صباح شتوي ، هواء مصحوب بقطرات مطر باردة تحاول العبور من بين شقوق تلكَ النافذة الصغيرة ،
لكنها لم تنجح بذلك ، فنتج عن محاولاتها تلك لحنا متناغما على زجاج النافذة وكأنها تتراقص محاولة اختراقه بكل ما أوتيت من قوة ..
تحت النافذة يستلقي ذاك السرير ذو الغطاء الحريري على الأرضية الخشبية ، بجانبه مكتب مرتب يتمسك به كرسي بسيط الطراز ، فوقه رفوف صغيرة معلقة على الجدار، تحوي بعض الكتب صغيرة الحجم ، لوحات لطيفة لرسامة مبتدئة تملأ المساحة الخالية من الجدران ، تزينها وتضفي عليها رونقا فنيا جميلا ،
سجاد أحمر ينسدل على الأرضية يخفيها بين ثناياه ، محاولا تدفئتها ،تعانقه الأرضية في تآلف ومودة ،
في الزاوية ترى مرسما مركونا هناك ،حوله مجموعة من أدوات الرسم ،فرشاة ،ألوان ،لوحات غير مكتملة ، وأكواب ماء مصطفة أمام المرسم ...
فوق الأريكة ينام كمان أسود اللون في هدوء وسلام ،حوله دفاتر النوتة تتراقص داخلها أحرف الموسيقى وتملأ المساحة البيضاء منها ...
الساعة 06:00 صباحا ، الشتاء خارجا يتمادى في السقوط ، بلل الأرض الدافئة ، جعل أوراق الأشجار تتثاقل في رفع نفسها ، كل شيء هادئ ...!
يقطع ذاك الهدوء صوت ذلك المزعج الصغير الذي يدعى بالمنبه فوق المكتب ...
أووه يبدو أن أحدا نائم فوق السرير ،وقد أزعجه صوت المنبه ، تمد يدها في تباطئ لتضغط على زر الإيقاف ، فيسود الصمت من جديد داخل الغرفة ، ترفع الغطاء عن وجهها ،تفتح عينيها بتثاقل ، تحدق في السقف لبرهة من الزمن تعيد أفكار عقلها وتستعيد ذاكرتها ، تزيل الغطاء وترفع جسدها الهزيل ببطئ ، تنزل قدميها من أعلى السرير لتتصافحا مع ذاك الحذاء الدافئ المصنوع من الصوف وردي اللون ، تنهض متجهة نحو حمام الغرفة ، تفتح بابه ، تقابل عينيها المرآة المعلقة ، تحدق بذلك الوجه المنعكس عليها ، انها ذات بشرة بيضاء اللون كالثلج ا تتناثر أعلى خذها حبات الرمل والتي تدعى ب "النمش" لتفقد اللون الثلجي صفاءه ،لون عينيها مزج بالأسود والأبيض ، لتثور عاصفة رمادية داخل بؤرة عينيها ، أنفها صغير ينحدر في انسجام مع شكل وجهها ، رافعا شفتيها ذواتا لون حبات الكرز ، لها شعر طويل أسود كالليل ، منسدل بشكل مهمل ، يديها تتميز بتلك العروق البارزة أعلاها وكأن لها جلدا شفافا ،لها جسد متوسط الطول ، هزيل بعض الشيء ، لكنه يجعلها ذات قوام جميل وهيئة جذابة ....
تفتح صنبور الماء لتندفع قطراته الباردة تلفح يديها في قسوة ، تغسل وجهها وتفرك عينيها ،ترفع وجهها مرة ثانية تلامس بظهر يديها الباردتين بشرتها الدافئة ، نظرة حزن غامضة ترافق جمال تلك العينين الرماديتين ....
تزيل الستارة وتفتح النافذة ليقتحم الهواء البارد الغرفة ويفسد راحة الأشياء داخلها ، تترامى أمام عينيها أشجار الحديقة وأرضيتها وقد تأنقت بردائها الأبيض الثلجي ، تأخذ نفسا عميقا ثم تعاود إغلاق النافذة ...
تفتح باب خزانة الملابس ، تختار فستانا أسود اللون يصل أسفل ركبتيها ، فوقه معطف أسود أيضا ، تقحم قدميها الصغيرتين داخل حذاء شتوي دافئ يصل ركبتيها ، أمام المرآة تترك شعرها الأسود منسدلا على ظهرها ، تضع فوقه تلك القبعة السوداء وتضع نظاراتها السوداء أيضا ، تنظر الى شكلها نظرة أسى ثم تغادر الغرفة ....
تخط خطاها الى نهاية ذاك الدرج الطويل ، الضجة تملأ المكان ، الكل يرتدي الثياب السوداء ، البعض يتهامس في حزن شديد ، والبعض يتحرك هنا وهناك في توتر ...
على وقع أخر خطوة لها من الدرج تتجه نحوها سيدة في العقد الرابع من عمرها ، ترتدي ثيابا رسمية سوداء اللون تبدو الطيبة مختلطة بحزن على ملامح وجهها ذو التجاعيد الخفيفة ، تعانقها في حنان وتمسح على رأسها في لطف مخاطبة إياها :
"صغيرتي ، كيف أصبحتِ ، أتمنى أن تكوني قد نمت جيدا "
تنسدل دمعةة من عينيها لتتابع :
"آسفة لما حدث ، لقد كانت فاجعة لكنني واثقة أنكِ ستتخطين كل هذا بإذن الله "
تومئ لها ذات العينين الرماديتين بابتسامة باهتة ، تمسك السيدة يدها وتسحبها ثم تخاطبها قائلة :
"هيا الفطور جاهز ، يجب أن تأكلي شيئا ، لن أسمح لكِ بإهمال صحتكِ ولا أقبل أي اعتراض "
لم يكن لها سوى القبول والإنصياع لها ، ثم توجهتا معا نحو المطبخ تحت الأنظار الحزينة والشامتة أيضا ...
لا شك أنكم تتساءلون لِم الحزن يخيم على المكان ، ولِم تلك الثياب السوداء ... لنذهب إلى بطلتنا الجميلة ونغوص معا في أعماق تلك النظرة الشاردة التي راودت عينيها المحدقة بصحن الطعام ...
"اسمي "ميرال" لا أدري معنى اسمي بالتحديد لكنني أعتز به ، أحبه بشكل هستيري ، أعشق الأحرف المكونة له ، لقد كان أبي من سماني هذا الإسم المختلف ، كان مميزا لي عن باقي الأسماء العادية الأخرى ...
أنت تقرأ
العــاصــفـة الـرمــاديــة
Romanceلا تشعر بالإنتماء إلى أي مكان ... تائهة وخائفة من المستقبل المجهول ... صامدة في وجه الصعوبات ،، تقاوم وتقاوم ، ولا تقبل الإستسلام .. تبحث عن ذاتها ، عن أصلها ، عن هدفها ، عن من يزرع الأمان بقلبها .. مختلفة واستثنائية رغم سواد الحياة في عينيها ... أق...