الفصلُ الرّابِع

11 3 9
                                    

لا إله إلا أنتَ سُبحانَك إنّي كنتُ مِن الظّالِمين

---

قرأتُه، قرأتُ ذلكَ الكِتاب، استغرقتُ ثلاثَة أيّامٍ لأنهِيَه، كنتُ خلالها لا أنامُ إلا قليلا، ولم أخرُج من المنزِل أبدا، لقد تلهّفتُ إلى إيجادِ حلّ ما لبعثرتي إلى درجة أنّني لم أسقِط بصري عن الصفحاتِ قط، ولقد كان لذلك الكِتابُ سحرُه كذاك، فلم يتركني هو الآخر أبتعدُ حتّى وصلتُ إلى خاتِمته.

ثمّ ها أنا أسيرُ في الطّرقاتِ هائمة على وجهي، هناك خواءٌ كبيرٌ في صدرِي، ذرفتُ من الدموعِ أثناءَ القراءة ما جعلني غير قادرة على إنزالِ دمعة أخرى على النّهاية، لم تكُن قصّة حزينة-- كانت عظيمة، ولم تكُن النهاية تعيسَة-- كانت كأنّني ودّعتُ أقرَب شخصٍ إلَي في هذه الحياةِ كُلّها، شعرتُ بذلِك الرّابِط يتشكّل بيننا من خلالِ الأحرُف، وشعرتُ تجاهَه بحُبّ كبير-- لقد قرأتُ حتما بعضَ الروايات المؤثّرة، لكِنّ شيئا من ذلِك لم يكُن بتأثير قصّة الصادِق الأمين، سيرَتُه، حياتُه، كُل شيءٍ كان حيا- حقيقيا- ومؤثرا بما لا يترُكني اللحظة أستوعِبُ الذي حدَث.

تأتي تِلك اللحظات التي تُشعِرنا بالخفّة، كأنّ أحمالَنا كُلّها أخِذت عنّا، لكِنّ ما حدَث معي هنا كانَ مُخالِفا، كُلّ شيءٍ ما يزالُ رابضا داخلي، ولا أعتقدُه سيختفي قريبا وربّما لن يختفي أبدا، لكِنّ المُختلِف البسيطَ في الأمر أنّني أشعُر كما لو أنّ يدًا حانِية مرّت على صدرِي، وكأنّ نفخَة طُمأنينة أسكَنت وجعَ جروحي وربَتت بحنّية على ندباتي.

ثمّ جلستُ على الرّصيفِ وبكيت.

لم أبكِي نفسِي فكَم بدَت لي آلامي تافهة، وإن كانت في الحقيقة ليست كذلك تماما وأنا أعلم، لكِنّني بكيتُ الرّجُل الذي ارتبطتُ بهِ وجدانيا وأنا أقرأ سيرَته-- سيرَته! كُلّما استوعبتُ أنّه سار على هذه الأرض مثلي، وقاسَ كُل ذلِك، وأنّهُ عاشَ كعابِر سبيلٍ أو غريبٍ استظل بشجرة ومضى، أنّه لم يقِف عندَ الأذيّة، وكان في أسمى صورِ الإنسانية، كُلّ هذا جعل شيئا ما ينهدِمُ في نفسِي، فلَا أتعجّب الفراغَ الذي احتَلّ صدري.

كأنّني كنتُ أعيشُ جدّا هناك، والخلاصُ كان هنا بجانبي طول الوقت.

رفعتُ بصرِي إلى السمَاء لتتراءى لي الشمسُ تغرُب هناكَ في الأفُق، مُلوّحة أنّها ذاهبة، ولكِن لها عودة قريبا من الجانِب الآخر، لربّما لم تكُن الوعودُ الأبدية التي همسَت لي بها السمَاء كذبة بعد كل شيء، لربّما كانت نداءات خفِيّة إلى نظرة جديدة للحياةِ، للآلام، لكُل تِلك التجارب السيّئة.

رفرفتُ رموشي أسقِطُ دمعِي كُلّه، ونبَت العزمُ في صدري...

سأعيدُ قراءَة تِلك السيرة!

لم أشعُر بهذا القدرِ من الإرادة في داخلي منذُ زمن، في أطيافِ ذكرياتي البعيدة، كانت هناكَ هوشيكو تستيقظُ كُلّ يومٍ لتتذوّق السعادة وتنتشي بها، تستيقظُ وإرادة يقِظَة تنبُض في أوردتها، وشعرتُ بها الان تستيقظُ من جديد، لا لأجلِ صناعة السعادة، ولكِن لفهمِ قانونها هذه المرّة!

هوشيكو [✓]حيث تعيش القصص. اكتشف الآن