الجزء 01

15.5K 149 16
                                    


إنطلقت الزغرودة عالية مجلجلة بجرس موسيقي صاف وشقت عنان سماء إختلطت فيها ألوان السحب ما بين الأبيض الناصع والـرمادي المتدرج وطغى عليها لون إحتضار الشمس بزفيـرها النـاري وهي تغيب ببطء خلف الأفق المتأهب لغزو الظلام ... تتالت الزغاريد التي كانت تبدأ بعنفوان متحمس منساب ثم تنخفض برنات متفاوتة في الطول والنعومة ...

وضجت سماء (حي أبوروف ) بالأصوات التي إعتادتها طيلة الشهرين الماضيين ..

في الفضاء إرتفعت أعمدة دخان باهت ترافقها رائحة " الشاف " المحترق وأبخرة الشحم المخلوط بالقرنفل وأعواد الصندل ... قطع مزيج الروائح النفاذة الشارع الأسفلتي الضيق الذي يفصل منزل حامد الأمين عن النيل وتوغل حتى وصل إلى القوارب الصغيرة التي كانت تتهادى في رحلة عودتها من صيد موفق ... تبادل المراكبيه إبتسامات متواطئة عندما سمعوا رنات الفرح الصادحة المصحوبة بمزيج الروائح المغرية وهي تستفز خياشيمهم التي أدمنت رائحة البحر والسمك ... ظهرت علامات الإنتشاء في الوجوه الكالحة ... وصرخ أحدهم منادياً الآخر ...

- بختك يا ورّاق ... ماشي حوش ود العمدة محل الريحة السمحة والوشوش السمحة...

إرتفعت الضحكـات وتبادل الجميع الهمهمات المازحة وهم ينظرون إلى مركب ورّاق الصغير بحسد ... ونادى صوت آخر ...

- والله سمح العرس عند بنات ود العمدة ... إلا هي الحفلة متين ؟؟؟

رد ورّاق بفتور وهو يوجه قاربه الصغير نحو الشاطئ .. وإرتج جسده النحيل قليلا عندما اصطدمت المقدمة بالضفة الرملية :

- العرس الأسبوع الجاي

حمل كيس الخيش الممتلئ بالأسماك .. وبخطوات خفيفة حافية قطع الشارع الضيق ووقف قليلاً يتأمل المنزل المهيب بأبوابه الكبيرة ومساحته الشاسعة التي تمتد حتى نهاية الشارع ... كانت ألوان الغروب الدافئة تنعكس على الجدران الحجرية العالية وتضفي عليها ظلالاً ناعمة بددت جمودها حتى خيل لورّاق كأنها تتحرك ... هز رأسه كي ينفض عنه أوهامه ثم دخل بإلفة من الباب الحديدي العملاق واتجه مباشرة إلى خلف المباني وهو يتبع خليط الروائح المغرية ... عندما وصل إلى الزاوية التي يبدأ بعدها الحوش الفسيح ... راودته نفسه أن يتجاهل أسلوبه المعتاد في إعلان حضوره وإدعاء الغفلة حتى يرى ما تتوق نفسه إلى رؤياه ... همّ بالتحرك ثم توقفت خطواته بغتة عندما تناهى إلى سمعه صوت حجة " السرة " الجهوري وهي تأمر وتنهي كعادتها ...

- يا بت يا بلقيس زيدي النار دي سريع ... الحفرة بقت باردة والحطب قرب يموت...

تسمّر خوفاً .. ورفع صوته بأعلى ما يستطيع :

- حجة السرة ... يا ناس هوي .. جبت ليكم السمك .. تعالوا شيلوهو مني .

تمتم بالحمد على عدم مطاوعة نفسه الأمارة بالسوء عندما أتاه صوت السرة محذراً ...

حوش بنات ود العمدهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن