بعيدا عن النظرات العابسة والمليئة بأحاسيس الشفقة ، بعيدا عن زحمة الناس حولها وهي فاقدة الوعي ...
يتقدم ذاك الشرطي باتجاه النائب العام المسؤول عن الحوادث ، بعد أدائه التحية ، مخاطبا إياه :
"سيدي ، يبدو أن هناك أمرا يثير الشك في هاته القضية ،بعد دراستنا وتحليلنا لسيارة الحادث اتضح انها كانت تحوي ثلاثة أشخاص داخلها لحظة وقوع الحادث ، لكن تم العثور على جثة السيد والسيدة "يوكي" فقط ..."
أشار النائب برأسه متفهما ثم رد قائلا :
"أجل أعلم هذا ،لقد تحريت الأمر عن قرب ، بعد حديثي مع شرطة الطريق السريع ، علمت أنهم كانوا ثلاثة أشخاص داخل السيارة عند انطلاقهم ، كما أنني اطلعت على الهويات لأجد أن الشخص الثالث قد كان ابن السيد "يوكي" ... اي الطبيب النفسي المشهور أمير سيف يوكي "
ختم النائب كلامه بنظرة غامضة ، ثم أضاف مكملا :"أخشى أنه حادث مدبر ...!!"
أومأ له الشرطي بتفهم مخاطبا إياه :
" اذا سيدي علينا التحقق من الأمر ،بل ويجب فتح قضية تحقيق بشأن هذا ، لكن تواجهنا مشكلة فالشخص الوحيد القادر على مساعدتنا هو تلك الفتاة المسماة ب "ميرال" أي ابنة السيد "يوكي" "
قال ذلك وعلامات الشفقة واضحة على محياه مضيفا :"فكما ترى سيدي الفتاة منهارة تماما لوفاة والديها معا فكيف ستكون ان علمت أن أخاها أيضا كان معهما ، والأسوأ من ذلك أنه مفقود وغير معروف ان كان حيا او ميتا ..."
رد عليه النائب بجدية :
"يجب التريث قليلا ، فلا يمكن المجازفة بنفسيتها ، فكما علمت مؤخرا أنها كانت متعلقة بوالديها بصورة غير طبيعية وهذا شيء سيعيق عملنا "
ثم ابتسم بوجه الشرطي مكملا :
" سنتحاور بالموضوع بشكل مفصل فيما بعد ، كذلك سنأخذ إفادة الآنسة "ميرال" بعد تقبلها للأمر ..."
أومأ الشرطي له ثم التفت عائدا الى عمله ...
ــــــــــــــــــ
في ركن تلك الغرفة البيضاء ، يقبع جسد تلك الجميلة البائسة في استسلام ويأس كبييييير ..
نائمة دون حراك أو استجابة منذ يومين ، تعيش على قوت الأجهزة طول تلك الفترة ...
الأطباء يحاولون مستثمرين أقصى مجهوداتهم من أجل جعلها تستيقظ ، لكن بدون جدوى ...مكان أشبه بالجنة ، كل شيء مبهر وفاتن ، الورود تملأ الأرضية ، والنسيم العليل يرفرف في علو وزهاء ، بحيرة ماء عذب صافٍ تتوسط المكان ، تقترب "ميرال" محدقة بذهول في كل شي حولها ، تنظر إلى انعكاس صورتها على سطح الماء لتبتسم بفرح لرؤية ملامحها واضحة بفعل زرقة وصفاء المياه بتلك البحيرة ، لا تزال تحدق بالانعكاس فجأة ترى ظلالا وراءها قد تكونت ملامحهم على سطح البحيرة جانبها ، يتضح أنها ملامح والديها ، لتصرخ ميرال بفرح وتستدير بسرور إليهما ، تمد يديها لملامستهما ، لكن فجأة تتعالى صرخات مرعبة ، تمسك رأسها برعب وفزع شديد ، تلتفت ناحية والديها طالبة النجدة والأمان ، تلحظ أن ظلهما بدأ بالتلاشي مبتعدا عنها إلى اللا شيء ، تصرخ مندفعة للتمسك بهما ، لكن كلما لامست طرفا منهما يتحول إلى ضباب ويختفي بين يديها ، تراقبهما بأعين دامعة متحسرة وهما يبتعدان شيئا فشيئا ،
تلتفت للصوت الآتي من خلفها ، لتقابل عيناها عين أخيها الذي اعتلت وجهه ابتسامة حب وشوق عريضة ، تندفع ميرال بكل قوتها نحوه لترتمي بين أحضانه وهي تصرخ بتلك الجملة وتعيدها مرات ومرات :"أرجوكَ أخي لا تتركني وحيدة ، لا تبتعد ابق بجانبي لم يعد لي أحد غيرك "
صوت شهقاتها يملأ المكان ، تكاد تختنق بين أحضانه ، شعور الحزن الشديد المختلط بقليل من السعادة ، كان أجمل شيء يحدث معها خلال تلك الفترة المميتة ...
يبعدها عن حضنه ، ماسحا عن وجهها آثار البكاء المحفورة فوقه ،مخاطبا إياها وهو يمسح على رأسها :
"صغيرتي كوني قوية ..."
للحظة شعرت أنه بكلماته تلك كان يودعها ، تمسكت به أكثر وهي تصرخ ب :
"أرجوووك لا تتركني "
ليتحول بين يديها إلى فتات ضبابي ويختفي في الهواء ،
علامات الصدمة والقهر بادية على ملامحها ، تشهق بصرخات ألم وكأنها تحتضر ، تغلق عينيها وأذنيها بكلتا يديها ، ثم تصرخ صرخة مدوية تجعلها تنتفض من ذاك الحلم الجميل المخيف المؤلم ، لتسقط بحضن تلك السيدة الطيبة جانبها وهي تعانقها وتمسح على شعرها قائلة :"لقد زال ، زال البأس صغيرتي ، شششش اهدئي ، أنا هنا معكِ ، كان كابوسا مزعجا فقط .."
ترفع عينيها وهي تحدق بها بوجه خال من أية تعابير ، ثم تتشبت بثيابها هامسة بصوت ضعيف منكسر :
"لا تتركيني أنتِ أيضا .."
ثم تغفو في حضنها بتعب شديد ....
ـــــــــــــ
مر شهر على تلك الفاجعة ، وميرال لا تزال تقبع داخل غرفتها ، قاطعت دراستها بالجامعة ، تسستيقظ وتنام على صوت علبة الموسيقى جانب سريرها والتي كانت اخر هدية من أمها لها ، تظل محدقة بالسقف دون أي حراك ، هجرت كمانها ، وعزفت عن الرسم والمطالعة ، أصبحت جثة هامدة يعلو صدرها ويهبط فقط ، اكتسحت الكآبة المنزل وحوطت جميع أركانه ، ذبلت الحياة في عينيها ذواتا الهالات السوداء تحتهما ، جسدها الهزيل كان ليتعفن ويموت لولا اهتمام تلك السيدة الطيبة بعد صراعات ومعاناة طويلة معها ، اليأس قد عانقها والاستسلام قد اتخذها جليسة له يلقنها أفضل الدروس في التخلي عن كل شيء يربطها بالحياة ، كوابيس وأحلام مخيفة تزعج نومها الخفيف ، أصبحت شبه ميتة تعامل الجميع بقسوة لا متناهية والصراخ صار أمرا عاديا يسمع داخل ذاك المنزل ، طرد البعض من الخدم والبعض الآخر قدم استقالته لسؤمه من تلك الحالة المزرية ، لتظل الصغيرة البائسة وحيدة أكثر ، تتحملها تلك السيدة الطيبة فقط والتي لم ولن تتركها قط ...
أنت تقرأ
العــاصــفـة الـرمــاديــة
Romanceلا تشعر بالإنتماء إلى أي مكان ... تائهة وخائفة من المستقبل المجهول ... صامدة في وجه الصعوبات ،، تقاوم وتقاوم ، ولا تقبل الإستسلام .. تبحث عن ذاتها ، عن أصلها ، عن هدفها ، عن من يزرع الأمان بقلبها .. مختلفة واستثنائية رغم سواد الحياة في عينيها ... أق...