الــفــــصــل الـخــامـــــس
لم يكن جيل يحب العيش فى هذه القاعة المليئة بالمرايا. كانت الصور تعكس نفسها إلى ما لا نهاية, تخدع العين و العقل. كان رجلا خلاء, رجل حركة, رجل أحس نفسه و كأنه مسجون ببيت للتسلية.
لم يكن يعجبه أيضاً ما كانت تفعله فيكى بوجهها, لذلك تجهم. تجهم لنفسه ايضاً. لم يقصد ملامستها و تمنى لو لم يفعل. فقد تتسبب الملامسة بنار غير متوقعةتلتهب فيه.
كان قد قرر تجاهلها فى معظم الدور, لكنها لم تكن كما توقعها. لم تكن كذلك, اطلاقاً.
كانت خائفة من الوضع كله, كان بامكانه التحسس بذلك. و كان يعلم بأنها لن تتخلى عن العمل.
النظرة التى رمى بها وجهها العارى حيرته. كان جمالها هادئاً, بشرتها نقية, و أنفها من دون تجاعيد.
كان فمها واسعاً, كريماً و كأنما خُلق للابتسام. لكنه لم يرها تبتسم أبداً. عيناها ذاتا لون أزرق, و قد حيرتاه كثيراً.كانتا جميلتين جريئتين و بريئتين فى الوقت ذاته.
أختارت قلم كحل و بدأت برسم عينيها لطريقة مختلفة, تجعلها قاسية النظرات و أكبر سناً. أراد الأمساك بيدها مرة أخرى, أن يمنعها, لكنه لم يفعل.
حدقت فيكى بصورته فى المرآة و تلاقت نظراتهما.
"توقف عن التفرس بي, على كل حال, ماذا تفعل هنا؟ هل سمعت يوماً عن وجوب طرق الأبواب قبل الدخول؟"
عقد ذراعيه مرة أخرى و رفع حاجباً باستغراب. "لقد قرعت الباب و ناديتك أيضاً. كانت المياه جارية فلم تسمعى. لم تقفلى باب غرفتك و لم تغلقى هذا الباب."
رمته بنظرة مليئة بالشك ثم أنهت وضع الكحل. راقبها و هى تضع الماسكرا مغطية بنعومة أهدابها بطبقة سوداء سميكة, أغاظه منها هذه المعاملة له. لم لا تضعه فى المرتبة نفسها مع روتش و ليفرينغهاوس؟
قال و هو يهز كتفيه بلا مبالاة: "إذن, هل تريدين أن نتعارف بشكل أفضل؟ ليس جسدياً. قد يفيد ذلك....."
فسألته باستغراب: "يفيد ماذا؟"
فأجاب: "يبدو كل ذلك وكانه يثير أعصابك." و نظر إليها من رأسها إلى أخمص قدميها.
رفعت إحدى كتفيها: "ومن هو الذى لا تثار أعصابه؟"
"ليست هذه هى الطريقة المثلى لقضاء الأعياد. إنك تتصرفين مثلها."
قال ذلك عابساً ثم صحح ما قاله "لاــ يمكنك جعل نفسك تتصرفين مثلها. تفعلين على المسرح, إنما لا يجب أن تكونى عصبية هنا."
"هذا ليس المسرح."
"قال شكسبير إن كل العالم هو مسرح."
فأجابت فيكي: "لا أعلم ماذا قال شكسبير لست من النوع المسرحى."
"أنت ممثلة."
هزت كتفيها مرة أخرى, بطريقة تشبه الازدراء مما جعله يلاحظ كما كانت كتفاها ناعمتين و ذهبيتين.
"لا. لست كذلك. أنا أبدو مثلها -هذا شئ تعلمته فحسب- خدعة, كتحريك آذنيك."
فهز رأسه متشككاً. "يقولون أنك عملت فى نادٍ."
"هذا صحيح. هلا كففت عن التفرس بيّ. إنك تثير أعصابى."
"آسف." و استدار ينظر إلى الفخامة الشرقية فى غرفة النوم. لم يكن يعجبه الوجه الجديد الذى كانت تضعه, على كل حال كان يبحث عن آثار للوجه القديم.
و سألها: "لماذا إذن تقومين بذلك؟" و تابع و هو ينظر إلى الطاووس المذهب على غطاء السرير الحريرى. "لا اظنك تبحثين عن فرصتك فى هذا الزمان؟"
"كلا." قالت ذلك بقوة و تأكيد شديدين حتى أنه لم يستطيع منه نفسه من النظر إليها مجدداً.
كان الوجه الجديد أكبر سناً و أناقة من وجهها الحقيقى, وجه مقبول تماماً لكن ليس وجهها. "ليس هذا بطاقتك إلى النجومية؟ و تابع بإصرار: "ما هو إذن؟"
قالت فيكى و هى تربط شعرها على شكل ذيل حصان: "العكس تماماً, آخر ما أطلبه هو أن أصبح نجمة. أريد الأنتهاء من هذا العمل, أعذرينى."
بينما كانت تمر من قربه, لمست كتفها العارى كم قميصه. فاح أريج عطر كاريسا الغالى الثمن وراءها و علق فى فتحتى أنفه. بينما اتجهت هى نحو الخزانة و أخرجت منها قميصاً أزرق فضفاضاً و أرتدته فوق الثوب الحريرى.
و سألت و هى تزرر القميص إلى أعلى عنقها. "أننى أتضور جوعاً, هل يوجد طعام هنا؟"
رمقها جيل بنظرة شاملة, مع أن وجهها بدا مصطنعاً و شعرها جعلها تبدو أكثر قسوة إلا أن جسدها ذكره بمراهقة متنكرة برداء أمها و قميص والدها, كانت ترسل أشارات متناقضة أكثر مما فعلت أى امرأة قد عرفها من قبل.
و قال: "يوجد مطبخ, لكن لا يوجد طباخ, يوجد بار صغير ." و تابع مبدلاً الحديث. "عندك احساس غريب بالأناقة. إذا كنت لا تمانعين من قولى هذا."
"هذه ليست ثيابى, أنا سجينة ملابسها هذه." قالت فيكى ذلك مدافعة عن نفسها, و هى تنظر إلى قميصها الفضفاض. ماذا عن البرادات, هل هناك شئ يشبه الساندويش فى احدها؟"
"شئ يكاد يشبه الشاندويش," توجه نحو باب غرفة الجلوس و فتحه, مشيراً برأسه داعياً إياها للدخول. "إن كاريسا و شاندلر مغرمان بالطعام الصحى. هيا, يمكنك الحصول على بعض حبوب الفاصوليا و بعض القشدة."
غرقت كتفى فيكى بتعاسة. "تعنى أنه لا يوجد طعام حقيقى؟ علينا تناول طعام صحى لخمسة أيام, قد أموت جوعا."
التوى فم جيل قليلاً. "إنه جزء من الوهم. لو كان شاندلر و كاريسا هنا لكانا طلبا بالطعام الموجود هنا. هيا, ما الضرر فى القليل من عصير اللفت؟"
علا اليأس وجهها المزين بدقة: "الأمة كلها على وشك تناول ديك الحبش و التوابل." بدت وقفتها مثيرة للشفقة, و كُما القميص الفضفاض يتدليان حتى أطراف أصابعها جاعلانها تبدو مزيج مربكاً من امرأة و مراهقة.
و حذر جيل نفسه, كف عن التفرس بها كما و كأنها كانت مخلوقة رائعة.
و تمتم قائلاً: "أجلسى. تريدين زبدة الفستق و ساندويش مربى. بعض قطع الجزر؟"
و أشرق وجهها: "زبدة الفستق و المربى؟"
ردة فعلها جعلته يغير رأيه من جديد فيها. قال لنفسه إنها طفلة, طفلة غير خبيرة و عمله هو إرشادها عبر هذه المتاهة.
و كرر: "أجلسى, سوف أقوم به. لست معتاداً على الحبس فهذا يجعلنى كثير الحركة."
جلس بتأنى على طرف الأريكة اليونانية. جهز لها سندويش, و وضع فى داخله بعض قطع الجزر.
فقالت عندما جهز كل شئ على الطاولة الصغيرة قربها: "شكراً لقد أنقذت حياتى."
بدا السندويش غير شهى, لكنها أكلته بنهم.
و قالت: "لا يمكننى التصديق أنهما يأكلان هذا. طعام صحى فقط؟ هل هكذا حقاً يعيش الأناس الفاتنون؟"
هز رأسه بالايجاب, "اجل. لأنهم يريدون البقاء فاتنين إلى الأبد. أخبرينى الآن, لماذا تقومين بهذا؟ إذا كنت غير مهتمة بالعمل الاستعراضى."
فقالت بحزم: "لا أريد أن أكون فى العمل الاستعراضى. إننى أقوم بذلك من أجل المال, هذا كل ما فى الأمر. لا أدرى متى أستطيع الخلاص و الهرب بعيداً عن مثل هذا الجنون."
أنهت آخر قطعة من الجزر و مسحت يديها, كانتا يدين جميلتين و قد تذكر جيل كيف أنها مررتها بخجل حول خصره.
"الهرب؟ من أين؟ وإلى أين؟"
فقالت بصوت مدافع مرة أخرى: "غوسبورغ, نيو جيرسى."
لم يستطيع منع نفسه من الضحك, بدت و كأنها أهينت, فسألته: "ما الذى يضحك؟"
"تذهب الفتيات الجميلات إلى برودواى أو هوليوود أو حتى هنا -فيغاس- ليس إلى غوسبورغ, نيو جيرسى. ماذا يوجد فى غوسبورغ؟"
فقالت بنفس اللهجة: "صالون للتجميل. و بوتيك حيث يمكن للنساء تجميل وجهوههن و شراء المستحضرات."
"سوف تشترين هذا المكان؟"
فقالت ببرود: "كلا. سوف أكتفى بالعمل فيه. لقد حلمت دائماً بالعيش فى مكان يدعى غوسبورغ."
نفضت بعض فتات الخبز عن ثيابها, ثم نهضت و اتجهت نحو النافذة, حيث وقفت تنظر إلى الصحراء خلف حدود المدينة.
"لماذا تحتاجين المال؟ للعمل؟ العكس هو الصحيح دائماً, الناس يعملون للحصول على المال."
فقالت دون أن تنظر إليه: "علىّ إنهاء بعض الدروس. ثم أقوم ببعض التدريب و أشياء أخرى من هذا القبيل, للعمل فى مكان كهذا. لديهم شروط هى أن اتمرن لستة أشهر و لا أقبض خلال فترة التمرين. لا يمكنك الحصول على كل شئ فى وقت واحد."

أنت تقرأ
روايات احلام/ عبير:التظاهر
عاطفية"لتحب و تحترم......" تركزت نظرة الكاهن على فيكى! و أخذت إنطباعاً باهتاً فى أنه سألها أن تتعهد بالحب و احترام الرجل الواقف إلى جانبها. أومأت برأسها و هى تشعر بعدم إستطاعتها الكلام. شد جيل على يدها. "أجل أتعهد." أستطاعت أخيراً أن تقول. و من مكان ما زع...