في ليلة شتوية قاسية، كان أحمد يجلس في غرفته الضيقة، محاطاً بسكون يقطعه بين الحين والآخر صوت الرياح العاتية التي تعصف بالخارج. الغرفة كانت تغمرها دفء المدفأة الصغيرة التي تضيء الزاوية بوهج خافت. أحمد، مستلقٍ على أريكته البسيطة، يحمل بيده كتاب "العنكبوت" للدكتور مصطفى محمود، ويحتسي قهوته المرة التي باتت رفيقته الدائمة في لياليه المتأخرة. القهوة كانت طقسه الخاص، تشعل أفكاره وتساعده على الهروب من توتر أيامه المتعاقبة، مانحة إياه تركيزاً وهدوءاً في ذات الوقت.
الكتاب الذي انغمس فيه كان مزيجاً غريباً بين الفلسفة والفيزياء، يناقش فكرة خالدة عن الروح: "هل تموت، أم تنتقل من جسد لآخر؟" كانت هذه الفكرة العميقة تثير فضوله، رغم غرابتها. وجد نفسه منجذباً نحوها، كما لو أنها تكشف له شيئاً دفيناً عن الحياة والموت. لم يكن موضوعاً يناقشه عادة مع أصدقائه، بل كان يرى فيه ملاذاً شخصياً يغوص فيه بمفرده دون أن يشارك أحداً.
الخارج كان يزداد اضطراباً، والأمطار تدق النوافذ بعنف، لكن أحمد ظل غارقاً في سطور الكتاب. فجأة، انقطع ذلك الهدوء المشوب بالعاصفة عندما رن هاتفه بصوت اخترق الصمت. ألقى نظرة سريعة نحو الشاشة، ليتفاجأ بما يراه؛ لم يظهر اسم ولا رقم، فقط سلسلة من الرموز الغريبة غير المفهومة، وكأنها شيفرة معقدة.
"ما هذا؟!" تساءل أحمد بصوت خافت، وهو يشعر بتيار من القلق يسري في جسده. الهاتف استمر بالرنين للحظات، وأحمد متردد بين الرد أو تجاهل المكالمة. فضوله كان يدفعه إلى الإجابة، لكن خوفاً غريزياً جعله يحجم عن اتخاذ أي خطوة. وفي لحظة توقف الهاتف عن الرنين، تاركاً وراءه صمتاً أثقل من ذي قبل.
أحمد لم يكن من النوع الذي يخاف بسهولة، لكنه أدرك أن شيئاً ما غير طبيعي يحدث. حاول تجاهل الأمر، أشعل سيجارة وسحب منها نفساً عميقاً، محاولاً تهدئة أفكاره المضطربة. "ربما مجرد مزحة من أحد الأصدقاء"، قال بصوت مرتفع ليقنع نفسه. ومع ذلك، كانت الفكرة لا تطمئن عقله بالكامل.
حاول العودة إلى كتابه، لكن هاتفه عاد للرنين مجدداً، هذه المرة بنغمة أكثر إلحاحاً. تردد قليلاً، ثم بحركة سريعة فتح الخط. صمت. لم يسمع شيئاً سوى أنفاس ثقيلة ومتقطعة. هذه الأنفاس حملت في طياتها شيئاً مخيفاً، كما لو أنها صادرة من مكان بعيد، وربما من عالم آخر. فجأة، انفجرت ضحكة شريرة من الطرف الآخر، كانت مدوية وقاسية، قبل أن ينقطع الاتصال فجأة.
أحمد تجمد في مكانه، وعيناه مثبتتان على الهاتف الذي عاد إلى هدوئه. ضحكة غريبة ما زالت ترن في أذنيه، وصدى السؤال المخيف يتردد في ذهنه: "من كان ذلك؟ وماذا يريد؟"
لم يستطع النوم تلك الليلة. نهض من مكانه وأشعل سيجارة أخرى، متوجهاً نحو النافذة. المطر ما زال يهطل بغزارة، وكأنه يعكس اضطراب مشاعره المتضاربة. لم يستطع التوقف عن التفكير في تلك المكالمة الغامضة، وفي تلك الرموز التي ظهرت على الشاشة، وكأنها شفرة تحمل في طياتها لغزاً أكبر من أن يفهمه.