تـِيــهٌ مُخـِـيــف ...!

58 6 1
                                    

بعيدا عن النظرات العابسة والمليئة بأحاسيس الشفقة ، بعيدا عن زحمة الناس حولها وهي فاقدة الوعي ...

يتقدم ذاك الشرطي باتجاه النائب العام المسؤول عن الحوادث ، بعد أدائه التحية ، مخاطبا إياه :

"سيدي ، يبدو أن هناك أمرا يثير الشك في هاته القضية ،بعد دراستنا وتحليلنا لسيارة الحادث اتضح انها كانت تحوي ثلاثة أشخاص داخلها لحظة وقوع الحادث ، لكن تم العثور على جثة السيد والسيدة "يوكي" فقط ..."

أشار النائب برأسه متفهما ثم رد قائلا :

"أجل أعلم هذا ،لقد تحريت الأمر عن قرب ، بعد حديثي مع شرطة الطريق السريع  ، علمت أنهم كانوا ثلاثة أشخاص داخل السيارة عند انطلاقهم ، كما أنني اطلعت على الهويات لأجد أن الشخص الثالث قد كان ابن السيد "يوكي" ... اي الطبيب النفسي المشهور أمير سيف يوكي "
ختم النائب كلامه بنظرة غامضة ، ثم أضاف مكملا :

"أخشى أنه حادث مدبر ...!!"

أومأ له الشرطي بتفهم مخاطبا إياه :

" اذا سيدي علينا التحقق من الأمر ،بل ويجب فتح قضية تحقيق بشأن هذا ، لكن تواجهنا مشكلة فالشخص الوحيد القادر على مساعدتنا هو تلك الفتاة المسماة ب "ميرال" أي ابنة السيد "يوكي" "
قال ذلك وعلامات الشفقة واضحة على محياه مضيفا :

"فكما ترى سيدي الفتاة منهارة تماما لوفاة والديها معا فكيف ستكون ان علمت أن أخاها أيضا كان معهما ، والأسوأ من ذلك أنه مفقود وغير معروف ان كان حيا او ميتا ..."

رد عليه النائب بجدية :

"يجب التريث قليلا ، فلا يمكن المجازفة بنفسيتها ، فكما علمت مؤخرا أنها كانت متعلقة بوالديها بصورة غير طبيعية وهذا شيء سيعيق عملنا "

ثم ابتسم بوجه الشرطي مكملا :

" سنتحاور بالموضوع بشكل مفصل فيما بعد ، كذلك سنأخذ إفادة الآنسة "ميرال" بعد تقبلها للأمر ..."

أومأ الشرطي له ثم التفت عائدا الى عمله ...

                                           ــــــــــــــــــ  

في ركن تلك الغرفة البيضاء ، يقبع جسد تلك الجميلة البائسة في استسلام ويأس كبييييير ..
نائمة دون حراك أو استجابة منذ يومين ، تعيش على قوت الأجهزة طول تلك الفترة ...
الأطباء يحاولون مستثمرين أقصى مجهوداتهم من أجل جعلها تستيقظ ، لكن بدون جدوى ...

مكان أشبه بالجنة ، كل شيء مبهر وفاتن ، الورود تملأ الأرضية ، والنسيم العليل يرفرف في علو وزهاء ، بحيرة ماء عذب صافٍ تتوسط المكان ، تقترب "ميرال" محدقة بذهول في كل شي حولها ، تنظر إلى انعكاس صورتها على سطح الماء لتبتسم بفرح لرؤية ملامحها واضحة بفعل زرقة وصفاء المياه بتلك البحيرة ، لا تزال تحدق بالانعكاس فجأة ترى ظلالا وراءها قد تكونت ملامحهم على سطح البحيرة جانبها ، يتضح أنها ملامح والديها ، لتصرخ ميرال بفرح وتستدير بسرور إليهما ، تمد يديها لملامستهما ، لكن فجأة تتعالى صرخات مرعبة ، تمسك رأسها برعب وفزع شديد ، تلتفت ناحية والديها طالبة النجدة والأمان ، تلحظ أن ظلهما بدأ بالتلاشي مبتعدا عنها إلى اللا شيء ، تصرخ مندفعة للتمسك بهما ، لكن كلما لامست طرفا منهما يتحول إلى ضباب ويختفي بين يديها ، تراقبهما بأعين دامعة متحسرة وهما يبتعدان شيئا فشيئا ،
تلتفت للصوت الآتي من خلفها ، لتقابل عيناها عين أخيها الذي اعتلت وجهه ابتسامة حب وشوق عريضة ، تندفع ميرال بكل قوتها نحوه لترتمي بين أحضانه وهي تصرخ بتلك الجملة وتعيدها مرات ومرات :

"أرجوكَ أخي لا تتركني وحيدة ، لا تبتعد ابق بجانبي لم يعد لي أحد غيرك "

صوت شهقاتها يملأ المكان ، تكاد تختنق بين أحضانه ، شعور الحزن الشديد المختلط بقليل من السعادة ، كان أجمل شيء يحدث معها خلال تلك الفترة المميتة ...

يبعدها عن حضنه ، ماسحا عن وجهها آثار البكاء المحفورة فوقه ،مخاطبا إياها وهو يمسح على رأسها :

"صغيرتي كوني قوية ..."

للحظة شعرت أنه بكلماته تلك كان يودعها ، تمسكت به أكثر وهي تصرخ ب :
             "أرجوووك لا تتركني "
ليتحول بين يديها إلى فتات ضبابي ويختفي في الهواء ،
علامات الصدمة والقهر بادية على ملامحها ، تشهق بصرخات ألم وكأنها تحتضر ، تغلق عينيها وأذنيها بكلتا يديها ، ثم تصرخ صرخة مدوية تجعلها تنتفض من ذاك الحلم الجميل المخيف المؤلم ، لتسقط بحضن تلك السيدة الطيبة جانبها وهي تعانقها وتمسح على شعرها قائلة :

"لقد زال ، زال البأس صغيرتي ، شششش اهدئي ، أنا هنا معكِ ، كان كابوسا مزعجا فقط .."

ترفع عينيها وهي تحدق بها بوجه خال من أية تعابير ، ثم تتشبت بثيابها هامسة بصوت ضعيف منكسر :

"لا تتركيني أنتِ أيضا .."

ثم تغفو في حضنها بتعب شديد ....

                                                ـــــــــــــ

مر شهر على تلك الفاجعة ، وميرال لا تزال تقبع داخل غرفتها ، قاطعت دراستها بالجامعة ، تسستيقظ وتنام على صوت علبة الموسيقى جانب سريرها والتي كانت اخر هدية من أمها لها ، تظل محدقة بالسقف دون أي حراك ، هجرت كمانها ، وعزفت عن الرسم والمطالعة ، أصبحت جثة هامدة يعلو صدرها ويهبط فقط ، اكتسحت الكآبة المنزل وحوطت جميع أركانه ، ذبلت الحياة في عينيها ذواتا الهالات السوداء تحتهما ، جسدها الهزيل كان ليتعفن ويموت لولا اهتمام تلك السيدة الطيبة بعد صراعات ومعاناة طويلة معها ، اليأس قد عانقها والاستسلام قد اتخذها جليسة له يلقنها أفضل الدروس في التخلي عن كل شيء يربطها بالحياة ، كوابيس وأحلام مخيفة تزعج نومها الخفيف ، أصبحت شبه ميتة تعامل الجميع بقسوة لا متناهية والصراخ صار أمرا عاديا يسمع داخل ذاك المنزل ، طرد البعض من الخدم والبعض الآخر قدم استقالته لسؤمه من تلك الحالة المزرية ، لتظل الصغيرة البائسة وحيدة أكثر ، تتحملها تلك السيدة الطيبة فقط والتي لم ولن تتركها قط ...

العــاصــفـة  الـرمــاديــة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن