كان أبو هريرة -رضي الله عنه- حريصًا على أن تدخل أمه في الإسلام ، وكان يدعو الله -سبحانه- أن يشرح صدرها للإسلام ، فدعاها يومًا إلى الإسلام فغضبت ، وقالت كلامًا يسيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (أي سبَّته وشتمته) فأسرع أبو هريرة -رضي الله عنه- إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فقال: يا رسول الله ، إني كنتُ أدعو أمي إلى الإسلام فلا تستجيب لي ، وإني دعوتُها اليوم فأسمعتْني فيك ما أكره ، فادع الله أن يهدي أم
أبي هريرة ، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهْدِ أم أبي هريرة).
فخرج مستبشرًا بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذهب إلى أمه ، فوجد باب البيت مغلقًا وسمع صوت ماء يصَبُّ ، فقد كانت أمه تغتسل ، فلما سمعت أمه صوت قدميه ، قالت: مكانك يا أبا هريرة ، ثم لبست ثيابها ، وفتحت الباب وقالت: يا أبا هريرة ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا رسول الله ، ففرح أبو هريرة -رضي الله عنه- بإسلام أمه فرحًا كثيرًا ، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بالأمر ، فحمد الله ، وقال خيرًا. [مسلم].
***
الوالدان هما السبب في وجود الإنسان ، وهما اللذان يتعبان من أجل تربية الأبناء وراحتهم ، وقد فرض الله تعالى برَّ الوالدين على عباده ، فقال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا } [الإسراء: 23].
وقال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا}
[النساء: 36].
وقال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنًا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير} [لقمان: 14].
وقال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانًا حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} [الأحقاف: 15].
وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بر الوالدين ، فقال: (من سرَّه أن يمَدَّ له في عمره (أي يُبارك له فيه) ويزاد في رزقه؛ فليَبرَّ والديه ، وليصل رحمه) [أحمد].
وقال صلى الله عليه وسلم: (رغم أنفه (أي أصابه الذل والخزي) ثم رغم أنفه ، ثم رغم أنفه).
قيل: من يا رسول الله؟ قال: (من أدرك والديه عند الكبر؛ أحدهما أو كليهما ، ثم لم يدخل الجنة) [مسلم].
فالواجب على كل مسلم أن يبرَّ والديه ويحسن معاملتهما ، ومن آداب معاملة الوالدين:
حبُّهما والإشفاق عليهما: المسلم يدرك أن لأبويه فضلا كبيرًا لما تحملاه من مشقة في سبيل راحته ، وأنه مهما بذل من جهد ، فإنه لا يستطيع رد جزء من فضلهما.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله ، إني حملتُ أمي على عنقي فرسخين (حوالي عشرة كيلو مترات) في رمضاء شديدة ، فهل أدَّيتُ شكرها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لعله أن يكون لطلقة واحدة (يعني طلقة واحدة من آلام الولادة).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من أرضى والديه فقد أرضى الله ، ومن أسخط والديه فقد أسخط الله) [البخاري في الأدب المفرد].
طاعتهما: فالمسلم يطيع والديه في كل ما يأمرانه به إلا إذا أمراه بمعصية الله؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
التكفل بهما: فالمسلم يتكفل بوالديه ، وينفق عليهما ، ويطعمهما ويكسوهما ليحظى برضا الله.
وإن كان الابن ذا مالٍ واحتاج أبواه إلى بعض هذا المال ، وجب عليه بذله لهما فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله ، إن لي مالا ووالدًا ، وإن أبي يريد أن يجتاح (يأخذ) مالي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) [ابن ماجه].
الإحسان إليهما: المسلم يحرص على الإحسان إلى الوالدين -وإن كانا كافرين- قالت أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها-: قدمتْ على أمي وهي مشركة -في عهد قريش- فقلتُ: يا رسول الله ، قدمتْ على أمي وهي راغبة .. أفأصلُ أمي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم ، صلى أُمَّك) [مسلم].
وعندما أسلم سعد بن أبي وقاص ، امتنعت أمه عن الطعام والشراب ، حتى يرجع سعد عن دينه ، لكنه أصرَّ على الإيمان بالله ، ورفض أن يطيع والدته في معصية الله ، وقال لها: يا أمَّه ، تعلمين والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني . إن شئتِ فكلي أو لا تأكلي.
فأنزل الله -عز وجل- قوله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا} [لقمان: 15].
مراعاة شعورهما: المسلم يتجنب كل ما من شأنه الإساءة إلى والديه ، ولو كان شيئًا هينًا ، مثل كلمة (أف) قال الله تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا} [الإسراء: 23].
لا تنادِ والديك باسميهما: الابن ينادي أبويه فيقول: يا أبي أو يا أمي ، ولا يناديهما باسميهما ، فقد شاهد أبو هريرة رجُليْن فسأل أحدهما عن صلته أو قرابته بالآخر ، فقال: إنه أبي. فقال أبو هريرة: لا تسمِّه باسمه ، ولا تمشِ أمامه ، ولا تجلسْ قبله. [البخاري في الأدب المفرد].
لا تجلس حال وقوفهما ، ولا تتقدمهما في السير: ليس من الأدب مع الوالدين أن يجلس الولد وأبواه واقفان ، أو أن يمُدَّ رجليه وهما جالسان أمامه ، ومثل
ذلك .. إنما يجب عليه أن يتأدب في حضورهما ، وأن يتواضع لهما. قال تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا}
[الإسراء: 24].
استئذانهما في الخروج إلى الجهاد: وذلك إن كان الجهادُ فرضَ كفاية ، قال صلى الله عليه وسلم لرجل جاء يريد الجهاد: (هل باليمن أبواك؟).
قال: نعم.
فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عما إذا كانا أذِنا له أم لا.
فقال الرجل: لا.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فارجع فاستأذنهما؛ فإن أذِنا لك ، وإلا فبرَّهما) [أحمد].
أما إن كان الجهاد فرض عين ، مثل أن يقوم عدو بغزو البلاد فلا يشترط
إذنهما.
عدم تفضيل الزوجة والأولاد عليهما: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة كانوا يسيرون في الصحراء ، واضطروا إلى أن يبيتوا في غار ، فلما دخلوه وقعت صخرة كبيرة من أعلى الجبل فسدَّتْ باب الغار ، فحاولوا دفع الصخرة فلم يستطيعوا ، فأيقن الثلاثة أنهم هالكون ، وفكَّر كل منهم أن يدعو الله -سبحانه- بعمل صالح ، حتى يفرِّج الله كربهم ، فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران فكنتُ أخرجُ فأرعى ثم أجيء فأحلب ، فأجيء بالحِلاب (اللبن) فآتي به أبوي فيشربان ، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي ، فاحتبستُ ليلة (تأخرتُ) فجئت فإذا هما نائمان ، فكرهت أن أوقظهما والصبية يتضاغون (يبكون) عند رجلي حتى طلع الفجر ، اللهم إن كنتَ تعلم أني فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه.
ثم دعا الآخران بصالح أعمالهما ، فانفرجت الصخرة وخرج الثلاثة من الغار بفضل هذا الابن البار وبفضل ما كان عليه صاحباه من الأخلاق الحميدة.
[متفق عليه].
وهكذا المسلم يفضل أبويه ويقدمهما على أولاده وزوجته ، وهو بهذا السلوك يقدم لأولاده وزوجته القدوة والمثل في بر الوالدين؛ حتى إذا ما كبر ، وكبرت زوجته كان أبناؤهما بارين بهما كما كانا بارَّيْن بآبائهما. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بروا آباءكم تَبركُم أبناؤكم) [الطبراني].
الدعاء لهما في حياتهما وبعد موتهما: المسلم يكثر من الدعاء لوالديه في حياتهما وبعد موتهما. وقد حكى القرآن عن نوح -عليه السلام- قوله: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنًا وللمؤمنين والمؤمنات} [نوح: 28].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له) [مسلم] والمسلم يدعو لوالديه بالمغفرة ويقضي عنهما الدَّين والنذر ، ويقرأ القرآن ويهدي ثوابه
لهما ، ويتصدق عنهما ، وإلى غير ذلك من أوجه الإحسان.
الإحسان إلى أصدقائهما بعد موتهما: المسلم يصل أصدقاء والديه ويبرهم ، كما كان يفعل أبواه ، قال صلى الله عليه وسلم: (فمن أحبَّ أن يصِلَ أباه في قبره فليصلْ إخوان أبيه من بعده) [ابن حبَّان وأبو يعلي] وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أَبَرَّ البِرِّ صِلَةُ الرجل أَهْلَ وُدِّ أبيه) [مسلم]. فليحرص كل مسلم على إرضاء والديه ، فإن في رضاهما رضا الله -عز وجل-.