ليلة بعد ليلة

329 20 0
                                    


أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا

وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالليل خاليا

ثلاث ليال أكتوي بنيران ذاتِ الشامة، لا أعلم ما دهاني و الله...

ما تعلق قلبي فتاةً تراها عيني لأول مرة ... كما تعلق الحنطية بأسنانها المتراصة.

ثلاث ليال مرت ببطء شديد لا يُطاق، الثواني تتحول فيها لدقائق والدقائق لساعات... بدأتُ أؤمن بحديث من ادعى أن الأوقات السعيدة تنقضي سريعا ... وتلك التعيسة ينقضي الدهر مع طولها.

ثلاث ليال لم تكن لي ولم أمتلكها، لم أشعر أني عشتها لنفسي.... استحوذت عليها ملاك الرحمة.

تلك الليالي الثلاث قضيتها مع المجنون، الذي فقد لياليه كلها لليلاه الوحيدة... قيس بن الملوح. لم يكن لألفاظه وكلماته أي معنى لم أتذوق المشاعر المبثوثة في قصائده أبدا... حتى سقطت عيني على أسرار. عندها فقط شعرتُ بالمعاناة في أشعاره، بالشوق الحنين الكراهية، الحب... ولن يفهم أحد شعره حتى يتذوق لوعة العاشقين

لن أصف شعوري تجاهها بالحب آنذاك، لم أعلم ما هو
بالضبط... كل ما علمته أني أريد الحديث معها فقط... لأتوقف عن التبرير المستمر لعقلي المنطقي وأعطي قلبي كامل الحرية في التصرف ما أن فتحت عيني يوم الأحد المنشود، حتى انطلقت للخارج و أبرار لا تزال في نومها العميق... آخذا شاحنها الذي.ما زال يحمل رائحة عطرها.

لم أتهيأ وأتزين وأتجهز لمقابلتها، فبعد كل شيء قد يكون قلبي مخطئًا ... وتكون نظراتها التي أرسلتها لي آنذاك لطفا منها فحسب... تقوم به مع جميع المراجعين.

أعترفُ تلك المرة أني غسلت وجهي ورتبت شعري وهذبتُ لحيتي، ورششتُ من عطري الثمين الذي
أدخره للمناسبات... حسنًا يبدو أني تزينتُ في نهاية الأمر.

شققتُ طريقي في الرواق وعيناي مثبتتان على مكتب التمريض البعيد، ودقات قلبي تتسارع... ماذا لو لم تكن موجودة؟ ماذا لو كانت موجودة أيضًا؟ ماذا بعد؟ عمّ سنتحدث؟ كيف سأطيل المحادثة ؟

وصلت و لا وجود لها... جلس عدة ممرضين لم أرهم من
قبل ... ماذا الآن؟ لن أعود، أخذتُ عهدًا على نفسي أني لن أعود خائبا مهما كلف الأمر... سيعود الشاحن لصاحبته وسأتحدث معها محادثة طويلة. اتكأتُ على الحائط ناظرا يمينا ويسارا، مترقبا دخولها الرواق في أي لحظة ... عجيب ما قد يفعله الإنسان لإرضاء مشاعره...

كيف وصل الحال بالضابط أديم أن يلاحق فتاة قابلها
في مستشفى ؟! بدأ عقلي يعبثني بالرجولة السامة، تلك التي تمنع الرجال وأصحاب المناصب من ملاحقة مشاعرهم... أنا الضابط أديم الاحق فتاةً وأنتظر في رواق المستشفى حتى تظهر... ومن المحتمل أن لا تبادلني الشعور ذاته أصلا؟! بالسخف عقلك الذكوري
الأحمق، عُد لغرفتك واحتفظ بكرامتك... وأعط الشاحن لإحدى الممرضات لترده لها!!

اتجهت لمكتب الممرضات بيأس وتناقل، وضعت الشاحن
لتداعب أنفي رائحة عطرها للمرة الأخيرة... استدرت
لغرفتي قائلا لإحدى الممرضات
«هذا شاحن الممرضة أسرار...»

«هل استسلمت عني أيها الغريب ؟»

إنعاش..

هذه الكلمة الوحيدة التي تصف مشاعري وقتها....

إنعاش رئوي وقلبي وحياتي إن صحت التسمية! لهذه اللحظة من حياتي لم ينفد الدوبامين الذي غمر دماغي وقتها، التفت سريعا و انفرجت أساريري... برؤية ابتسامتها وشامة وجنتها اليمنى... بقوامها الطويل الذي وازاني في الطول.

رأيتها حينئذ أوضح من المرة الأولى، فالإضاءة الآن أقوى وأفضل ... لمعت تحتها عيناها العسليتان الناعستان ظللت أنظر لها بلا تصديق، وابتسامتي الخرقاء تشق وجهي.

«ادعنا نتحدث قليلا على انفراد»

سحبتني بعيدا عن زميلاتها وعيناي لا تصدقان ما يحدث... ولساني منعقد عاجز عن الكلام بحق ضاعت كل الأحاديث التي خططت لخوضها معها، تبخرت في الهواء حين غصت بتفاصيل عينيها الناعستين... وكأنهما تملكتا قدرة ساحرة تنسيك الكلام .

«أتمنى أن لا أندم على قول هذا، لكن شعورًا غريبا تملكني الليالي الثلاث الماضية... منذ التقيتك وشيء ما جذبني نحوك...لا أعلم أهو شعرك الناعم هذا الذي خالطه الشيب!»

قالت ضاحكة وهي تعقد ذراعيها، متكنة على الحائط وأنا واقف أمامها.

شكرًا لجرأتك يا فتاة! شكرًا بحجم السماء لولا جرأتها
وتصريحها لكانت الآن صفحة مطوية من حياتي المملة، صفحة ألوم نفسي على طيها وعدم تطويلها وإعطائها حقها. كسرت جملتها تلك الجليد بيننا وشجعتني أن أدلي بكل مشاعري سريعا، لم أترك فرصةً لأنفاسي حتى... كشخص فقد القدرة على الكلام دهرا طويلا ثم عادت له بين ليلة وضحاها.




سفاح الأزقةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن