الفصل السادس

39 1 0
                                    

( ٦ )
“ لعل ثقبا أصاب قلبك.. جعله الله لك عيناً تبصر بها الحقيقة ! “
جلال الدين الرومي.
.........

أمسكت رؤي يده وهي تقول باكية :
_ انت تعرف جيداً انني احبك.. انت تعني لي الحياة ولا يمكنني أن أعيش بدونك..
لمحت رؤي أمينة تفتح باب الشرفة الزجاجي فأسرعت تعانقه باكية، انصدم مراد مما تفعله بينما تسمرت أمينة مكانها وهي تراهما يتعانقان ولم تر وجهه المصدوم، كل ما رأته كتفيه العريضين ووجه رؤي الباكي..
انزلقت دموعها بشدة وشعرت بارتجاف يسري في عروقها وشيء بداخل نفسها لا تعرف ماهيته يؤلمها، يؤلمها بشدة وضربات قلبها تزداد تباعا ولو اطاعت هواها لكانت جذبته بعيداً عنها ولكانت ابرحتها ضربا لأنها لمست زوجها وعانقته، ولكنها جرت قدميها داخل الغرفة؛ فبأي حق تدافع عن مكانته لديها كزوج؟!.. أليست هي من فكت قيده وقالت زواجنا على الورق؟!، ثم وما أدراها ؟ .. ربما هو من يتقرب منها وليس العكس!
رأتها رؤي تدخل فابتسمت وسط دموعها الزائفة وقد تأكدت أن ما فعلته اجدي نفعاً، فاق مراد من صدمته فدفعها بعيداً عنه وسقطت أرضاً ثم رفعت خصلات شعرها إلى الأعلى ناظرة إليه يكاد يثور كالبركان في وجهها :
_ كيف تجرؤين على هذا؟!.. طيلة حياتي لم اسمح لفتاة ان تلمسني وانت تعرفين هذا جيدا..
تنفس بعنف ثم قال :
_ اختفى من أمامي وفورا.. ولا تريني وجهك هذا مرة أخرى..
_ اسمعني يا مراد ارجوك!
_ اسمع ماذا؟!.. انت حقيرة جدا ! .. انت خطيبة ابن عمي اتدركين هذا؟..
_انت تعرف أنني فعلت هذا لأجلك.. لأجل ان ابقى قريبة منك..
_ توقفي عن هذا!.. انا لست خائناً ولا رخيص مثلك.. حسن ابن عمي لذا ابتعدي عنه في أقرب فرصة.. انا لن اسمح لك أو لأحد بكسر قلبه.. حتى لو كرهني لهذا اتفهمين ؟!.. و صحيح لقد أخبرت أمينة كل شيء عني من البداية وصورك التي تهدديني بها.. كانت مجرد صور عادية لأصدقاء.. وبالنهاية لا تُدين احد غيرك..!
نهضت من مكانها تنظر إليه بحقد :
_ كل هذا لأجلها؟!.. تفعل معي كل هذا لأجل تلك الفتاة التافهة؟!..
قاطعها بعصبية :
_ اصمتي !.. تلك الفتاة افضل منك بمئة مرة لذا لا تضعي نفسك في مقارنة معها.. وهذا آخر تحذير لك.. ان قمت بمثل هذه التصرفات الحقيرة معي أو مع زوجتي مرة أخرى.. سأريكِ أسود أيام حياتك
قال جملته الأخيرة بنبرة تعلم جيداً انه يعني بها كل كلمة قالها مما جعلها تنظر إليه بخوف للحظات قبل أن يتركها متجها الي الداخل، ابتسمت تلك الابتسامة الشيطانية وفي عينيها نظرة حقد ، نهضت من على الأرض ونفضت كفيها من التراب ثم مسحت دموعها قائلة وكأنه يسمعها :
_ لا يهم كل ما قلته.. لقد حصلت على ما أريده.. سنرى الآن ما الذي ستفعله زوجتك الأفضل مني بمئة مرة.. أعانك الله على القادم يا مراد !!..
                                       & & &
جلست أمينة على الأرض بجوار الشرفة تبكي وشعور بداخلها يكاد يخنقها، أحست بالغباء والذل مما رأته ؛ لم تكن تظنه يصل بهذه الدرجة من الحقارة ان يأتي بعشيقته إلى المنزل الذي تعيش فيه زوجته! .. لا تعلم ان كان هذا خداع منه أم غباء منها ؛ لأنها صدقته رغم أنها تعرف عن ماضيه كل شيء؟! وحتى لو كان زواجهما على الورق هذا لا يعطي له الحق ان يهينها بهذا الشكل!.. انها لوهلة شعرت بأنه يهتم لأجلها.. كيف صدقته ولماذا ؟! .. لا تعرف ،ولكن ما
تعرفه الآن أنها لن تثق به أو تصدقه مرة أخرى ...
                                        & & &
قال حسن لرؤى وهي تركب سيارته التي كان ينتظرها بها أمام بيت مراد :
_ ماذا حدث؟!
قالت بابتسامة مغلقة باب السيارة بجوارها :
_ لم يحدث إلا الخير
_ هل فعلتيها حقا ؟!.. هل رأتك؟
قالت وهي ترفع خصلات شعرها إلى الوراء بغرور :
_ سؤال كهذا لا يُسأل إلى رؤي.. بالفعل رأتنا أنا ومراد..
شيء بداخله كان يخبره بأن ما يفعله خطأ وأن قدمه شيئاً فشيئاً تنزلق في الوحل ولكن غضبه أعماه؛ فقال :
_ والآن..؟
_ والآن سنرى كيف سيتدمر ذلك الزواج أمام أعيننا..
                                        & & &
  ومضت تلك الليلة.. حسن يحاول ان يقنع نفسه بأن ما يفعله هو الصواب ليأخذ حقه، وليُخرس صوت ضميره الذي يحاربه وبضراوة شرب زجاجة كاملة من النبيذ حتى غرق في النوم..
مراد يتقلب في سريره ذات اليمين وذات الشمال ولكنه يشعر بشيء ثقيل على قلبه يؤرقه، وربما طريقتها الجافة معه هي السبب.. تلك الصغيرة التي قد تكون الآن نائمة بكل هدوء في الغرفة المجاورة له..
وفي الغرفة المجاورة له كانت تبكي كلما تذكرت عناق تلك اللعينة له وكلامه الذي كانت دائما تظنه صدقا والآن اتضح لها انه ليس كذلك..!
وعلى نقيض شعورهم كانت يسرا تشعر بفرحة عارمه سرقت النوم من عينيها ؛ فسيغدو المنزل نيراً بعد قدوم غاليتها سما ، وعلى ذكر سما فكرت في أن تتحدث معه.. نصف قلبها وابنها البكري،
لا تستغربوا الأم تبقى ام.. وحبها لابنها يبقى أعظم حب.. وابنها بنظرها يبقى ملاكاً حتى ولو كان إبليس بنفسه!!
نظرت إلى هاتفها والتقطته ، صحيح انه يجافيها ولكنها تشتاق إليه..
في منزله كان نائما حينما صدح صوت الهاتف المُلقي على الأرض بجوار زجاجة الخمر الفارغة، وبعد عدة رنات طويلة فتح عينيه بصعوبة وهو يلتقط الهاتف، ثم رأي اسم والدته على الشاشة فألقي الهاتف مرة أخرى بجانبه دون أن يرد، ولكن الهاتف عاد يصدح من جديد بإلحاح واضح مما جعله يرد، قائلا :
_ نعم؟!
_  هل أيقظتك من النوم ؟!
_ قولي ما لديكِ..!
حزنت يسرا من لهجته، فقالت بعتاب :
_ حسن أنا امك!.. تحدث معي باحترام رجاءً..
_ سلام..
قالت يسرا قبل أن يغلق ولدها الهاتف في وجهها :
_ حسنا.. انتظر!
_ قولي ما لديك أمي.. أريد أن أنام..!
_ لقد اتصلت لأخبرك بأن سما ستعود غدا
تهللت قسمات وجهه بسعادة ؛ فقال بلهفة واضحة أعجبت يسرا :
_ حقاً؟!.. متى؟
_ لم تحدد الوقت.. ولكنها قالت غدا..
نهض حسن من مكانه بصعوبة وهو يقول :
_ حسنا.. سأتحدث معها..
ابتسمت يسرا ثم أغلقت الخط معه داعية ربها ان يهديه إليها وإلى شقيقته ويعود كما كان قبل وفاة والده..
                                       & & &
في الاسكندرية كانت تعمل بجد مع الرجال في ورشة الحدادة مرتدية قميصا رجاليا محتشماً تحته بنطالا واسعا لا يبرز أي تفصيلة من جسدها، محكمة حجابها جيداً على رأسها...
_ ريحان!.. الشاي..
نظرت تلك الفتاة أو ريحان إلى "ياسين" صبي القهوة المجاورة لعملها صاحب العشرة أعوام، قالت بلهجتها الجنوبية أو دعونا نقول " الصعيدية " :
_ صباح الخير يا ياسين..
_ صباحك ورد يا ريحان..
أخذت منه الشاي ووضعته بجانبها على إحدى الرفوف المجاورة؛ ليبرد قليلاً وبعد قليل دخل عليهم اكثر من تكرهه في حياتها، كان ذلك " عمار السويسي " قائلا بصوت جهوري :
_ هيا.. انجزوا!..أريد أن ينتهي العمل في أقرب وقت..
أجل فعمار السويسي هو صاحب الورشة الكبيرة التي كان يقصدها الكثير من الزبائن، أعني هو رئيس عملها..، نظرت إليه باحتقار ثم اكملت عملها بلامبالاة ولكنه اتجه إليها وعلى وجهه ابتسامة غامضة
_ صباحك خير يا ريحان..
نظرت إليه وهي تعلم أنه سيحدثها في نفس الموضوع الذي كلما رأى وجهها لا يتحدث معها إلا عنه، قالت :
_ صباحك خير يا "ريس عمار"..
ابتسم اكثر وهو يقول :
_ ماذا فعلتِ في موضوعي مع ليليان.. ؟
زفرت قائلة :
_ تحدثت معها للمرة الثالثة.. ولازالت رافضة..
صمت قليلا وقد بدا عليه الغضب ، ثم قال :
_ كنتِ أخبريها أنني ابن عمها.. وأنني أريدها بالحلال منذ زمن.. ألم يكن بوسعك ان تلطفي الأمر معها بكلامك قليلاً ؟!.. ألست أقرب صديقة لها..؟!
زفرت مرة أخرى وهي تعود إلى عملها قائلة :
_ حاولت معها كثيرا يا ريس عمار.. ولكنها لا تريد أن تكون زوجتك.. وما على الرسول إلا البلاغ..
نظر إليها طويلا بوجه غاضب، وبعد عدة لحظات ابتعد عنها خارجا من الورشة بينما هي نظرت إلى اثره باحتقار...
ومن لا يعرف " عمار السويسي "؟!.. الجميع في المنطقة يعرف أنه يعمل في كل شيء غير شرعي دون موانع ، صاحب كأس يدور من ملهي إلى آخر ومن فتاة إلى أخرى، والورشة ماهي إلا صورة أمام الناس، وبرغم ما يعرفه الناس عنه إلا أنه لن يقدر أحد أن يقول " للغولة " عيناكِ حمراء ! ، بمعنى أصح الجميع يعرف عنه كل شيء، ولكنهم يخشون الوقوف في وجه "ولي نعمتهم".. يخشون جبروته ورجاله الذين لا يتعاملون إلا بالسلاح..
                                       & & &
في المطار كانت تلك الجميلة تختم أوراقها وتستلم حقائبها، وكالعادة لفتت انتباه الجميع بطَّلتها الأكثر من رائعة ببنطالها الأسمر الذي أبرز قوامها الجميل وكنزة صيفية بدون أكمام مقفولة الصدر، واضعة حول خصرها حزام عريض أحمر اللون لامع مع حذاء أسمر، تركت شعرها منسدلا مرتدية أقراط ماسية، مكياجها بسيط كعادتها مستخدمة ملمع شفاه أحمر أعطى إلى مظهرها رونقاً رائعاً..
بعد قليل من الوقت وجدت " سما " سيارة تنتظرها خارج المطار فركبتها وقادها السائق إلى شركة والدها؛ لتقابل والدتها بعد غياب عامين، كان قلبها يطير فوق السحاب لأنها ستقابل عائلتها وستعود إلى عالمها الذي اشتاقت إليه.. وإليه..!
فجأة اخرجها من تفكيرها صوت اصتدام السيارة بالسيارة التي كانت أمامها في الطريق، فنزل السائق ليتحدث مع ذلك الشخص الغاضب ، مضت عدة دقائق حاول فيها السائق التفاهم مع الشخص الذي أمامه ؛ لذا نزلت سما لتفهم ما يحدث..رأت السائق يتحدث مع ذلك الرجل، رأته من ظهره فقالت على الفور :
_ يا استاذ.. نحن آسفان.. وبالتأكيد سنصلح الموقف..
قالتها ببساطة فهي رغم الثراء الذي تعيش فيه إلا أنها ليست من النوع المتعالي، وتعامل موظفيها باحترام وليس كعبيد..
إلتفت إليها ذلك الرجل قائلا بغضب :
_ ومن قال أنني بحاجة......؟
انصدم وتوقف عما كان سيقوله ناظرا إليها بصدمة ، لم تكن هي أقل صدمة منه وذلك اتضح في صوتها وهي تقول :
_ أدهم.. ؟!
                                       & & &
مرت ساعات وهو لايزال ينتظرها ولا ينكر ذلك.. لم يعد للصباح معنى بدونها، نظر إلى الساعة ليجدها تخطت العاشرة صباحاً ثم نظر إلى الدرج.. لِمَ تأخرت؟!..
كان يسأل نفسه وشيء بداخله بدأ يقلق ، التقط هاتفه يحاول ان لا يهتم ولكنه نهض ليصعد إلى غرفتها.. لن يبقى مكانه على هذه الحالة اكثر .. ، طرق باب الغرفة ولم يصل إليه أي رد ، فطرقه مرة أخرى وبعد عدة ثوانٍ فتحت الباب قائلة :
_ نعم ؟
نظر إليها مراد ليجد تلك النظرة الباردة لاتزال في عينيها؛ فقال بابتسامة :
_ ألن تتناولي فطورك..؟
_ لقد تناولته بالفعل..
يعلم أنها لم تضع لقمة في فمها حتى الآن فلماذا تكذب عليه؟!.. شعر بإحباط من طريقتها الجافة معه فهو لم يرها مسبقاً بهذا الغموض!، مرَّرَ أصابعه بين خصلات شعره؛ فتساقطت خصل بنية على جبينه،وقال :
_ كنت أرجو أن نتناول فطورنا سوياً ..
تنهدت ثم قالت :
_ ما كان عليك أن تفعل..
ضاقت عيناه وهو يسأل :
_ وما الذى علي أن أفعله؟!
_ الأفضل لك ألا تضعني في برنامجك اليومي.. اهتم بنفسك فقط..
_ وأنت؟!
_ غير مهم..
_ ولكنك زوجتي..!
نظرت اليه وفكرت أن تصفعه بكلامها ليشعر بجزء مما شعرت به عندما رأته يعانق رؤي :
_ على الورق..
شعر بوقع الصفعة في نفسه،  ألم حلَّ به لم يفهم سببه.. ألم يتفقا على هذا لماذا أصبح هذا الأمر يضايقه الآن؟!
قال بارتباك وحيرة يختبئان وراء الهزل :
_ أعرف.. ولكن ذلك لا يمنع أن اهتم بك يا صغيرتي..
قالت بنفاذ صبر :
_ شكراً لك.. ولكنني لست بحاجة لاهتمامك.. انا لست صغيرة..!
اقترب منها قائلا :
_ لِمَ أنت قاسية هكذا !؟
نظرت اليه، القسوة ليست من طباعها ولكنها قد عاهدت قلبها على أن لا تمنح له فرصة الاقتراب منها، لذا قالت مخبئة ألمها :
_ انا هكذا.. وهذا هو طبعي..
واضح جداً أنها تخبئ أمر عليه لذا أمسك ذراعيها قائلا بجدية ليفهم ما بها :
_ لا.. ليس هذا طبعك.. ولا طريقة كلامك نفسها.. ما بك؟!.. ما الذي حدث لتتغيرى هكذا ؟!
قالت محاولة نزع يديه من على ذراعيها :
_ لا يوجد شيء متغير بي.. وليس ذلك ذنبي.. يمكنك أن تظن ما تشاء في طريقتي.. ولكنني لن اتعامل إلا بالطريقة التي تناسبني..
شعرت بأن عيناه تفحصان في عمق روحها وعينيها وهو يقول :
_ انني واثق مما أقول.. لست أمينة التي أعرفها.. حتماً هناك أمر ما ويجب أن أعرفه..
اضطربت من اصراره ؛ فقالت بحدة :
_ هذا يكفي يا مراد.. هذه هي طريقتي ولن اتعامل إلا بهذه الطريقة.. لذا رجاءً تحملني حتى انتهاء الأربعة أشهر.. وبعدها لن ازعجك مرة أخرى..
أظهر عبوس حاجبيه منزعجا من كلامها ؛ فقال بحدة مماثلة :
_ لم أكن اعرف أن رؤيتك لي تزعجك إلى هذا الحد.. ولكن حسنا.. سأتركك على راحتك.. افعلي ما تريدينه..
تركها متجهاً إلى باب الغرفة بعصبية ؛ فقالت قبل أن يذهب :
_ لحظة مراد!.. ليس هذا ما قصدته..!
توقف ثم نظر إليها من فوق كتفه :
_ لم يعد هناك داعٍ لأي كلام يا أمينة..!
صفق باب الغرفة وراءه بعصبية، بينما جلست على طرف سريرها تتنهد بتعب واضطراب..
                                        & & &
كانت المفاجأة حليفة الموقف، آخر توقعاتهما أن يلتقيا الآن صدفة بعد كل الأعوام التي مضت على فراقهما، نظر إليها طويلا ثم خرج صوته بنبرة خافتة متفاجئة :
_ أنت.. ؟!
لم تجبه سما وأخذت تحدق به طويلاً فقد اشتاقت اليه، صحيح أنها تمنت أن تقابله ولكنها لم تتوقع أن يحدث ما تتمناه بهذه السرعة، كانت بعينيه كما هي لم تتغير كثيرا تلك المراهقة التي عشقها فقط تحولت إلى أنثى ولكنها في الحالتين جميلة جدا، وكأنه لم يمضي على فراقهما إلا يوماً أو بعض يوم وكأنه هو أيضا لا يزال ذلك الفتى الذي كانه معها.. ويكأنه لم تمضي سنوات.. ؟!
سنوات مضت وهو ينتظر منها كلمة تجبر قلبه المكسور، كان بانتظارها لا ينكر.. ولكنه انتظرها كثيرا..، لن يصدقها مرة أخرى تلك المخادعة.. الجميلة!
_ متى.. عدتِ ؟!
تمالكت نفسها وحاولت كبح دموعها وتهدئة خفقات قلبها المتزايدة
؛ فقالت بصوت بالكاد يُسمع :
_ اليوم.. كيف حالك ؟
حالي؟!..كيف سأجيبك عن هذا السؤال؟!.. كيف سأقول ما بداخلي وما أشعر به بسببك؟! ، يا معذبة قلبي! هل أقول أنني اشتقت إليك فوق ما تتصورين؟، هل أقول أنني اتألم وبشدة عندما اتذكر كيف هجرتي قلبي دون وداع حتى؟!.. ماذا سأقول وكيف سأقوله؟!، هل أشكي حالي إليكِ وأنت أساس تعبه؟! :
_ ..... بخير.. وأنت؟!
ظهرت ابتسامتها التي لاتزال تسحر عقله وقلبه وهي تقول :
_ وأنا أيضا بخير.. آسفة جداً على ما حدث..
اومئ رأسه بشبح ابتسامة، وقال :
_ لا بأس.. خيراً..
صمتا الاثنان وقد كانت الحرب قائمة بين قلبه وعقله ، عقله يقول اتركها وامضي إلى طريقك.. وقلبه يأمره بإطالة الحديث قدر استطاعته ، وفي النهاية ربح قلبه الجولة الأولى.. :
_ هل قررت البقاء هذه المرة.. أم ستغادرين مرة أخرى؟
أرادت أن تجيبه ولكن بماذا ستجيبه وهي لا تعرف الجواب ؟!، تريد أن تسافر لتأخذ شهادة " الماجستير" من إيطاليا، وتريد أن تبقى لأجله.. ولكنها حتى لا تعرف ان كان يريدها في حياته أم لا ؟!
_ لم أقرر بعد.. من يدري ربما أغادر..
نظر إليها وقد لاحت في عينيه نظرة حزن؛ فاستدركت قائلة :
_ أو سأبقى..
كان لايزال ينظر إليها ولكن هذه المرة ملامحه وحتى عيناه كانت خالية من أي تعابير، لدرجة أنها لم تستطع أن تلاحظ إن كان أسعده
ما قالته أم لا.. وفجأه رأت يده تمتد إليها بالسلام قائلا برسمية :
_ حسناً.. سُررت جداً برؤيتك مرة أخرى آنسة سما..
لم تتوقع سما كل هذه الرسمية منه، تذكر كيف كانا أصدقاء مقربين، كان يناديها باسمها وأوقات كثيرة كان يلقبها بأسماء مختلفة.. وكأنها تراه قبل أعوام وهو يناديها " فتاتي الآلية " صحيح كان يضايقها ان يلقبها الجميع" بالعقل الآلي أو الفتاة الحديدية "، ولكن ذلك اللقب منه كان له معنى خاص بهما،والآن ما كل هذه الرسمية؟!
مع ذلك لم يظهر عليها أي حزن.. سما من الأشخاص البارعين بحق في ضبط انفعالاتها؛ لذا لم يرها احد حزينة أو سعيده إلا نادراً، لهذا لُقبت بالفتاة الحديدية التي لا يهزمها شيء..، ولأنها من أنصار شعار "  أدوس حبي لأجل كرامتي " مدت يدها هي الأخرى بابتسامة مشرقة عكس الإنطفاء الذي حل بداخلها :
_ وأنا أيضا..
حزن هو أيضا، فقد أراد أن يرى ولو لمعة حزن في عينيها، كان سيتراجع عن كل ما أقنعه به عقله، ولكن بعدما رأي كيف أنها لم تتأثر بتغيره فاز عقله بالمباراة بأكملها فسحب يده قائلا:
_ عن اذنك..
ولو كنت مكانه يا أخي لكنت فعلت نفس الشيء.. من ذاق مرارة الهجر يصعب عليه الصفح ولو اعتذر له العالم أجمع!..
ابتسمت له وفي داخلها أرادت أن تصرخ في وجهه ليعود لها كما كان، ثم تركت يده قائلة :
_ تفضل..
لا تستبق الأحداث يا رجل! .. ربما يُعاقب الإنسان أحيانا على ذنوب لم يقترفها بسبب حكم متسرع ألصقه الناس به..
و بخطوات حازمة تركها أدهم عائدا إلى سيارته وقادها بعيداً عنها، تاركها وراءه تتخبط في حيرتها من تغيره معها، لم تتوقع أبداً أنه سيقابلها بعد غياب أعوام بهذه الطريقة ، زفرت بإحباط ثم تمالكت نفسها وارتدت قناعها المشرق، وعادت الي السيارة التي قادها السائق باتجاه الشركة......
                                       & & &
خارج غرفة العناية المركزة تنهد خالد وهو ينظر بحزن إلى شقيقه الراقد أمامه يأخذ أنفاسه بصعوبة عبر جهاز التنفس، راقب بنظره دقات قلب شقيقه المرسومة على شاشة "المينتور" الموصول 
ب "البلس أوكزيمتر" الموضوع في خنصره الأيمن، تنهد بوجع..
آه يا أخي!.. أشعر بأن قلبي ينزف دماً وقد توقف تماماً عن النبض بداخلي.. وكأنني قد أضعت روحي وعقلي منذ أن رأيتك راقداً أمامي.. وانا هنا انظر إليك بعجز!.. لطالما كنت أحملك على كتفي لتحصل على ما تريده، كنت اجعلك تنام في حضني عندما ترى كابوساً، كنت اراقب امتحاناتك واراجع معك دروسك.. ولكن الآن
انا هنا معك ولكنني ولأول مرة اكون عاجزا عن مساعدتك.. متى تنهض يا آسر؟!، أنت قوي جداً فلماذا لم تنهض بعد؟!.. متى نعود إلى المنزل سويا؟!.. لأجعلك إمامنا في الصلاة كما تريد، لنلعب كرة القدم أو الشطرنج واعدك بأن أكون الخاسر من أجلك، فقط انهض يا أخي،هذا أنا يا آسر، أتشعر بي؟!.. أشعر بالضعف وكأنني أنا الذى أُصبت فى ذلك الحادث وليس أنت!.. فأنت قوتي فى هذه الحياة بعد رب العالمين وجدي.. فقط انهض يا أخي وسأفعل أي شيء من أجلك..
فى تلك اللحظة وُضعت يد على كتفه فنظر إلى صاحبها، ليجد جده ينظر إليه بحزن وهو يربت على كتفه بحنان، قائلا :
_ هيا يا خالد.. لنصلي الظهر..
أومئ له خالد برضا وبعد ذلك اتجه مع جده إلى مسجد المشفى عسى أن يرتاح قلبه قليلا...
                                        & & &
فتحت ذلك الدفتر الذي لازمها منذ عامين.. منذ أن قررت أن تسجل تلك الأيام لتكون ذكرى لها فيما بعد.. نظرت إلى تلك الصفحات التي كتبتها بخط يدها، كل تلك المواقف والأيام السيئة التي مرت بها تثبت أنها قوية بحق!.. مَنْ كان يقول أنها ستتحمل هذه الأيام التي ظنت انها لن تمر عليها؟!، مَنْ كان يقول أنها ستتفادي كل نوبات الفزع والاكتئاب التي كانت تُصاب بها وحدها؟! .. واليوم وهي تقرأ هذه الذكريات المحفورة في هذه الصفحات تتأكد بأن أي أيام سيئة ستنتهي.. لأن من أعانها لتتخطاها من قبل سيعينها لتتخطاها دائما، عاشت تحارب باليقين بالله، وإلى الآن تحارب أيامها السيئة به، كل تلك الأيام التي فوَّضت فيها أمرها إلى الله تثبت أنه لا ملجأ منه إلا إليه.. أدركت بأن الثقة الكاملة و الأمان المطلق لا يحقان أن يكونا إلا له ومنه..؛ لأنه اللهَّ..
ابتسمت ثم دونت التالي :
" مضت أيام ولازلت غير متقبلة للواقع الذي أعيشه.. لقد جمعني القدر معه ولا اعرف ما الحكمة ولكنني سأصبر، لم اتشاجر معه منذ المرة الأخيرة ولكننا اليوم تشاجرنا.. لقد رأيته بعيني يضمها بعدما نكر علاقته بها، لا أعرف ما الحقيقة ولكن ما أعرفه أنه لا أمل من زواجنا.. الفرق بيننا شاسع جداً.. كالنهار والليل موجودان.. لكنهما لا يلتقيان ابداً، كنت خائفة أن اثق به والآن تضاعف خوفي..وعلى أي حال.. أنا لست على استعداد لأثق بأي أحد أياً كان من هو، أخاف من الوجع رغم أنني قضيت طوال حياتي اتوجع!..، لا أريد أي أوجاع إضافية لهذا سأحاول أن أبتعد عنه رغم أنه يكون لطيفاً احيانا ولكنه مخيف بالنسبة إلي أيضا.. "
أغلقت أمينة دفترها.. كانت محقة بعض الشيء في مخاوفها.. ضعي نفسك مكانها يا صاحبتي وستجدين نفسك تخافين مثلها وربما اكثر.. ستجدين نفسك تبنين حول قلبك وحياتك سياجاً ولن تمنحي فرصة لأي أحد خان ثقتك فيه ؛ فبلحظة واحدة يمكن للمرء أن يخون الثقة لكن رجوعها يحتاج وقتاً ومجهوداً.. وقلباً قادراً على الصفح.. ألم يقل ربُّنا - سبحانه وتعالى - " إنَّ ذلك لمن عزم الأمور"؟!
                                        & & &
أصبحت السابعة مساءً ولا تزال لم تأكل شيئاً، كان يعلم أنها تكذب عليه حينما قالت انها تناولت فطورها.. لا يعلم لماذا ؟!.. ولكنها لم تهن عليه، رغم أنها عاملته بجفاء دون سبب ولكن ربما كانت حزينة من شيء ولا تريد أن تخبره، على كل حال دخل المطبخ وأخذ لها صينية من اطباق الغداء التي أعدتها الخالة سعاد ثم صعد إلى غرفتها، فتح الباب وأطل برأسه منه فوجدها نائمة.. ارتفع مع تأمله لها - داخلا الغرفة بهدوء - خفقان قلبه، وضع الصينية على الطاولة المجاورة لسريرها ثم بهدوء وببطئ جلس بجوارها ليتأملها وهي نائمة، فمها مفتوح قليلا وشعرها منسدل على الوسادة خلف رأسها وعلى جبينها، مغطاة بغطاء خفيف حتى أسفل رقبتها بقليل..
شعر بإحساساً جميلاً وكأنها طفلة صغيرة تحتاج إلى من يهدهدها بنعومة، ازدادت حيرته من هذا التناقض الغريب بها.. كيف لتلك البراءة الآسرة تتحول فجأة إلى فتور وبرود؟!، تنهد وهو يزيح خصلات شعرها عن عينيها، ودَّ لو يظل يتأملها حتى الصباح أو ربما إلى آخر العمر! ،بدأ يوقظها بلطف وعندما لم تستيقظ معه قال بضحك وهو جالس بجوارها.. ولا يزال يهز كتفها بيده :
_ لم أكن أعلم أن نومك ثقيل.. هيا انهضي يا كسولة..!
قطبت جبينها، وقالت بصوت ناعس :
_ منَ أنتْ..؟
قال باستغراب :
_ كم شخص يعيش معك في هذه الغرفة غيري؟!.. من أكون يعني؟!
احست به بجانبها وقد عادت إلى وعيها ؛ فانتفضت مبتعدة عنه وهي تصرخ بطريقة افزعته.. فصرخ هو أيضاً، وقالت :
_ لماذا تجلس هنا هكذا؟!
قال بغضب طفولي :
_ ستصيبينني بنوبة قلبية أقسم!!.. هل محرم أن اجلس على سريري..؟!
_ لا! ،ولكن ليس بجانبي!.. لأننا.....
_ لأننا صحيح متزوجان ولكن على الورق فقط وال "بلا بلا بلا.. Bla Bla Bla" خاصتك.. أليس هذا ما ستقولينه؟!
ضحكت بطريقة ساخرة :
_ مُضحك جداً !.. هل جئت لتقول هذا؟!
جلس على السرير بوضعية مائلة، قائلا بسخرية مماثلة :
_ أجل.. ولم لا؟!، فأنا رجلاً رائقاً لا توجد لدي اشغال أخرى غيرك!
تنهدت بسخرية ثم جلست على المقعد المجاور للسرير :
_ اتحدث بجدية.. ماذا تريد؟!
_ هيا لتأكلي..
قالها بحزم وهو يضع صينية الطعام على الطاولة أمامها، فقالت وهي تربط شعرها من الخلف :
_ لست جائعة..
نهض ووقف بجانبها ثم مال إليها قائلا :
_ كاذبة
ابتعدت عنه وجلست على السرير بتوتر، ثم قالت :
_ لقد أكلت ما يكفي اليوم..
جلس أمامها ،وقال :
_ هذه كذبة أيضا..!
تملكها ارتباك قوي من مجرد اقترابه منها ؛ فقالت دون النظر إليه:
_ كيف؟!
_ اعرف جيدا انك لم تأكلي شيئاً طوال اليوم.. لهاذا لا داعي للعند!
_ لا أريد أن آكل شيئاً..
قال بعصبية بعض الشيء :
_ وانا لن اتركك قبل أن تأكلي.. لا يمكنك أن تظلي طوال اليوم دون طعام..
قالت بنفاذ صبر :
_ قلت لك لا أريد.. هل ستطعمني بالقوة؟!
_إذا اضطررت إليه.. يمكنني أن أفعله..
_ لا تستطيع..
_ بل استطيع يا صغيرتي.. ولكنك لا تُعاملين بالقوة..
فاجئها لينه.. ولا يمكنها ان تنكر ان طريقته الرقيقة وهو يتحدث معها جعلت تلك الفتاة المتمردة بداخلها تختفي، لدرجة انها حاولت أن تكبح ابتسامتها قبل أن ترتسم على وجهها، ولكن مهلا يا قلبي ألم أخبرك من قبل أن مراد عامر بالنسبة إليك خطر هائل!!؟، تنحنحت لتُجلي حلقها قبل أن تقول بلهجة جاهدت ان تبدو ساخطة :
_ رجاءً لا تنعتني بهذا الإسم مرة ثانية..
_ ولماذا يا صغيرتي؟!
_ مراد!!.. لم أعد اتحمل هذا الجنان إطلاقاً!
هذه هي الفتاة التي اعرفها، تلك التي أتمكن من إثارة جنونها ببساطة لتتحول إلى الطف طفلة ساخطة في العالم .. :
_ سأظل هكذا حتى تأكلى..
أمسكت صينية الطعام بغضب طفولي :
_ سآكل فقط لتدعني وشأني..
ضحك وهو يراها تتناول طعامها أمام عينيه، ناظرا إلى براءة الأطفال في وجهها وخجلها الذي صَّعَّد الاحمرار على وجنتيها، وقبل انتهائها قال :
_ ان لم تعتني بنفسك.. سأظل ازعجك حتى تفعلين.. تصبحين على خير يا صغيرتي..
ثم نهض وخرج من الغرفة، وتركها مع كومة من الأفكار المشوشة.. كيف يفعل هذا معها؟!.. كل ما تريده هو أن تجعله يبتعد عنها ولكن حتى مع طريقتها الباردة معه لا يفعل!! ، وما تعرفه انه يجب عليها أن تكرهه، ولكن كيف ستقدر على كرهه مع تلك الطريقة الرائعة التي يعاملها بها؟! .. والتي تجعل الأمر يأتي بنتائج عكسية!، تشعر أنها لن تصل معه إلا إلى آخر.. شيء لا تريده ابدا .. ليته يبتعد عنها حتى انتهاء هذه الفترة..
                                        & & &
كانت ليليان كالعادة جالسة مع شقيقاتها تحاول السيطرة على شقاوتهما، بانتظار أن يعود والدها من القهوة أسفل منزلهم، وبعد وقت جاء من يدق بابها قائلا :
_ افتحي يا ليليان بسرعة..
عرفته من صوته قبل تفتح له، قائلة باستغراب :
_ ياسين؟! .. ما الذي حدث؟!
_ والدك.. والدك..
_ أبي! ،ما به ؟!
قالت ذلك ليليان بفزع؛ فقال لها الآخر :
_ لقد سقط مغشي عليه في القهوة.. وأهالي الحارة يحاولون إيقاظه..
في البداية شعرت بتجلط في قدميها، ولكنها ركضت بسرعة ضابطة حجابها فوق العباءة التي ارتدتها بسرعة، ثم طلبت من جارتها وصديقتها المقربة ريحان أن تعتني بصديقاتها إلى أن تعود..
وعندما نزلت إلى الأسفل، ابعدت الناس المحتشدين حول والدها الذي كان فاقداً وعيه على الأرض، بكت وهي تصرخ به تطلب منه أن يرد عليها، جلست على الأرض بجانبه ثم احتضنته ببكاء إلى أن عرض احد جيرانهم وبالتحديد "صاحب الاضحية" أن يأخذه بسيارته إلى المشفى وحملوه بداخلها وهي ركبت بجانبه، وبعد لحظات كانت العربة تسير في طريقها إلى وجهتها..
                                       & & &
في مدينة أخرى كانت أصوات الضحك تعلو في بيت شريف عامر، ووسط الضحك وأحاديث الأصدقاء والأقارب الذين أتوا ليهنئوا سما بعودتها بعد سنوات..انسحب حسن من الجلسة بهدوء وابتعد عن الجميع، انتبهت يسرا وكذلك سما إلى رحيله كالمعتاد بصمت من وسطهم حتى لا يلفت إليه الانظار، نظرت والدته إليه بحزن تتمنى لو يعود إلى منزله وعمله وحياته التي كانت مرسومة بدقة لأجله.. ولكن كل شيء منذ تلك الليلة اختلف..
_ حسن!
نادته سما قبل أن يتخطى حديقة المنزل إلى الخارج؛ فالتفت إليها قائلا :
_ ما الأمر؟!
نظرت اليه سما بعتاب قائلة :
_ ما الأمر!.. اسألني؟!. لقد كنت أظن أنك تخطيت الأمر.. ولكنك لم تفعل..
فهم قصدها ومع ذلك قال :
_ لا أفهم عما تتحدثين..
نظرت اليه تعلم أنه لا يريد التحدث عن الماضي؛ فقالت :
_ اخي.. لقد مضى وقت طويل.. سنوات وأنت لازلت عالقاً في نفس الصفحة.. ألا يمكنك طويها لتبدأ صفحة جديدة؟!.. لتعود إلى منزلنا وإلى حياتك..
طالت نظرته إليها وهو يذكر ما جعله يبتعد عنها وعن والدته ومنزله وحياته وعن كل شيء، ثم اومئ رأسه نافياً بمعنى " لا!.. لا يمكنني"، فقالت راجية :
_ لأجلي..
ساد الصمت عليهما قليلا قبل أن يُقَّبل رأسها، ثم قال :
_ آسف لأنني خيبت ظنك بي.. ولكنني لن استطيع.. أبدا..
_ حسن ؟!
_ تصبحين على خير يا سما..
تركها ورحل قبل أن تفتح سما - دون وعيها - جروحه إن لم تكن قد فعلت، نظرت إلى اثره بحزن وداخلها صرخة وجع.. لم يتغير شيء..بل ازداد الأمر سوءً.. ليتكِ لم تعودي!
                                        & & &
_ ريس عمار!.. يا ريس عمار!!
كان ذلك صوت " حمودة " الذراع الأيمن لعمار في كل ما يفعله، إلتفت إليه عمار قائلا :
_ ما الأمر؟!..
_ عمك.. أقصد حماك المستقبلي.. نقلوه إلى المشفى..
سمع عمار الخبر الذي جعل قلبه يرقص فرحاً، وتمني بداخله لو يستجب له القدر وتكون هذه آخر لحظات عُمر ذلك العجوز الذي لطالما كان العائق الأول والأخير في وجهه ويمنعه عن ليليان ، ولكن مع ذلك جاء الوقت المناسب الذي عليه أن يظهر فيه البطل الخارق؛ لذا قال لحمودة :
_ جهز لي السيارة فوراً..
                                      & & &
وفي المشفى كانت ليليان جالسة بجوار والدها تبكي بحرقة وهي لا تعرف ما الذي عليها فعله لينهض مرة أخرى، في تلك اللحظة دخل عليها الطبيب الذي كان ممسكاً بالآشعة التلفزيونية التي قاموا بها له، نظرت له بلهفة وخوف بينما قال " العم غالي " جارهم :
_ خيرا يا دكتور..؟
نظر إليهما باهتمام بالغ قبل أن يجيب الرجل :
_ الحالة لا تُطمئن.. ضعف في الأوعية الدموية بالإضافة إلى ارتفاع مستوى ضغط الدم.. وهذا ما أدى إلى إصابته بجلطة..
ساد الصمت عليهما للحظات ثم قالت ليليان بنبرة صوت مرتجفة :
_ وما الحل؟!
_ سنفعل ما علينا.. والأمر كله لله..
تنهد الطبيب بينما قال الرجل :
_ ونعم بالله..
ثم خرجا من الغرفة.. الطبيب إلى حالة أخرى والعم غالي إلى الحسابات ليؤمن مصاريف المشفى..، بينما هي بقيت تُقَّبل يد والدها وتبكيه لفترة طويلة، إلى أن أتى إليها صوته..
أجل هو بنفسه عمار السويسي، ابن عمها؛ فتمتمت قبل أن تمسح دموعها وتنظر له بقوة :
_ ابتدأنا!
قال عمار بتمثيل لم يُخفي عليها :
_ عمي!.. ما الذي حدث له يا ليليان؟!
قالت باستغراب :
_ ألم يُخبرك حموده بما حدث؟!
_ أجل.. ولكن ما الذي حدث؟
_ قال الطبيب أنه أُصيب بجلطة.. ولكن لا تخف سيكون بخير..
قالت ذلك وكأنها تقول له : لا تفرح كثيراً.. سيعود أبي كما كان ولن يحدث ما تتمناه..
نظر عمار إلى نظرتها إليه طويلا قبل أن يقول بنفس طريقته :
_ وكيف لا أخاف عليه.. ألا تعلمين أنني اعتبره كوالدي رحمة الله عليه؟
قالت ليليان لتجاريه في تمثيله :
_ أعلم.. بالطبع أعلم إلى أي مدى تحبه وتعتبره كوالدك يا عمار..
_ أنت لا تخافين.. كل شيء سيكون بخير..
_ أنا لست خائفة.. انا واثقة أنه سيخرج من هذه المحنة بإذن الله.. كل شيء سيكون بخير.. وانت لا تتعب نفسك يا عمار.. ولا تقلق أبدا..
رفع عمار أحد حاجبيه وفهم أنها تقول له أنها ليست بحاجته، ثم قال :
_ لا تقولي هذا يا ليليان.. أنت لا تعلمين كم تبلغ غلاوتكم بقلبي.. ولا تقلقي أنا سأتكفل بكل شيء في علاج عمي من الألف إلى الياء.. إلى أن يعود إلى بيته بألف صحة وسلامة..
_ في الحقيقة العم غالي تكفل بمصاريف المشفى.. ولا تقلق معاش والدي يكفي لتكاليف علاجه ولكن ان احتجت إلى شيء سأكلمك.. عن اذنك
رمتها ليليان في وجهه، ثم تركته خارجة من الغرفة؛ لتبتعد عنه، بينما زفر عمار بضيق من طريقتها الجافة معه..
                                       & & &
في الصباح كانت أمينة جالسة على مقعد أمام بركة السباحة تقرأ رواية ليس كعادتها هذه المرة، ولكن محاولة شغل تفكيرها في أي شيء بعيد عن مراد..
باتت تعيش في اضطراب غريب لا تفهم شيئاً مما تعيشه، وكأنها وقعت في إحدى المسلسلات التركية التي كانت تتابعها منذ الصغر!
ومراد.. انها حقا لا تفهمه! ،لا تعرف بماذا يفكر أو ما الذي ينوي فعله معها؟!، كيف يمكن أن يكون شخصاً كاذباً؟! .. انها تؤمن أنه يمكن لأي شخص أن يكذب عدا العين.. هي الوحيدة التي لا تفعل، فكيف لتلك النظرات الصادقة ان تكون كاذبة؟!
تذكرت كيف يكون شعورها بجانبه.. انها تضيع بالفعل قربه! ، لا يمكنها ان تمنع ذلك الارتجاف الذي يصيبها كلما اقترب منها وفي نفس الوقت لا يمكنها ان تتجاهل صوت عقلها الذي يأمرها ألاَّ تثق به!!
الله!!.. ها هي قد عادت للتفكير فيه مرة أخرى! .. حتى القراءة لا تنفع معه!! ،ربما كان يجب عليها أن تهرب من تلك الزيجة قبل أن تحدث !
على بعد مترات منها فتح باب الشرفة المطلة على حمام السباحة وهو يتثائب، ثم دقق النظر ورآها جالسة منهمكة في قراءة تلك الرواية، عبس وجهه وهو يقول بصوت ناعس :
_ انظروا إلى هذه!.. لا أعلم كيف لديها عقل منذ الصباح الباكر للقراءة!؟.. انا بالكاد اتذكر من انا..!
،ثم تأملها قليلا تبدو جميلة جدا وصافية عكس ما كانت عليه بالأمس، وعلى ذكر الأمس تذكر تلك المشاجرة بينهما وفتورها المفاجئ معه وتذكر حسن ورؤى وارتباطهما الذي لم يكن بالحسبان؛ لذا قال وكأنها تسمعه :
_ ليتني كنت كتاباً أو سجادة صلاة كي تقبلي علي دون خوف مني أو شك!
رنَّ هاتفها وفتحت المكالمة، قائلة بابتسامة جميلة :
_ هاجر!.. كيف حالك؟
نظر إليها متأملا ضحكتها التي انارت وجهها، وثار بداخله سؤال ادهشه هو شخصياً حينما قال :
_ مع من تتحدث وهي تضحك بهذا الشكل؟!
وكأن ما يحدث بداخلك أشبه بما يسمونه غيرة!.. أتغار يا مراد؟!
جاوب نفسه :
_ لا لا.. ما الذي تفكر فيه.. غيرة وما شابه!.. هذا مجرد فضول لا أكثر.. ومن ثَم انظر إلى تلك الابتسامة الرائقة.. تلك الابتسامة لا تظهر إلا للغير.. ولكنها دائما عابسة في وجهي.. ويقولون انتم السبب في النكد ؟!.. الله الله! ما هذه الزوجة التي حصلت عليها انا؟!
تقطع صوت هاجر وهي تتحدث فنهضت أمينة وهي تحاول أن تتواصل معها، فرك شعره وهو يقول بسخرية :
_ خطوتين إلى الوراء وتصرخين مثل الحيتان الصغيرة في الماء.. ومن يدري ربما تقابلين وجه كريم ووقتها ستحاسبين على كل ما تفعلينه بي!..
كان يقولها بقهر مصطنع، ولكن صاحبتنا فاجئته وتراجعت خطوتين معطية ظهرها لحمام السباحة، فقال بخوف حقيقي :
_ ما هذا؟!.. والله ستفعلها!!
تراجعت خطوة اضافية وفجأة انزلقت قدمها؛ فانطلقت صرخة منها وهي تسقط في حمام السباحة.. كانت مياهه عميقة وهي لا تعرف السباحة، ذُعر مراد مراد عندما رآها في تلك الوضعية وصرخ باسمها، ثم قال وهو يركض إلى الأسفل بسرعة قبل أن تغرق :
_ لقد سقطت بالفعل.. يا ويلي منكِ يا فتاة!
كانت أمينة تقاوم المياه، تحاول أن ترفع نفسها بجسدها الذي كان ينزلق إلى الأسفل، شعرت بالاختناق وضاق نفسها، وشعرت بضغط شديد على جمجمتها، وهي ترفس المياه بساقيها وترفع يدها إلى الأعلى، وفتحت فمها محاولة الصراخ ليسمعها أحد.. أو لتنطق الشهادتين حتى، اندفعت المياه إلى جوفها وانقطعت أنفاسها وفقدت السيطرة على جسدها، أصبحت الرؤية ضبابية ثم فقدت وعيها وأحاط بها الظلام..
ركض مراد بأقصى سرعة لديه حتى قفز في حمام السباحة وغاص نحوها، جذب يديها ثم أمسكها من خصرها بيديه واتجه بها نحو السلم، احتضنها بقوة؛ حتى لا يسقط جسدها المتراخي مرة أخرى، صعد بها السلم يحتضنها بيد واليد الأخرى ممسكة بالسلم المعدني الصغير؛ فصعده ببطئ وما ان وصل إلى الحافة حتى ورفعها بيديه وجعلها تستلقي على الأرض ثم قفز بجوارها، كان وجهها مزرقاً وانفاسها منقطعة، فأخذ ينادي عليها وقلبه يختلج محاولاً إسعافها، وبعد عدة لحظات كان يقوم فيها بالضغط على صدرها بقوة وإنعاشها شهقت بعنف وازدادت ضربات قلبها بانفعال وهي تفتح عينيها، فأخذ يحني جسدها وهي تخرج ما بجوفها من مياه، ثم اخذت بعد ذلك تلهث وهي تتنفس الأكسجين..
زفر بخوف وضربات قلبه تدوي كالمطرقة داخل أذنيه ثم أرخي رأسها على صدره لترتاح عليه.. أو ليرتاح هو بالأحرى من ذلك الخوف الذي إجتاح قلبه فجأة!
كانت قد تيقنت من أنها ميتة لا محالة.. الموت؟! إنها لم تشبع بعد..!
لم تشبع من الصلاة.. لم تشبع من قراءة القرآن بالتجويد، انها لم تزر بيت الله الحرام بعد .. لم تلمس كسوته بيدها، لم تقبل الحجر الأسود، إنها لم تروِ عطشها بماء زمزم بعد، .. لقد كانت أمينة قبل سنة بالضبط مقصرة تجاه ربها وحتى انها كانت تسمع الأذان ولا تقم للصلاة ، كانت تقول سأبدأ من الغد.. ويأتي الغد وتقول سأبدأ من الغد..! ،وتمر الأيام ثم يأتي رمضان وبعد رمضان تعود إلى ما كانت عليه.. كانت ضعيفة ، أسيرة نفسها قبل شيطانها.. ولكن برحمة الله وكرمه بدأت استقامتها منذ اللحظة التي فكرت فيها في الصلاة ولم تترك نفسها للغد.. أدركت أن الصلاة إرادة منها وحب من الله،وشيئاً فشيئاً بدأت تتعلم الصلاة الصحيحة من الانترنت.. بدأت تتابع ندوات الشيخ" ذاكر نايك" عن الإسلام وتتعلق اكثر بدينها وربها، .. بدأت تتحدث معه في السجود بفطرتها تحكي له ما يوجعها وما يسعدها.. بدأت تستعين به وتفوض أمرها إليه وهي موقنة تماماً انه لن يضيعها أبداً.. وفي اللحظات الصعبة تقول بيقين " يُدبر الأمر " فيُدبره.. شعورها انها في معيته وأمانه جعلها مطمئنة على نفسها وعائلتها الصغيرة ووالديها في ظلمة القبر.. ولكنها لم تلحق بعد..!
تريد أن تصلي اكثر وتختم القرآن حفظاً وليس قراءة فقط.. تريد أن ترتدي الخمار بدون تردد.. تريد أن تشبع من حلاوة الإيمان..!
أخذت تبكي بضعف بينما هو أخذ يتفحصها حامداً ربه، رأت في عينيه نظرة خوف عليها وشعرت بيده المرتعدة التي كانت تزيح خصلات شعرها عن وجهها قائلا :
_ انت بخير.. لابأس..
قالت بنبرة باكية :
_ لا أعلم ما الذي حدث..
_ ارجوك انتبهي بعد ذلك يا أمينة.. لقد كاد قلبي ان يقف.. ألم تخبرك أمك ألا تلعبي بالقرب من مناطق المياه العميقة؟!
مسحت دموعها وحاولت ان تنهض فلم تستطع السيطرة على جسدها لذا قالت بصوت واهن :
_ لا استطيع القيام..
ثم استطردت ببكاء :
_ لقد ظننت نفسي ميتة حينما فقدت وعيي..
انقبض قلبه وهو يتخيل حياته بدونها.. حياة لا حياة فيها! ؛لذا قال علي الفور :
_ بعد الشر!.. لا تقولي هذا رجاءً..
_ الموت ليس شراً يا مراد.. بعده سأجد أبي وأمي بانتظاري..
_ وتتركيني وحدي؟
قالها فجأة فنظرت إليه، ولكنه تلعثم ثم قال ليخفي حرجه وكأنه يمازحها :
_ على الأقل خذيني معكِ.. أعني لتنتهي قصتنا بطريقة درامية لائقة بنا..هيا يا أمينة.. ما بك درامية جداً هذا الصباح.. ولا تقلقي من يقولون دائماً أنهم سيموتون.. يكونون أطول الأشخاص عمراً على وجه الأرض..
قالها بمزاح بينما نظرت إليه بخيبة أمل؛ فقد ظنت لوهلة أنها مهمة بالنسبة إليه، قالت وهي تغمض عينيها بتعب :
_ لا تقلق انت أيضا.. قريباً جداً سترتاح من وجودي بحياتك.. فأنا لم اسبب لك إلا المتاعب..
لم تر أمينة نظرة الألم في عينيه حينما قالت ذلك، ولكنه تمالك نفسها ثم وضع يد تحت قدميها والأخرى خلف ظهرها وحملها في حركة مفاجئة جعلت قلبها يخفق بين جنبيها، بينما قال ضاحكاً :
_ اظن ان هذا الكلام سابق لأوانه يا زوجتي العزيزة.. بالمناسبة ليس عليكِ أن تشربي ماء اليوم.. لقد شربت ما يكفيكِ لأيام مقبلة!
كتمت ضحكاتها ولفت يدها حول عنقه بحركة لا ايرادية جعلته يبتسم، وبعد لحظات أنزلها ببطئ في غرفتهما، وتركها لتبدل ثيابها ودلف هو إلى الغرفة الأخرى ليبدل ثيابه ولكنه أغلق الباب عليه وزفر باختناق..
لأنه وببساطة بعد انتهاء هذه الأشهر.. لا يريدها ان ترحل من حياته.. بأي طريقة كانت..!
                                       & & &
في طرقات المشفى كانت ريحان تسير باتجاه الغرفة التي يقطن بها والد ليليان وقد أحضرت لها الطعام وبعض الأشياء التي ربما تحتاجها هذه الأيام ، دلفت إلى الغرفة بهدوء ورأت ليليان جالسة على الكرسي بجوار سرير والدها ويبدو أنها قد غفت من كثرة الإرهاق ، ضغطت ريحان على كتفها برفق وهي تناديها؛ فاستيقظت
ليليان بقلق وقامت الأولى بتهدئتها، ثم قالت :
_ ما أخباره اليوم؟
نظرت ليليان إلى والدها بحسرة، ثم اجابتها :
_ كما هو.. ولكن حالته غير مطمئنة..
جلست الأخرى على الكرسي المواجه لها وهي تقول بألم :
_شفاك الله وعافاك يا عم حاتم.. وكيف حالك أنت..؟
وضعت يدها على جبينها تفركه بألم قائلة :
_ كما ترين.. ضائعة.. ولا أعرف ما الذي يجب علي فعله..
قالت ريحان معارضة :
_ انتِ تفعلين كل ما بوسعك.. ولا تقصرين بشيء..
نظرت إليها ريحان قائلة بامتنان :
_ أتعبتك معي يا ريحان.. وحملتك مسؤلية الفتيات..
_ لا تقولي هذا يا ليليان.. ظننت انكم تعتبروني شقيقتكم كما اعتبرني العم حاتم ابنته.. كما أنني مهما فعلت لن أوفى جميلكم علي.. لقد اصبحتم عائلتي يا ليليان..
ابتسمت ليليان وقالت :
_ ونحن أيضا نعدك فرد من عائلتنا.. أنا اعتبرك شقيقة لى وليس فقط صديقتي المقربة.. والله يعلم مكانتك بقلبي..
قاطع حديثهما دخول الممرضة، فراقبتها ليليان وهي تراها تضع سن الإبرة في زجاجة المحلول المعلقة على حامل معدني بجوار سرير والدها، وبعد دقائق خرجت من الغرفة..
_ الحمد لله ان العم غالي استطاع أن يوفر لأبي غرفة كهذه.. انه رجل طيب حقا..
قالت ذلك ليليان ثم حمدت ربها مرة أخرى..
_ وما الذي تخططين لفعله بعد ذلك؟
تنهدت :
_ سأبحث عن عمل.. لن اعتمد على معاش والدي..
_ معك حق..
ساد الصمت قليلاً، ثم قالت ريحان :
_صحيح يا ليليان.. لم لا تطلبين من العم غالي أن يبحث لك عن أي وظيفة شاغرة..
فكرت ليليان ،ثم قالت باستحسان :
_ معك حق.. العم غالي رجل واصل.. وله مكانته في عالم الأعمال.. ومعروف في البلدة.. ويحبه الجميع.. لكنني لازلت في الجامعة..
_ وما المانع.. هناك الكثير يعملون وهم في الجامعة.. انا كنت أعمل وانا في جامعتي..
_ حسنا.. سأكلمه.. وما فيه الخير يقدمه الله..
وبعد عدة لحظات استطردت ليليان :
_ وماذا عن والدتك؟.. عرفتي عنها شيئاً.. ؟
تنهدت ريحان بإحباط :
_ لا.. لقد بحثت عنها في كل مكان.. ومن عنوان إلى عنوان.. حتى عرفت انها تركت عنوانها الاخير منذ عامين.. ولا احد يعرف عنها شيئاً..
زفرت ليليان بإحباط هي الأخرى، ثم قالت مشجعة :
_ لا تيأسي.. وكونك وجدتِ لها أثراً هنا.. فهذه إشارة جيدة لأنها لا تزال على قيد الحياة..
تنهدت ريحان ، ثم قالت :
_ ياليت.. ياليتها تكون على قيد الحياة.. ليتني أجدها..
ابتسمت لها ليليان ثم قالت بتفاؤل :
_ ان شاء الله..
بادلتها ريحان ابتسامتها، متأملة أن تتحسن صحة العم حاتم وأن تجد والدتها قريباً..
                                     & & &
قالت يسرا إلى سما الجالسة أمامها :
_ راجعي هذه الأوراق قبل السفر..
_ يبدو أن هذه الصفقة هامة جدا أمي..
لم يكن سؤالا كان تأكيدا، ثم نظرت إلى والدتها قائلة :
_لا تقلقي.. ابنتك سيدة أعمال ذكية..
قالت ذلك بمزاح لوالدتها ، فقالت يسرا بتحذير :
_ ولا يقع إلا الشاطر.. لذا انتبهي..
ضحكت سما ببساطة، ثم قالت :
_يسرا هانم.. أنت تأمرين..
ضحكت يسرا على مشاغبة طفلتها، ثم تبادلا بضعة كلمات قبل أن تتركها سما متوجهة إلى مكتبها في الشركة
                                       & & &
في إحدى الأماكن التي يرتادها حسن كثيرا، كان جالسا وحده.. جاءه اتصال من رؤي، لم يرد عليها، صحيح انه من طلب منها أن تقف معه ضد مراد ولكنه فعليا لا يطيقها!
لكنه لم يرد عليها لهذا السبب بل لأنه ليس لديه أي طاقة الآن.. لا لها ولا لأي شيء.. حتى التفكير ثقيلاً عليه..
_ حسن عامر!.. أهذا أنت؟!..
كان هذا الصوت ما جعل حسن ينظر إلى صاحبه باستغراب وتساؤل عن هويته، كان رجلا أربعيني.. حاول أن يتذكر أين رآه من قبل ولكن لم تسعفه ذاكرته ؛ لذا قال باستغراب :
_ عفواً.. هل اعرفك؟!
جلس الرجل ثم قال :
_ قد تكون نسيتني.. فنحن لم نتقابل منذ زمن..
عرفه الرجل على نفسه انه الطبيب عز الدين وأن والد حسن قد ساعده كثيرا فى الماضي، فتذكر حسن أنه قد أتى لتقديم العزاء في وفاة والده، تبادل الحديث مع الرجل بلطف حتى جاء في الكلام سيرة والدته وقد سأله الطبيب عن حالتها الصحية الآن، نظر إليه الآخر باستغراب ؛ فاستطرد الطبيب :
_ ماذا؟!.. ألا تعرف أن والدتك.. لديها سرطان..؟!
اتسعت حدقتي حسن وارتجفت اوصاله وهو ينظر إليه، ثم قال بتلعثم :
_ ما.. الذي.. تقوله ؟!!
عرف عز الدين - من ردة فعله - أنه لم يكن يعرف عن مرض والدته ؛ فقال بحزن :
_ هذه هي الحقيقة يا حسن.. لقد جائت إلي العيادة منذ فترة.. حالتها مع الوقت تصبح أصعب.. ولكنها رفضت الخضوع للعلاج الكيميائي..
كان حسن لايزال متأثرا مما يسمعه.. يعني دعونا نقول مصدوماً بحق، فأكمل عز الدين :
_ لقد تحدثت معها حول ذلك مسبقاً.. ولكنها تخاف من العلاج الكيميائي.. كما أن حالتها النفسية المتدهورة جعلتها خاضعة للمرض..
أخذ عز الدين يشرح ويعيد ويزيد حول مرض والدته ولكنه كان في عالم آخر ولا يوجد سوي جملة واحدة تسيطر على تفكيره      " والدتك لديها سرطان" ، عاد طنين صوته من زمان بعيد يرن في أذنيه بنحيب وصراخ.." لا تفعلها يا أبي..! "
                                  & & &
كانت هاجر في غرفتها التي حجزها لها عزت في فندق صغير للمغتربين ؛ لكي تكون قريبة من مكان العمل ، لم تسمع صوت دق الباب في المرة الأولى ولكنها توجهت إليه حينما انتبهت وفتحته ، رأت ذلك الشاي الثلاثيني الوسيم أمام عينيها والذي تبدو عليه أمارات الثراء ينظر إليها بابتسامة متلاعبة ، شعرت بأن نظراته تتفحصها من رأسها حتى أسفل قدميها بطريقة جعلتها تشعر بأنها عارية وجعلت بدنها يقشعر وهي تضبط حجابها حول رأسها، ثم قالت بلهجة صارمة :
_ نعم؟
مد طارق يده لها مصافحا ثم قال :
_ طارق أبو المجد.. اعمل مع زوجك..
نظرت اليه هاجر ولم تمد يدها بدورها، ولكنها قالت :
_ عزت ليس هنا
خفض يده قائلا بسخرية :
_ ألا تصافحين الرجال؟!.. هيا! لم انت قديمة الطراز إلى هذا الحد؟!
.. العالم تفتح وانت لازلت بهذه الأفكار..
قالت بسخرية واضحة :
_ يعني انت تطلب مني ألا اعتبرك رجل.. واتعامل معك كما نتعامل نحن كنسوة !!.. عزت ليس هنا..هاتفه عندما تحتاجه..
وقبل ان تغلق الباب قال طارق :
_ لحظة فقط.. نحن لم نتحدث..!
_ حسنا.. هل تود أن تبلغ أي شيء إلى زوجي؟
قال طارق بنظرة حقيرة :
_ زوجك؟!.. أتدرين؟.. لوكان لدي زوجة مثلك.. لكنت جعلتها ملكة ولن أضعها في غرفة رخيصة كهذه..
قالت هاجر بنفاذ صبر محاولة الحفاظ على هدوئها :
_ أفهم من كلامك أنك لا تريد أن تبلغه شيئاً.. جيد سأخبر زوجي بأنك تريده.. بعد إذنك..
أغلقت هاجر الباب بوجهه؛ فقال طارق بصوتا جهوريا لتسمعه قبل ذهابه :
_ حسناً.. ولكن تذكري أن لدي عندك واجب ضيافة.. فحديثنا لم ينتهي بعد..
شعرت هاجر بالغضب وفكرت ان تحكي لعزت ولكنها فكرت في العواقب قبل أن تفعل..
                                       & & &
كان عزت في طريقه إلى الغرفة عندما رأي طارق نازلا درجات السلم، وعندما رآه الآخر اقترب إليه ببجاحة مبتسماً، ثم قال :
_ كنت أسأل عليك.. أين كنت؟
الحق يقال عزت لم يرَ منه سوءً ولكنه لم يرتح له من البداية، كما أنه معروف بأنه زير نساء ؛ لهذا قال بغيرة على زوجته :
_ ولماذا تسأل علي؟!..لقد تحدد الموعد غدا لنتقابل فيه..
قال طارق ببرود واضعاً يديه في جيب بنطاله :
_ كنت أود أن اطمئن بشأن العمل.. ولكن زوجتك أخبرتني أنك غير موجود..
رأى عزت تلك اللمعة في عين طارق؛ لذا قال بتوتر وقد ضاقت عيناه :
_ هل قابلت زوجتي؟
_ أجل.. وهي من أخبرتني بعدم وجودك.. ما تلك النظرة يا عزت؟!.. أتغار على زوجتك مني؟!
_ كما قلت إنها زوجتي.. ويجب أن أغار عليها أليس كذلك؟!
_ أجل ولكنني.....
قاطعه عزت بنبرة هادئة وكأنه يهدده ولكن بطريقة غير مباشرة :
_أنت أو غيرك.. أنا أتساهل بأي شيء.. ولكنني لا أتساهل بشأن شيء يخص زوجتي..
قال طارق ضاحكاً وكأنه غير المعنى، وقال :
_ تماما يا رجل انها المسؤلية.. ولهذا السبب أرفض الزواج.. دعك من هذا.. ما رأيك أن أعزمك على شيء بينما نتحدث؟
زفر عزت ثم قال :
_ لا أظن أنني سأستطيع اليوم.. ربما في وقت آخر..
_ نتقابل غدا إذا..
صافحه عزت قبل ذهابه بينما ظل واقفاً نيران الغيرة تأكله بالرغم من ثقته بزوجته، ولكنه لا يثق بهذا الطارق ولا يعرف كيف كانت نظرته إليها وخاصة أنها جميلة جدا، طرق باب الغرفة بغضب وهذا ما لاحظته هاجر وهي تفسح له المكان ليدخل، وقبل ان يقول شيئا قالت :
_ ليتك لحقته.. كان الاستاذ طارق هنا قبل لحظات وسأل عنك..
كان يراهن على صراحتها دائما ولآخر لحظة ستظل ثقته بها عمياء ولكن ذلك الأبله الذي يشتعل بداخله كيف يخرسه؟!
_ وماذا قال؟
فكرت ألا تتهور وتحكي له كل شيء؛ لأنها تعرفه جيداً وتعرف مدى تهوره لذا خشيت أن يقوم بشيء جنوني؛ لذا قالت :
_ لا شيء.. عندما علم أنك لست موجوداً ذهب..
زفر ثم وضع يديه في وسطه :
_ اسمعى.. نحن في مكان غريب.. ومرة أخرى لا تفتحى الباب لأي أحد.. أياً كان من هو..
قالت باستغراب :
_ لماذا؟!
_ كما سمعت.. وإن لم تفعلى سأفعل أنا..
_ هل ستحبسنى؟
قال بعصبية :
_ ان اضطررت سأفعل لأنني لا أريد أن يراكي أحدا ..
كان بإمكانه ان يقول أنه خائف عليها من أن يتعرض لها أي أحد وخاصة طارق ولكنه أبى أن يعترف بما يشعر به - برأيه - كي لا يبدو ضعيفاً في نظرها، قالت بألم محاولة التخلص من يده القابضة على ذراعها بعصبية :
_ ألا تثق بي يا عزت؟!
_ بل لا أثق بالأعين التي تنظر إليكِ..
وسط غضبها تملكتها سعادة مبهجة؛ فقد أحست بغيرته عليها لأول مرة منذ زواجهما.. يا الله!.. كم أرادت ان تشعر بأنه يحبها ويخاف عليها!، قالت بهدوء وابتسامة صافية متفاجئة :
_ عزت.. أتغار علي ؟!
تغيرت معالم وجهه وترك ذراعها وهو يرى نظرتها الحانية؛ فقال مخفياً مشاعره :
_ لا تخرجي عن الموضوع الأساسي.. إذا خالفت ما قلته رد فعلي لن يعجبك.. أسمعت؟!
تركها وهو يفك ازرار قميصه داخلا الحمام، بينما ابتسمت هاجر بحياء وشعرت بقلبها يخفق؛ لأنها وأخيراً رأت في عيني عزت ما لم تره منذ زواجهما..
                                      & & &
ولج الليل في النهار وارتفع صوت المؤذن بآذان العشاء قبل أن تنهض أمينة؛ لتصلي، بعد وقت مرت من أمام غرفته وسمعته يتحدث مع إحداهن ؛ فتوقفت.. تعلم أن التصنت حرام ولكنها رغماً عنها ثارت الشكوك بداخل رأسها، ونظرت إليه من خلال الباب الذي كان مفتوحاً بحيث استطاعت ان ترى قامته الطويلة وهو يتحدث عبر الهاتف والفرحة تبرق في عينيه، ثم سقط قلبها عندما قال :
_ كيف حالك يا حبيبتي؟.. لقد اشتقت إليكِ..
  ......    
                                        & & &

                                             & & &

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.
هي وابن الأكابر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن