الفصل الرابع

77 9 0
                                    

حياة جديدة

 "قال سيعود وقد فعل ..لكنه لم يعد فقط بل حوَّل جهنم إلى جنة عدن .. " جريان الماء على أجسادهم غسل الكثير من ترسبات الماضي .. لم يكونوا ليرتدوا ملابسهم الجديدة بدون استحمام يطهرهم من رائحة العذاب .. عندما اجتمعوا مجددًا سعد أيضًا كان قد استبدل ملابسه القديمة بملابس جديدة مثلهم .. ملابسه الجديدة أظهرته مختلفًا كليًّا عن سعد القديم .. من المدهش كيف أن الملابس فقط تستطيع نقل الشخص من مستوى إلى مستوى .. ملابسهم التي جلبها لهم لائمت المكان المحيط بهم وجعلتهم يشعرون أنهم جزء منه .. بمجرد خلع الملابس انسلخوا من جلدهم القديم .. تحولوا من أبناء حارة جهنم إلى أبناء الطبقة الراقية ..
وسعد أشفق عليهم من نظرات التوتر التي تحتل ملامحهم فقال مباشرة فور جلوسهم:

- سأعود للبداية .. لا تقاطعوني حتى انتهى .. حتى العتاب أجَّلوه .. في البداية سافرت إلى السعودية كما تعلمون .. وهناك عملت ليل نهارٍ في كل المهن المعروفة .. عملت كسباك .. كعامل بناء .. كسائق .. أي عمل وكل عمل ولم أترك بابـًا لتحصيل الأموال ولم أطرقه .. حرمت الأكل والشرب على نفسي .. اعتدت أن آكل أبسط الأشياء التي تبقيني على قيد الحياة وأتمكن من المزيد من العمل .. كان لدي هدفٌ أعطاني القوة .. والقسم الذي أقسمته مع نفسي بأن أعود وأنتشلكم من العذاب كان لا بدَّ وأن يتحقق .. هدفي الوحيد كان جمع أكبر قدر من الأموال ومنعت نفسي عن الاتصال بكم طالما لا أستطيع المساعدة .. كان في استطاعتي أن أرسل لكم مبلغًا شهريًّا من المال لكني علمت أنه سيذهب إلى كؤوس (الهباب) التي كان يشربها فرج ولم تكونوا لتجنوا شيئًا من إرسالي المال سوى المزيد من السُكْر والمزيد من الضرب بالتالي .. ماذا ستستفيدون من إرسالي المال لكم  وأنتم تحت رحمته؟ وحتى لو وصل لكم كنت ستنفقونه كمصروفات يومية لذلك فكرت بالنيابة عنكم واستثمرت نصيبكم من المال .. كنت أكيدًا من أن سالمًا يستطيع أن يحل محلي، وراهنت على ذلك ..
معاناتكم كانت تشعرني بالعجز .. أقسمت أني لن أتصل بكم أو أعود إلا وأنا قادر على تغيير الوضع وانتشالكم من بئر الضياع وكنت أدعو الله ألا آتي بعد فوات الأوان .. فكرت في الاتصال بكم كثيرًا لكنني كنت أعلم أنني سأعود فورًا مع أول كلمة أسمعها من أيٍ منكم .. مع نهاية السنة الأولى دبرت مبلغًا جيِّدًا جدًّا .. أول مبلغ حقيقي اتحصلُ عليه وفكرت في العودة لأجلكم لكن عندما فكرت جيِّدًا وجدتنى لن أستطيع أن أخرجكم من الجحيم كما كنت أتمنى .. كنتم ستظلون تحت رحمته، فأموالى وقتها كانت ستجاهد لمجرد بدأ مشروع بسيط ..

وقتها بدأت الثورات تشتعل في البلاد وتدمرت الكثير من البلدان العربية وسويت مدن بالأرض .. بالصدفة تعرفت على شخص سوري اسمه نزار شهم ومخلص ويقدر الصداقة لكن قلبه كان ميتًا من هول ما رأى.. موت عائلته بالكامل أمام عينيه نزع قلبه ووضع الصخر مكانه .. أقنعني بأخذ المخاطرة والعمل في تهريب اللاجئين لأوروبا وبالخصوص لإيطاليا عن طريق ليبيا .. سافرنا ليبيا ومنها غامرت واشتركت معه واشترينا قاربًا وقمنا بالتعاقد مع اثنين من البحارة المهرة .. كنا نهرب في المرة الواحدة حوالي خمسين لاجيء .. الحمد لله .. الله الكريم سترنا ولم نفقد أي شخص في البحر .. تكلفة الفرد الواحد كانت تترواح بين ثلاثة آلاف حتى ستة آلاف يورو لكن أقسم لكم أوصلتهم جميعًا بسلام وحتى الشاطيء .. أبدًا لم أتركهم في المياة وأطلب منهم إكمال الباقي سباحة كما يفعل بعض المهربين عديمي الضمير .. وأيضًا لم أشترِ مركبًا متهالكًا معرضًا للغرق بل اشتريت مركبًا حديثًا وكنت أُخضِعه للصيانة الدورية قبل كل رحلة .. ومع ذلك كنت أشعر بتأنيب الضمير فكنت أغامر معهم بنفسي في كل رحلة وكانت مسؤوليتي أن أوصلهم بسلام .. صحيح أنا أردت المكسب السريع لكنني في الوقت نفسه كنت مسؤولًا عن أرواحهم المعذبة .. يكفي الجحيم الذي هربوا منه .. أردت مساعدتهم كي يبدأوا حياة جديدة بعيدًا عن الحرب والدمار .. استمعت إلى حكاويهم عن الحرب لأشهر .. بعضهم فقد كل عائلته وشاهدهم يموتون أمامه إما تحت الأنقاض من أثر القصف بالصواريخ أو من الجوع والعطش بسبب الحصار .. مدن بالكامل تحولت إلى أنقاض ومُلِئت بالأشباح .. في كل رحلة كنت أستمع إلى حكايات مختلفة وأعيش معها بكل حواسي .. كانوا قد تعبوا من دفن الجثث وفقدوا الأمل في التغيير .. فقرروا أن ينفدوا بجلودهم من الموت .. قمت بتهريب رجالٍ ونساءٍ وأطفال .. كل طفل كنت أراه وهو يحمل حملًا يفوق طاقته كنت أتذكركم، فنحن أيضًا عشنا حربنا الخاصة مع فرج .. السنوات الاخيرة معه كانت جحيمًا .. كل لكمة لكمت وجه أمي حُفرت بداخلي .. أي صفعة تلقتها ليلى بدون سبب كانت تعطيني العزيمة وتمحو أي إحساس بالذنب أشعر به فهم يستحقون حياة كريمة .. أنتم أيضًا تستحقون حياة كريمة.

حارة جهنمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن