الفصل ٨

74 7 185
                                    

شيفرات الأفق༼༻


أثارَ دخولُ تلكَ الوافدةِ فضولَ الجميعِ داخلَ المكتبةِ، حتى المُحقِّقِ ديرلان رمقَها بنظرةٍ مُتفحِّصةٍ، ورأى القلقَ يتجلَّى على ملامحِها بوضوحٍ. تقدَّمتْ أكثرَ حدبَهم، حتى أصبحتْ على مرمى خطواتٍ معدودةٍ، جالَتْ عيناها في عيونِهم تنقِّبُ عن أجوبةٍ تسدُّ فجوةَ الاضطرابِ الذي يجتاحُها.

كانتْ ذاتَ مظهرٍ أكاديميٍّ مميزٍ، ترتدي معطفًا طويلًا مُرصَّعًا بأزرارٍ نحاسيةٍ لامعةٍ، وشعرُها الداكنُ مُسترسلٌ على كتفيْها. عيناها الحادتانِ المظللتانِ بهالاتِ تعبٍ، تُشي بنفاذِ الصبرِ، بينَما كانَ جبينُها يعقِدُ تجاعيدَ القلقِ.

قبلَ أن تُتَحَ لديستني الفرصةُ لشرحِ الأمرِ أو حتى أنْ تُنبِّهَ ڤيرمولن إلى هويةِ تلكَ الغريبةِ، فوجئَتْ بأنَّها وجدتْ نفسَها بينَ ذراعَيْها في حضنٍ دافئٍ، مما تركَهُ يتأملُهُما وحيرتُهُ تتفاقمُ.

بادلتْها ديستني العِناقَ فيما همسَتْ تلكَ الغريبةُ بصوتٍ يعتملُهُ القلقُ والارتباكُ: 
"هل توصلتُم إلى أيِّ جديدٍ بخصوصِه؟"

رفعتْ ديستني رأسَها لتُعطيَها جوابًا مشوبًا بالحذرِ، كأنما تختارُ كلماتِها بعنايةٍ: 
"مع الأسفِ، ليس بعدْ".

تفحصتْها بعينينِ مُثقلتينِ بالأسئلةِ والمخاوفِ، ثم أخذتْ نفسًا عميقًا، مُحاولةً إخفاءَ ارتجافِها، فواصلتْ ديستني بنبرةٍ حنونةٍ، مُحاولةً طمأنتَها:
"اطمئني، الخطرُ لم يدنُ بعد، سيعثرونَ عليهِ دونَ شكٍّ".

رفعَ المُحقِّقُ ديرلان صوتَهُ بهدوءٍ محسوبٍ، مُوجِّهًا حديثَهُ إليها:
"أخبريني... هل كانَ السيّدُ هولشتاين بمثابةِ الأبِ لكِ كما هو لغيرِكِ هنا؟"

ارتبكتْ للحظةٍ، ثم رفعتْ رأسَها تُبدي شجاعةً زائفةً وهي تنفي: 
"لا، ليس كذلكَ".

وأضافَتْ، مُستشعِرةً بأنَّ عليها أن تُوضِّحَ:
"هو أبي حقًّا".

توسَّعتْ أعينُ ديرلان في لحظةِ إدراكٍ سريعةٍ، واستوعبَ من فورِه أنَّها ليست سوى أليسون هولشتاين، ابنةُ روتجرت هولشتاين التي سعتِ المباحثُ للتواصلِ معها إثرَ اختفاءِ والدِها.

فقد كانتْ في ألمانيا، هرعتْ إلى هولندا مباشرةً بعدَ تلقيِها اتصالًا من السلطاتِ. لم يكنْ أمامَها مُتسعٌ من الوقتِ لتهضمَ الخبرَ أو لتحضرَ نفسيتَها لمواجهةِ هذه الضائقةِ، فالإجراءاتُ القانونيةُ واضحةٌ، بمجردِ اعتبارِ الشخصِ مفقودًا، تكونُ أسرتُه على رأسِ أولوياتِ التحقيقاتِ.

استغربتْ ديستني بداخلِها عدمَ تعرُّفِ ڤيرمولن على الآنسةِ هولشتاين. إنَّهُ يقفُ في مكانِه، يُراقبُ بصمتٍ دونَ أنْ ينبسَ ببنتِ شفةٍ، كأنَّهُ يُفكُّ ألغازًا خفيةً في عقلِه، لكن دونَ إظهارِ الدهشةِ علنًا.

حراس المعرفة | Guards of knowledge حيث تعيش القصص. اكتشف الآن