17. لَا تَـتْـرُكَـنِـي وَحـدِي.

818 54 2
                                    

رواية "عالم آخر".
الفصل السابع عشر:
"لَا تَـتْـرُكَـنِـي وَحـدِي".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان عمر في طريقه إلى عيادة ملك، مشحونًا بمزيج من القلق والتوتر، يخشى أي شيء قد يصيبه بشكل مفاجئ. أوقف سيارته، وترجل متجهًا نحو العيادة. انتظر دوره بصبر حتى أتى، ثم دخل وألقى التحية على ملك. لم يستطع كبح فضوله فسألها عن المريضة التي غادرت للتو، لتضحك ملك وتقول:
- وشها متبهدل زي مانت شوفت كده، ده غير جسمها اللي مليان جروح وآثار ضرب.
قال عمر وقد بدا عليه الذعر:
- مين اللي عمل فيها كده!
- جوزها..
- جوزها!
- أيوة.. وللأسف دي مش أول مرة يحصلها كده..
- وهي ازاي ساكتة على كده.. ازاي مبلغتش عنه لحد دلوقتي؟!
- من أول يوم جتلي فيه العيادة وأنا بقولها إنها لازم تتخلص منه ومش هتتخلص منه غير لما تبلغ عنه وساعتها اديتلها رقم عادل ومكان شغله عشان تروحله بس هي مرضيتش..
- ازاي!
- عشان عندها متلازمة ستوكهولم.. وده كان تشخيصها لما شرحتلي كل حاجة..
- أول مرة أسمع عن الموضوع ده..
- متلازمة ستوكهولم هي إن الضحية تقع فِ حب الجلّاد ودي بتحصل كتير، جوزها شخص سادي وبيحب يعذبها وهي بتحبه ومتقبلة أي حاجة منه.. بس الحمدلله هو اتقبض عليه وروحت معاها المستشفى عشان تعمل تقرير وقريب أوي هيتحاكم.
- ربنا يستر والله أنا مش عارف إيه الناس دي..
- سيبك أنت.. نور كلمتني امبارح وقالتلي إن أعراض فقدان الذاكرة بدأت ترجعلك تاني..
- للأسف الشديد حصل.. اتفاجئت إني صحيت الساعة ١٠ بالليل وآخر حاجة كنت فاكرها كانت قبلها بـ ٢٤ ساعة ونور قالتلي إني رجعت البيت الساعة كانت ٩ الصبح..
- حاولت تفتكر آخر موقف كان إيه وإيه اللي حصلك بعده؟
- أنا فاكر آخر موقف.. حصلت مُشادة بيني وبين نور وبعدها مش فاكر أي حاجة.. بس أنا مش فاهم أنا بنزل أروح فين أو مع مين أو إيه اللي بيحصل، أنا خايف لأكون بعمل حاجة تغضب ربنا من غير ما أحس يا دكتورة..
- ملاحظتش أي حاجة غريبة فِ موبايلك؟
- حاجة غريبة زي إيه؟
- مكالمة مع حد أو رسالة.. أي تواصل يعني..
- لا مفيش أي حاجة.. حتى أنا مش معايا أرقام ناس كتير، هما بتوع الشغل وأنتم وبس..
- طب بص يا عمر.. أنا عايزاك تكلمني عن كريم مش عن عمر.. عايزاك تكلمني عن طفولتك واللي مريت بيه.. فترة الجامعة وفترة المدرسة.. وحياتك مع الست اللي ربيتك.. كل تفصيلة من تفاصيل حياتك أنا عايزة أعرفها..
- للأسف أنا مش من النوع اللي الأحداث ممكن تتسجل فِ ذاكرته على هيئة ذكريات بس أنا هحكيلك اللي فاكره..
- ياريت..
- أنا فاكر اللحظة اللي حلمت بيها بأمي وقررت أنزل ساعتها عشان أدور عليها.. كنت قاعد على الرصيف لوحدي في الشارع ومكنتش لاقي أمي ولا عارف أرجعلكم تاني.. فضلت ماشي لحد ما بعدت ومن كتر التعب قعدت تاني على الرصيف وكنت بعيط.. لحد ما شافتني ست وفضلت تسألني مالك وأنا كنت بقولها إني عايز أشوف أمي ولو لمرة واحدة لأنها وحشتني..
- أنا آسفة لو كنت هقلّب عليك.. هي مامتك راحت فين؟
صمت هنيهة ثم قال بعد لحظاتٍ من الصمت:
- مش عارف.. أنا لحد دلوقتي بسأل نفسي السؤال ده، هل أمي ماتت بالفعل زي ما بابا قالي زمان ولا راحت فين..
- قبرها فين يا عمر!
نظر إليها بتفاجؤ ثم قال:
- قبرها!
- لو توفّت زي ما والدك قال يبقى أكيد فيه قبر!
- عمي ميعرفش مكانه؟!
- بابا عمره ما جاب لحد فينا السيرة دي..
- يعني إيه! يعني أمي ممكن تكون عايشة!
- بص يا عمر أنا من رأيي تروح تتكلم مع بابا وتسأله عن الموضوع ده لأن هو أكتر واحد هيفيدك بس أنا عايزاك تكملي بقيت الحكاية جايز تكون اتعرضت لصدمة نفسية وأنت صغير عشان كده ده بيحصلك دلوقتي..
- طب واللي بيحصلي ده اسمه إيه؟!
- متقلقش ومتستعجلش.. أنا مش عايزاك تفكر ف أي حاجة دلوقتي غير إنك تحكيلي..
- بعد ما قولتلها إن أمي وحشتني سألتني عن مكان بيتي قولتلها إني معرفوش فقررت تاخدني معاها ولما كبرت عرفت منها إنها كانت ناوية ترجعني لأهلي بس خافت عليا واتعلقت بيا ومقدرتش تتخلى عني..
- يعني هي كانت عارفة العنوان!
- لا مكانتش تعرف عنكم أي حاجة.. هي كانت ناوية توديني مركز الشرطة وهما يشوفوا ساعتها بس خافت لمحدش يعرف يوصل لحاجة لأن وقتها مكانتش التكنولوجيا اتطورت بالشكل ده.. فخافت لياخدوني فِ الأحداث..
- تمام كمل..
كانت تدوّن جميع الملاحظات فاستأنف قائلًا:
- فضلت معاها وعرّفتها اسمي بالكامل وكان في حد تبعها شغال فِ الداخلية طلبت منه إنه يطلعلي شهادة ميلاد باسمي زي ما هو عشان تقدر تقدملي فِ المدرسة..
ضحكت ملك وقالت:
- معقول مجاش على بال بابا إنه يدور على اسمك فِ المدارس!
فضحك عمر هو الآخر بخيبة أمل ثم قال:
- تلاقيه اكتفى بالمستشفيات والمراكز وفقد الأمل بعدها..
- طب كمل..
- دخلت المدرسة عادي وبدأت أتعود على العيشة معاها لأني كده كده لسه مكنتش اتعودت على العيشة مع عمي ومعاكم.. كان كل تفكيري فِ أمي وبس، بس من فرط حنية الست دي عليا أنا نسيت كل حاجة لحد ما كبرت ودخلت الجامعة..
- مقابلتكش أي مواقف خلال الفترة دي كلها معلمة عليك لحد دلوقتي!
- بصراحة لا.. أنا كنت شخص انطوائي جدًا بحب أكون لوحدي، معرفتش أعمل صحاب وندمت جدًا على ده بعد كده بس مكنش فيه أي مواقف مأثرة عليا لحد دلوقتي..
- طب ممرتش بأي تجربة حب خلال فترة الدراسة؟
- بصراحة لا.. وكنت واخد قرار مع نفسي إن يوم ما أحب يبقى هدخل البيت من بابه..
- قرار سليم جدًا.. طب وبعد الجامعة عملت إيه؟
- محبتش أشتغل فِ المحاماة بالرغم من إن جالي فرص شغل كتير فِ مكاتب محاماة بس أنا كنت حابب شغل الشئون القانونية أكتر.. اشتغلت شوية فيها وحصلت مشكلة ومشيت وكنت بشتغل كل شوية فِ مكان غير التاني لحد ما اشتغلت فِ الكافيه..
- طب الست اللي ربيتك.. حياتك معاها كانت عاملة ازاي؟
- كانت تعبانة فِ الفترة الأخيرة قبل ما يحصل اللي حصلها ده.. بس كانت حياتنا طبيعية جدًا مفيهاش أي مشاكل..
- هي متجوزتش خالص؟!
- لا.. كانت متكفلة بتربيتي بس.
- تعبت ازاي.. يعني أقصد حصلها إيه؟
- هي كانت ممرضة وكانت بتبات فِ المستشفى كتير مناوبات، لحد ما جتلها جلطة والدكتور وقتها قال إنها اتعرضت لصدمة جابتلها جلطة..
- مقدرتش تفهم منها إيه الصدمة دي؟!
- للأسف مكانتش بتتكلم بعد اللي حصلها.
- طب أنت لما كبرت وبدأت تفهم الدنيا.. محاولتش تدور علينا؟
- الحقيقة الموضوع ده كان شاغلني طول الوقت، بس من كتر الضغط اللي كنت فيه مكنش عندي وقت أدور على أي حاجة.
- الموضوع ده بدأ يحصلك قبل ما تتجوز ولا بعد؟
- لا من قبلها بفترة..
- تمام.. بص يا عمر احنا كلنا بلا استثناء أكيد اتعرضنا ف حياتنا لمواقف صعبة وحاجات ممكن متتنسيش بس الحياة ماشية وأدينا عايشين.. ونظرًا لأنك مش بتعاني من أي مرض عضوي ومن كلامك أنا مش شايفة حاجة جامدة حصلتلك عشان ممكن تكون سبب فِ ده.. أنت لازم تجيلي باستمرار ويمكن مع مرور الوقت أقدر أحدد أنت عندك إيه بالضبط، دلوقتي أنا مش هقدر أكتبلك أي علاج غير إني هكتبلك على منوم تاخده بالليل على الساعة ١١.. لازم تاخده كل يوم عشان ميبقاش فيه أي فرصة تخرج بره البيت وترجع مش فاكر أي حاجة..
- تمام بس ياريت ميكنش له أي آثار جانبية..
- متقلقش.. تقدر تتفضل وهنتظرك تجيلي فِ ميعادك..
- تمام يا دكتورة.. شكرًا، سلام عليكم.
-  وعليكم السلام..
خرج عمر تاركًا ملك تحدق في الباب، تشعر أن هناك أمرًا كبيرًا يحيط به. فقررت أن تتصل بزميلتها الطبيبة في المصحة النفسية لتأتي وتناقش معها حالة عمر. وبعد ساعتين، وصلت الطبيبة، وصافحت ملك بحرارة، فدعتها ملك للجلوس والراحة، ثم بدأت الحديث قائلة:
- أخبارك إيه يا دكتورة فرح..
- أنا الحمدلله كله تمام.. خير يا ملك قلقتيني..
- دلوقتي أنا فِ مشكلة ومحدش غيرك هيقدر يساعدني فيها.
- مشكلة إيه خير؟
- ابن عمي عنده ٣٠ سنة.. حكايته طويلة بس أنا هختصرلك.. هو وحيد أمه وأبوه، الاتنين مش موجودين.. مقدرش أقول عليه يتيم لأنهم يكاد يكونوا لسه عايشين بس سايبينه..
- هو عايش معاكم؟
- هو جوز أختي نور..
- إيه ده والله؟
- أيوة.. اسمه الحقيقي كريم بس احنا بنقوله عمر.. أمه اختفت وأبوه قرر يستغنى عنه فبابا قرر إنه يتكفل برعياته ويربيه معانا بس صحينا من النوم فجأة لقيناه اختفى.. الكلام ده كان من أكتر من ٢٠ سنة، ويشاء القدر ويرجعلنا تاني بس بعد عُمر.. الكلام ده داخل على سنتين أهو..
- تمام وبعدين؟
- الموضوع اللي أنا عايزة أكلمك فيه إن عمر مصاب بمرض نفسي خطير وهو الفصام.
- لا ده الموضوع كبير بقى.. احكيلي من الأول..
- بصي أنا لحد دلوقتي مش متأكدة بس جوايا شكوك كتير بتقولي كده.. بس أنا هحكيلك كل حاجة من الأول..

عَالَم آخَـرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن