كان حماسا ليس إلا، فالحب الحقيقي ليس من النظرة الأولى، بل بعد أسابيع أو أشهر أو سنون…وأبوح لك بجوارحي، إنني أختلج يا قيصري، هكذا أسميتك في مخيلتي، فأنت سلطان قلبي الذي إختار لي الإعدام بفراقه، سمعت مرة: " إصحب الناس كما تصحب النار، خذ منفعها وإحذر أن تحترق بها"، أعلم أنني أخطأت حين رفضت الكلام معك، ولا تنفع الندامة بعد فوات الأوان، أظن أن كل شيء إنتهى… لذلك أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، إنتبه لنفسك وإعتني بها فمازلت تعني لي الكثير، بالتوفيق في حياتك مع غيري… أكتب لك هذا والعبرات تمطر من جفني، وإلى هنا تنتهي قصتنا، أنتَ لغيري وأنا لنفسي وتبا لهذا الفراق، فالفراق جهنم الأقدار.
                       صديقتك الصدوقة»
أنهيت هذه الكلمات وإرتميت على السرير بعد أن دسست الرسالة في جيب معطفي، أقبلت "تالية" تواسيني، عانقتني وأنا أجهش بالبكاء في حضنها، أخبرتها أنني أستسلم لهذا القدر، لا أعرف كيف مر هذا اليوم ونمت دون أن أشعر، حين بزغ الفجر ذهبت إلى منزله، حيث إستدللت ب"تالية" التي كانت تعرفه من خلال زيارتها ل"أيهم" هناك، وقفت أتأمل ذاك البيت، إذا هنا يعيش جلاّدي! إقتربت من صندوق الرسائل أمام الباب ودسست الرسالة فيه، وإنتفضت مسرعة نحو المنزل، وقلبي يعتصر كأنني تركت قطعة مني هناك.
حان وقت الإمتحان، وقد كنت متعبة جدا، لا أقوى على الكلام، لا أعلم كيف مرت عليّ تلك الأيام، إجتزت الإختبار في اليومين الأولين، وفي اليوم الأخير للفنون التشكيلية، حدث مالم أتوقعه!، قد جاء "إياس" برفقة "أيهم".
_إنه يريد التكلم معكِ يا "سيبال"، أرجوكِ لا تفعلي هذا.
_لا أستطيع يا "أيهم"، لقد إنتهى كل شيء قبل أن يبدأ.
_أعطهِ فرصة أخيرة.
لم أرد عليه، وضللت أطأطأ رأسي، إقترب مني وهو يهمس وإبتسامته تُظهر غمازته.
_كيف حالكِ أيتها العنيدة!.
_بخير.
_هل أبليتِ حسنا في الإمتحان!.
_نوعا ما.
_أوه! هذا غير جيد، كان عليكِ أن تبذلي جهدا أكثر لتكوني أحسن فنانة هنا.
_حاولت…
_لا عليكِ، عليّ الذهاب الآن، خذي هذه وأرجوا ألا تنسيني.
أمدني بطوق من الخرز، أسود اللون، كان يعلم أنني أحب الأسود، دخلت كلمته الأخيرة في قلبي كالرمح، أيقصد أن هذه المرة الأخيرة التي أراه فيها أم ماذا! دارت في رأسي الكثير من الأفكار حتى إنفجر من الصداع، عدت إلى البيت مرهقة، يا ترى ماذا تخفيه الأيام القادمة!.
بعد ثلاثة أيام أخرى، قررت الذهاب إلى الشجرة، وصلت إلى هناك وقد كان الجو غائما، وأسراب الطيور تحلق نحو الشمال في شكل الرقم سبعة العربي، ولاحت إلى بصري شجرة بيضاء!، ليس ثلجا بل طيور بيضاء تقف على أغصان الشجرة…استرخيت متأملة قطرات المطر المتساقطة وأنا أغني.

"طرقات الحُبّ" | Ways of the love حيث تعيش القصص. اكتشف الآن