عظم الجوى

704 36 22
                                    

(سانتوريني)، (اليونان)
رجب، ١٤٢٨ هـ

لا يطيقها اللسان، ويلفظها بمجرد ملامستها لحليمات الذوق في البداية... وعقب الكوب الثالث يتحولان لصديقين حميمين. السوداء التي دعاها البعض بالفاتنة، وخلتهم يبالغون قليلا في عشقها... حتى ابتلاني الله بإدمانها ... القهوة السوداء.

هرعت النادلة التي صرخت ملامحها الأوروبية، ببياض بشرتها الفاقع وشقار شعرها وخضرة عينيها وتلاشي حاجبيها... لملء كوب قهوتي بعد ارتشافي لآخر قطراته هي لم تفعل ذلك لأجل عينى البنيتين، أو لعيني أسرار العسليتين بجواري... بل بحثاً عن البقشيش السخي.

«أتذكر حين قالت لي أمي بلحظة غضب، ستبقين عانسة ولن يتزوجك أحد فأخبرتها أن فارس أحلامي سيأتي ونذهب لأوروبا في شهر عسلنا لتقول أنها ستخبر زوجي أني لا أستحق حتى الذهاب للباحة»

قالت أسرار ضاحكةً، عاقدة رجليها وهي تنظر للبحر
أسفلنا... بأمواجه المتلاطمة.

انفجرت ضاحكا من حديثها، قائلا:
«لهذا السبب قالت لي مازحة يوم عقد القران أن لا أتكلف في شهر العسل، وأن نكتفي بالذهاب لـ الباحة»

استمر الضحك بيننا محدقين بالبحر الذي بدأت الشمس
تتلاشى خلفه معلنةً غروبها لذلك اليوم... اليوم الصحو الذي أرسل لنا رياحه الخفيفة اللطيفة في ذاك الوقت من السنة.

حاولت أسرار أن نذهب في الشتاء لكني أعلم علم اليقين أني لن أستمتع مع الثلوج والبرد القارس الذي سيمنعنا من الاستمتاع... ويجبر أجسادنا على الخمول والكسل.

ألقيت نظرة خاطفة عليها، بقبعتها الصوفية الحمراء التي غطت شعرها ومعطفها الأحمر الطويل الصوفي... وشامة خدها اليمنى بارزة كالمعتاد. كم هي عجيبة معادلة القدر، كيف أسقطني في طريقها وأسقطها في طريقي... ماذا لو لم أتوقف تلك الليلة للرد على نقاشها؟ ماذا لو أحضرت شاحني معي ولم أحتج للخروج من الغرفة تلك الليلة؟ الله حكمةٌ في كل ما يصيب الإنسان من شر ظاهر، ليخبئ وراءه كل الخير.

قربت كرسيها مني وحنت رأسها على كتفي، لأحتويها وكلانا.يتأمل الشمس الغاربة خلف مياه البحر الأبيض المتوسط... سابحًا بأفكاره العميقة وقد سكن لزوجه آمنا مطمئنا. لا يعلم دفء الحضن والسكن للشريك إلا من جربه، حتى تحت البرد القارس نشعر بالدفء في كنف ذلك الحضن.

«اسمع، أعلم أنك قلت لي أنك لست مستعدا الموضوع الإنجاب الآن... ولكن حين يرزقنا الله بابنة أفكر أن نسميها أغصان... ما رأيك؟»

سألتني وبصرها مسدد نحو البحر اللامنتهي، وصوت أمواجه المتلاطمة على الصخور.

«هلا تحدثنا عن موضوع مغاير رجاء؟»

طلبت منها بكل هدوء، واضعا ذراعي حولها كان حساسًا
جدا بالنسبة لي، موضوع الإنجاب والأبوة... وكلما فتحته أسرار في فترة علاقتنا أو خطوبتنا أو زواجنا الحديث... غيرته مباشرة أو.تخلصت منه.

«لم أقل لك لتنجب طفلا الآن، فقط أسألك عما ستسمي ابنك أو ابنتك .... سؤال عادي يجيب عليه حتى العازب»

امتعضت وهي تُبعِدُ كرسيها عني بعنف، لتخرج هاتفها
و تنشغل به... بينما التزمت الصمت واستمر بصري بالغوص في أعماق البحر التي بدأت تظلم شيئًا فشيئًا مع غروب الشمس.

لم يكن الصراخ عادة في شجاراتنا، بل كنت التزم الصمت وأكظم غيظي وإن استلزم الأمر فأغادر المكان سريعا قبل أن أقول ما لا أعني... بينما تُشغل هي نفسها بهاتفها أو رسمها أو أي من هواياتها.

تماما كما قال عرّاب  الغرام قيس العاشقين...
ولكن حبها وعظم الجوى أعيا الطبيب المداويا

كان ذاك جزءا من قصيدته الشهيرة، حين قال واصفًا مشاعره لليلاه العامرية:
وما بي إشراك ولكن حبها وعظم الجوى أعيا الطبيب المداويا

تملكت أسرار سحرًا خاصًا، بشامة خدها وابتسامتها ذات
الأسنان المتراصة البيضاء.... تُطفى نيران الغضب والحنق، وتهدئ من روع المرتعد، وتجعل الدنيا زهيدة في نظر الجميع.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Aug 14 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

سفاح الأزقةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن