في الذاكرة ...!
"اسمي "ميرال"
لا أدري معنى اسمي بالتحديد لكنني أعتز به ، أحبه بشكل هستيري ، أعشق الأحرف المكونة له ، لقد كان ابي من سماني هذا الإسم المختلف ، كان مميزا لي عن باقي الأسماء العادية الأخرى ...عشت طول سنوات عمري الواحدة والعشرون تحت ظلال دفء وحنان لا متناهيان ، أنا الإبنة الصغرى لأسرة تتكون من أب وأم وأخ أكبر مني بخمس سنوات ، كنا أسرة متآلفة ، كانت أمي سيدة جميلة جدا وقد ورثت عنها رمادية عيناي ، طيبة إلى الحد الذي لا حد له ، ربتني على تحمل المسؤولية منذ طفولتي ، كانت تعشق فن الطبخ لطالما أذهلتنا بأطباقها الشهية التي لا يمكن القول عنها إلا أنها طبخت على يد طباخ ماهر ، كما كانت رسامة موهوبة ذات حس فني وهذا شيء ورثته عنها أيضا ..
أبي كان رجل أعمال كبير يسوده هدوء وطيبة عجيبة ، حنون ومتفهم ، وقد كان المحفز الأول لي في تحقيق أحلامي ، رغم أمواله الطائلة إلا أنه كان يتسم بالتواضع والحياء الذي يجعل حوله هيبة عظيمة ...
أخي ، إنه المثل الأعلى بالنسبة لي ، ورث عن أمي العينان الرماديتان أيضا ، كما أخذ من أبي الوسامة المتواضعة ، أفنى عمره في دراسة الطب النفسي ،هاجر البيت ليتابع دراسته خارج البلاد ليصبح بالنهاية طبيبا نفسيا مشهورا ...
هذه هي عائلتي الصغيرة لا أملك شيئا غاليا أكثر منهم .."لكن وأسفا الأشياء الجميلة والغالية لاتدوم طويلا"
عادت بطلتنا إلى الواقع بعد سماحها لنا بمقابلة أفراد أسرتها الصغيرة ...
تحدق بطبق الطعام بوجه خالي من أي تعبير ، تلحظها تلك السيدة الطيبة ،فتقترب منها وتطبطب على كتفها في حنان قائلة :
"صغيرتي ، أعلم أن الأمر أقسى من أن نتخطاه بسهولة ، لكن لا يجب الإفراط في التفكير به فما حدث كان قدرا وليس بيدنا حيلة "
رفعت عينيها المليئة بالعبرات لتنظر إليها في آسى وحزن شديدين ، لتتابع السيدة كلامها :
"هيا عزيزتي يجب إنهاء هذا الطعام أولا ، ثم سنتجهز للذهاب إلى مراسم الدفن "
ضغطت على يديها المرتعشتين في حنان ثم انسحبت لمتابعة أعمال المطبخ ..
تحرك الملعقة في شرود ، تتصارع الأفكار داخل رأسها الصغير ، تتمتلئ عينيها بالدموع من جديد ، تترك المكان متوجة إلى الحديقة ...
كانت الحديقة متقنة التصميم ، ذات ذوق رفيع في تَراتب أشجارها و ورودها ، كل شيء فيها كان نائما في هدوء مخيف ،بلاط الأرض قد ارتدى ذاك الرداء الأبيض الثلجي ، صوت حفيف الأشجار كان أشبه بصوت أنين متألم محتضر ، الورود تعانق بعضها في خوف وحذر وتنكمش على بعضها ، يبدو أن الحديقة أعلنت الحداد مواساة لبطلتنا الصغيرة ...
تتوسط الحديقة شجرة متدلية الفروع ، ضخمة الجدع ، مختلفة عن باقي الأشجار ...
أسفلها يرقد كرسي خشبي ، أطرافه قد تربعت داخل الأرض إثر قِدم وجوده هناك ...
تقترب ميرال منه بخطى متثاقلة ، كأنها تجاهد في سبيل الوصول إليه ، عينيها لا تكف عن البكاء ،نسمات الهواء الباردة تطاير شعرها الأسود وتلفح جسدها الهزيل ، تقترب وتقترب ،كثير من الذكريات تتصارع وتنهش عقلها، كلما اقتربت يشتد نحيبها ، تعثرت قدماها المرتجفتين فينهار جسدها أرضا وتضع رأسها على طرف ذاك الكرسي ،ترفع عينيها الذابلتين ،تنظر لشموخ الشجرة العظيم تنزل عينيها ببطئ الى أن يتركز نظرها على تلك الخطوط المحفورة فوق الجدع ، تنهض بتعب ، تتمايل بضعف ، تتمسك بالكرسي ، لتلمس الخطوط بطرف أصابعها ، فتغمض عينيها ،تنحدر دموعها الساخنة على خذها البارد لتعود بذاكرتها إلى الماضي ...
ـــــــــــ
الحديقة نفسها ، المكان نفسه ، الكرسي والشجرة أيضا ، الجميع كان يرقص في بهجة وفرح ، كان الرداء هذه المرة ربيعيا مزركشا بألوان السرور ...
سيدة ترتدي فستانا أنيقا ،ذات الشعر الأسود المتطاير مع نسمات الهواء المشاكسة ، تجلس على ذاك الكرسي ، بيدها لوحة وفرشاة ، كانت منشغلة برسم المنظر البهيج أمامها ، تتقدم نحوها تلك الطفلة ذات الوجه البريء وضحكاتها تملأ المكان ...:"أمي ، أمي ماذا ترسمين هذه المرة ، هيا أرني أرجووك"
ترفع السيدة نظرها من لوحتها لتخاطب صغيرتها بحب :
"أيتها المشاكسة على مهلك ستقعين ،أما اللوحة فلن تري شيئا منها إلا عند انتهائها "تمد الصغيرة شفتها السفلى في حزن مصطنع ،ثم تقفز فرحا من جديد وتجلس قرب أمها قائلة بتساؤل :
"حسنا لكِ ذلك ، لكن ألم تلاحظي على ابنتكِ الجميلة شيئا ما ؟ "
عقدت الأم حاجبيها في تعجب قائلة :
"مثل ماذا ياحبة الكرز .!!"
قالت ذلك وهي تقرص طرف أنف صغيرتهاتبعد الفتاة يدي أمها لتنهض من مكانها ،وتلف حول نفسها بذلك الفستان القصير بلون الشمس المشع ، ثم تخاطب أمها قائلة بتفاخر ممازحة :
" يبدو أن قوة نظركِ بدأت تضعف يا أمي العزيزة "
ثم ضحكت مكملة :"أمي لقد بدأت قامتي تطول ،ولم يعد هناك شيء يقلقني وسأصبح طويلة كعارضة الأزياء التي أخبرتك عنها "
قهقهت الأم بخفة لتقول :
"أووه صغيرتي كبرت وأنا ليس لي علم بالأمر "نظرت لها الفتاة بغضب واقتربت منها قائلة :
"أيجب أن تحطمي آمالي هكذا ، بدل أن تفرحي من أجلي "تضع الأم لوحتها على الكرسي ،تنهض متجهة نحو ابنتها ، تشدها إليها وتضمها في حنان ، تمسح على شعرها الأسود ...:
"جميلتي الصغيرة ، لقد فرحت لهذا الأمر كثييرا ، ستصبحين أطول مني أيضا ،أنا راضية عنكِ فطولك هذا يدل على اهتمامكِ بصحتك "
ارتسمت ابتسامة فرح على محياها وهي تنظر الى عيني أمها ، أضافت :
"أجل أعدكِ أنني سأهتم بصحتي جيدا ولن أهملها، يكفي أن أطول كتلك العارضة "
ضحكت الأم على براءة طفلتها ، ثم أبعدتها عنها ، ثم سحبتها باتجاه الشجرة ، تقفان أمامها ثم تنظر الأم لابنتها وتنحني لتأخذ غصنا منكسرا على الأرض ، ثم تخاطبها :
"صغيرتي هيا قفي موالية ظهركِ للشجرة "
وقفت الفتاة وهي تنظر لأمها بتعجب ،ثم بدأت أمها بنحت خط على جدع الشجرة في المكان الذي يصل اليه طولها ، تضغط عليه أكثر ليصبح محفورا ، ثم خاطبتها :
"امممم هكذا ، كل فترة سنضع خطا لكِ على هذه الشجرة لنرى كم تزدادين طولا ، حسنا صغيرتي "
ابتهجت الطفلة وبدت على ملامحها البريئة السعادة المطلقة ،وعانقت أمها قائلة :
"حسنا أمي اتفقنا ، أنا سعيدة جدا بذلك "
ـــــــــــ
تعود إلى الحاضر ، ويديها لا زالتا تتحسسان الخطوط المحفورة ،تغمض عينيها بمرارة لتسقط عبراتها الساخنة كالشلال المنهمر ، تهب رياح قوية تحرك الأشجار وتصدر صوت همهمات ، تخور قواها لينهار جسدها الهزيل جانب الشجرة ،وتضم قدميها إلى صدرها وتنتحب ببكاء شديد .......
ِ
أنت تقرأ
العــاصــفـة الـرمــاديــة
Любовные романыلا تشعر بالإنتماء إلى أي مكان ... تائهة وخائفة من المستقبل المجهول ... صامدة في وجه الصعوبات ،، تقاوم وتقاوم ، ولا تقبل الإستسلام .. تبحث عن ذاتها ، عن أصلها ، عن هدفها ، عن من يزرع الأمان بقلبها .. مختلفة واستثنائية رغم سواد الحياة في عينيها ... أق...