آداب العلم
آداب العلم
جاء أبو رفاعة -رضي الله عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فقال: يا رسول الله ، رجل غريب جاء يسأل عن دينه ، لا يدري ما دينه. فنظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم توقف عن خطبته ، وتوجه إلى أبي رفاعة يعلمه أمور دينه ، حتى عرف الرجل وفهم ، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطبته.
***
بعد أن تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اهتم ابن عباس -رضي الله عنه- بسؤال الصحابة عن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكلما علم أن رجلا يعرف حديثًا للرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إليه ، فإذا وجده نائمًا وقت الظهيرة جلس على بابه ، وانتظره حتى يستيقظ ، فتكسوه ريح
الصحراء بالتراب.
وعندما يخرج الصحابي إلى ابن عباس ، يقول له: يابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما جاء بك؟ هلا أرسلتَ إلي فآتيك. فيقول: لا ، أنا أحق أن آتيك ، فأسألك عن الحديث. [الحاكم].
***
للعلم منزلة عظيمة في الإسلام ، فأول آية نزلت في القرآن الكريم كانت دعوة إلى التعلم: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1]. وأقسم الله -تعالى- بأداة الكتابة وهي القلم ، فقال: {ن والقلم وما يسطرون} [_القلم:1].
وتؤكد السنة النبوية المشرَّفة مكانة العلم السامية؛ لذلك جعلت السعي في طلب العلم موصلا إلى الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة) [البخاري وأبوداود والترمذي].
وما يزال ثواب العلم يصل إلى صاحبه حتى بعد وفاته من غير انقطاع ، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة. إلا من صدقة جارية ، أو علمٍ ينتفع به ، أو ولدٍ صالح يدعو له) [مسلم].
والملائكة تحفُّ طالب العلم بأجنحتها ، قال صفوان بن عسال المرادي -رضي الله عنه-: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على بُرْدٍ له أحمر ، فقلت له: إني جئتُ أطلب العلم ، فقال صلى الله عليه وسلم: (مرحبًا بطالب العلم ، إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها). [أحمد والطبراني].
والعلم ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية؛ فهناك ما لا يسع المسلم جهله ، وهو ما يجب على المسلم أن يعلمه عن ربه ودينه ونبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم هناك فروض الكفاية التي يجب على المسلمين سدها في التخصص العلمي كالصناعة والزراعة والطب…وغيرها من فروع الحياة.
والعلم طريق المسلم إلى معرفة الله حق المعرفة ، لذلك فأهل العلم أشد الناس خشية لله ، قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28].
ولطلب العلم آدابٌ ينبغي على المتعلم أن يراعيها ، وهي:
الإخلاص: على المتعلم أن يُخلص النية لله في طلب العلم ، ولا يتعلم بقصد حب الظهور والسيطرة ، ومماراة السفهاء ، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى) [متفق عليه].
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أول من تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة: (رجل تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن ، فأُتي به فعرَّفه (الله) نعمه فعرفها ، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعلمته ، وقرأتُ فيك القرآن. قال الله له: كذبت ، ولكنك تعلَّمتَ ليقال: عالم. وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ. فقد قيل. ثم أمر به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلْقي في النار) [مسلم].
طلب العلم النافع: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، وعمل لا يرفع ، ودعاء لا يسمع).
[أحمد وابن حبان والحاكم].
وقال الشاعر:
ما أكثـر العلـم ومــا أوسعــه
من ذا الـذي يقــدر أن يجمعـه
إن كنـتَ لا بـد لـه طـالــبًا
محاولا ، فالتمــسْ أَنْفَعَــــــــه
التفرغ والمداومة على طلب العلم: فقد قيل: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك. وكان السلف يقدِّرون العلم ويتفرغون له. وطالب العلم يداوم عليه؛ لأن العلم كثير والعمر قصير.
وقد قيل: اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد (الموت). وقال الشاعر:
كُلَّمَا أدَّبَنــي الـــدَّهْرُ أَرَانــي نَقْـــصَ عَقـْلـــي
وَكَلَّمَـــا ازددتُ عِلْمـًـا زَادَنِي عِلـمًــا بــجَهْلــي
تطهير النفس من الأخلاق السيئة: العلم النافع نور من الله يقذفه في قلوب عباده الأتقياء ، ولا يقذفه في قلوب أصحاب الطباع السيئة والأخلاق الفاسدة؛ لذا ينبغي على المسلم الذي يطلب العلم أن يبتعد عن الحسد والرياء والعُجب وسائر الأخلاق الذميمة.
طلب العلم في الصغر: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما ناشئ نشأ في طلب العلم والعبادة حتى يكبر أعطاه الله تعالى يوم القيامة ثواب اثنين وسبعين صدِّيقًا). [الطبراني].
وقيل: طلب العلم في الصغر كالنقش على الحجر. ولا يستحيي الكبير من طلب العلم ، فقد روي أن قبيصة بن المخارق -رضي الله عنه- أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما جاء بك؟). قال: كبرت سني ورقَّ عظمي ، فأتيتُك لتعلِّمني ما ينفعني الله به ، قال: (ما مررتَ بحجر ولا شجر ولا مَدَرٍ إلا استغفرَ لك يا قبيصة ، إذا صليت الصبح ، فقل ثلاثًا: سبحان الله العظيم وبحمده ، تُعَافَي من العمي والجذام والفالج (نوع من الشلل). يا قبيصة ، قل: اللهم إني أسالك مما عندك ، وأَفِضْ على من فضلك ، وانشر على من رحمتك ، وأَنْزلْ على من بركتك) [أحمد].
العمل لا يمنع العلم: كان كثير من الصحابة يعملون ، فإذا ما رجعوا من أعمالهم سعوا في طلب العلم بقية يومهم ، وسهروا على طلب العلم من القرآن والحديث.
فعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: كنا نغزو ونَدَع الرجل والرجلين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فنجيء من غزاتنا فيحدثونا بما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنحدث به فنقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ابن عساكر]. فلا بأس من أن يجمع المسلم بين طلب العلم والعمل وابتغاء الرزق من فضل الله.
الصبر والتحمل: المسلم يتحلى بالصبر على مشقة طلب العلم ، فالصبرُ زاد المؤمنين ، وهو الذي يعينهم على كل ما يلاقونه من متاعبَ وآلام. وقيل: من لم يتحمَّل ذُلَّ التعلم ساعة بقي في ذل الجهل إلى قيام الساعة.
التدرج في طلب العلم: والمتعلم يبدأ بالأوليات ومقدمات العلوم قبل أن يغوص فيها ، ومعرفة ذلك ترجع إلى توجيهات المعلِّمين. وكذلك يحرص على أن يتعرف على سائر العلوم ، وألا يترك نوعًا منها.
قال يحيي بن خالد لابنه: عليك بكل نوع من العلم فخذْ منه ، فإن المرء عدو ما جهل ، وأنا أكره أن تكون عدوَّ شيء من العلم.
التخصص: إذا رغب المسلم في التخصص في علم واحد؛ فيجب عليه أن يتخير من العلم أشرفه ، وأنفعه ، وما يوافق ميوله وقدراته. وقد قيل: إذا أردتَ أن تكون عالـمًا فاعرف كل شيء عن شيء ، وإذا أردتَ أن تكون مثقفًا فاعرف شيئًا عن كل شيء.
الحفظ مع الفهم والتدبر: يقول صلى الله عليه وسلم: (نضَّر الله امرءًا سمع منَّا حديثًا فحفظه حتى يبلِّغه غيره ، فربَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيه) [الترمذي].
وفي ذلك إشارة إلى أهمية الحفظ ، ولذلك قال الإمام الشافعي:
عِلْمِـي مَـِعـي حَيثُمَا يمَّمْتُ يَتْبَعُنـــي
قَلْبِـي وِعَـاءٌ لَـه لا بَطْــنَ صُنْدُوقِ
إِنْ كُنْتُ فِي البَيتِ كَان العِلمُ فِيهِ مَعِـــي
أو كنتُ في السُّوق كَان العِلْمُ في السُّوقِ
التدوين: قيل: قيدوا العلم بالكتابة. وقيل: العلم صيد والكتابة قيد ، فيجب أن نقيِّد العلم لئلا ننساه ، وأن نتخير ما نكتب. وقيل: يجلس إلى العالم ثلاثة: رجل يأخذ كل ما سمع ، ورجل لا يكتب ويسمع ، ورجل ينتقي؛ وهو خيرهم.
المذاكرة والمراجعة: قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: تعلموا العلم ، فإن تعلُّمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة.
تنظيم ساعات التعلم: المسلم دائمًا منظم في كل شئونه ، يحرص على تنظيم وقته ، فيبذله في تحصيل العلوم والمعارف.
عدم الحياء في العلم: قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43].
وتقول السيدة عائشة -رضي الله عنها-: نعم النساء نساء الأنصار ، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. فالمسلم يسأل عما يريد معرفته ، ولا يمنعه الحياء من السؤال ، فالعلم خزائن ومفاتيحها السؤال.
السعي في طلب العلم: قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: بلغني عن رجل حديثٌ سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتريتُ بعيرًا لأسافر إليه ، فسرتُ إليه شهرًا حتى قدمتُ الشام ، فوجدته عبد الله بن أنيس -رضي الله عنه- ، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب. فقال: ابن عبد الله؟
قلت: نعم. فخرج يطأ ثوبه (مسرعًا) فاعتنقني واعتنقتُه ، فقلتُ: حديثٌ بلغني عنك أنك سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص؛ فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه ، فذكر له عبد الله بن أنيس الحديث._
[أحمد والطبراني].
وعن عبيد الله بن عدي ، قال: بلغني حديث عند علي فخفت إن مات ألا أجده عند غيره فرحلتُ حتى قدمت عليه العراق. [الخطيب].
وقال ابن مسعود: لو أعلم أحدًا تُبَلِّغُنِيه الإبل هو أعلم بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم لقصدتُه حتى أزداد علمًا إلى علمي. [ابن عساكر].
وقال الشعبي: لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن؛ ليسمع كلمة حكمة ، ما رأيت أن سفره ضاع.
العمل بالعلم: فقد ذم الله- سبحانه- أناسًا لا يعملون بعلمهم ، وشبههم بالحمير التي تحمل الكتب ، ولا تفهم ما فيها. قال تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا} [الجمعة: 5].
وقال تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} [البقرة: 44]. فالمسلم يعلم يقينًا أنه مسئول عما قدم في حياته ، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزولُ قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه). [الترمذي].
احترام المعلم: المعلم له فضل كبير على تلامذته ، قال أحمد شوقي:
قُـمْ للمُعَلـِّـم وَفِّــه التَّبْجِيـــــلا
كَــادَ المعَلـِّــمُ أَنْ يكُــونَ رَسُــولا
أَرَأَيـتَ أَفضَــلَ أَوْ أَجَلَّ مـِـنَ الـذَّي
يبنـي وينْشِـئُ أنفُسًــا وعُقـُــــولا
الإنصات: قال الحسن بن علي لابنه: يا بني ، إذا جالستَ العلماء ، فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ، وتعلَّم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت. ويجب أن يكون السؤال بقصد الفهم والإدراك ، لا بقصد الجدل أو التعجيز.
التأدب في مجلس العلم: المسلم يجلس إلى معلمه في أدب ووقار ، ولا يكثر من التلفُّت والإشارة والضحك ، و يراعي حسن المظهر والنظافة ، وعدم التحدث أو السؤال إلا بعد الاستئذان ، وعدم تحقير الزملاء أو السخرية منهم ، بل يعلم أنهم إخوته في العلم؛ فيرحمهم ويحترمهم.
ومن الأسباب التي تساعد على تحصيل العلم والمذاكرة: أن يكون مكان التعلم والمذاكرة وافر الإضاءة ، هادئًا خاليا من الضوضاء ، ويجب تجنب المذاكرة في الفراش؛ لأن ذلك يجلب النعاس ، ويجب ترتيب الكتب وتنظيمها ، وإعطاء النفس حقها من الراحة ، ويجب تخير الوقت المناسب للمذاكرة ، وتوزيع وقت المذاكرة على جميع العلوم.