نمنا في تلك الليلة يعتصرنا الألم ويسحق قلوبنا سحقا....أدعي أنني نائمة حتى لا أقلق قريبتي علي ....وتدعي سهام نومها رغم أنني أسمع بوضوح شهقات بكاءها...أما غاليتي الصغيرة فهي نائمة بعمق ولا أعلم إلى أي مدى وصلت بها كوابيسها فهي تهذي في منامها بخوف منذ ان خطت في غفوتها....صمتت للحظات وعندما أيقنت أن سهام مستيقظة قلت في هدوء وصوت كلامي مختنق من تلك العبرات المتدفقة على وسادتي بغزارة :" لقد اشتقت اليهما ياسهام "
التفتت الي سهام بعدما كانت تخفي وجهها بذلك الغطاء الطويل حتى لانلمح ضعفها ثم استطردت :" لقد قتلوا لي أمي يازينب....لماذا فعلوا ذلك ؟"
تكلمت وأنا بالكاد أستطيع النطق :" لست أدري فأولئك الوحوش يستمتعون بالقتل ولايحتاجون لسبب مقنع حتى يقدمو عليه "
تقدمت نحوي ابنة عمتي وغرقت في أحضاني باكية وهي تقول :" لا أريد العيش من دونهما فاليأخذني ربي معهما ...ذلك اهون عندي "
لم أستطع التخفيف عنها في تلك الحالة الفظيعة فأنا أعاني ماتعانيه ابنة عمتي أو أكثر مع شقيقتي التي بقيت الآن مسؤولية كبيرة على عاتقي فزدت الطين بلة وأنا اقول :" أين سنذهب ...من سيفتح لنا بابه ياسهام "....فأجهشت سهام بالبكاء وقد اشتد الألم بقلبها وضميرها حتى أيقظت شقيقتي من النوم والتي بدأت بدورها تشاركنا الدموع من دون توقف وهي تتوسل الي :" لاتتركيني يازينب ...ارجوك لا تتركيني "
خاطبتها مهدئة :" لن أفعل صدقيني يا أختي لن أفعل "....وهكذا هو حالنا لعدة أيام متواصلة لم نعرف فيها للنوم طعما ...بعد حوالي خمس أيام أدلفت الخالة رقية إلينا وقد استنار وجهها بريقا ثم راحت تقول :" لديكن ضيف ياصغيراتي "....ودخل مباشرة إلى حيث كنا دون أن يستأذن أصلا كما اعتاد أن يفعل دائما....وقفته رجولية وتبعث الرعب والاعجاب في نفس الناظر اليها....ملامحه ترسم ابتسامة شفافة وجدية وتعكس شخصيته الغريبة الصلبة...كان أخي يحبه كثيرا ودائما مايوصيه علينا ولكنهما لايشتركان في شيئ عدا قرابتهما وصداقتهما.....إنه أبن عمي آدم...تقدم نحونا بهدوء ولا أنكر أن مجيئه الينا خلق فينا سعادة غامرة حلت في وقتها تماما....وابتسم ابتسامة ساحرة وهو يلقي التحية قائلا :" السلام عليكن أيتها الأخوات "
اقترب منا ونحن نرد السلام عليه ثم أردف قائلا :" البقية لله ياقريباتي "....فتعالت مشاعر اليأس والكآبة في قلوبنا من جديد وكأنه قد حرك الرماد بكلامه عن الشهيدتين الراحلتين...وأستمر قائلا يخاطبني :" إصبري يا ابنة عمي ولا تيأسي فهما لم ترحلا هكذا فقط..إنهما في الجنان يكفينا الترحم عليهما "ونظر إلى أختي وهو يبتسم ابتسامة استلطاف ثم قال :" حتى انت ايتها المشاكسة...لاتحزني يامريم إنه قضاء الله ولا اعتراض عليه "....وأخيرا توجه بخطابه نحو سهام مأنسا لها في حزنها وهو يستطرد :" أعلم كم من الصعب أن يفقد المرء أمه ياسهام لكن قدر الله وماشاء فعل ...اصبري فإن الله ماعظم أجر الصابرين إلى لصعوبته"
إن آدم يذكرني بأخي في وقفته وفي نصائحه وفي كل شيئ رغم أنه لايتشابهان بتاتا ولكن كل مافيه يستجلب طيف أخي الينا من جديد...رؤية آدم تجعلني اتوهم خيال علاء في الاجواء يحيطنا باهتمامه...اين انت ياحبيب أختيك في الوقت الذي نحن فيه في أمس الحاجة اليك...أين انت يا أخي ...لقد اشتقت إليك...ولكن أخيرا جاء من يخفف عنا همنا وحزننا فرؤية ابن عمي أطفت نوعا من راحة البال علينا خاصة عندما شوقنا قائلا وابتلعنا كلنا ريقنا لنسمع أخبار أخي :" لقد تواصلت مع علاء يا فتيات "...صمتنا كلنا ثم حركت أن رأسي أن ماذا بعد وأجابني ابن عمي بثقة :" لقد أطلعته عن المأساة التي حدثت معكن...طلب مني أن أرعاكن في حين غيابه وأخبرني أنه لايستطيع دخول الجزائر حاليا...يقول أنه مشتاق لكن وهذه رسالة منه اليك يازينب "...وأخرج من جيبه ظرفا وقرب يده مني وناولني اياه ونحن لانزال مذهولات مما سمعناه بل ونشتعل ونلتهب فرحة في أعماقنا بماجاء به آدم الينا ....وفرحت كثيرا لأن أخي لم ينسانا وفعل المستحيل حتى يطمئن علينا ولم يتركنا هكذا حين ظننا أننا وحدنا وانه رحل وتركنا وأوصى آدم علينا في غيابه...ما أروعك ياعلاء حقا ما أروعك....مزقت الظرف بسرعة ويدي ترتعشان وهما تمسكان بكلام من شفاه أخي بكلمات خطتها يده وبوصايا كانت من قبله....وقرأت بصوت مرتفع ماجاء في المحتوى :" السلام عليكم....بعد بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على اشرف المرسلين أما بعد....
غاليتي زينب ..لقد سمعت ماحل بكن بعد رحيلي وأنا يا أختي متأسف بشدة لأنني لم أكن موجودا لرعايتكن....حقا كم تألمت لموت عمتي وجدتي ولم أصدق هذا الخبر المأساوي فأنا هنا في الغربة لم أعد أتحمل فقدان الغوالي...وانت تعلمين ما قصدي يا أختي...لا أريد أن افقدك أيضا...لقد وصلت الى باريس والحمد لله أنا منظم الى الوفد الخارجي للثورة واساعد باذن الله في نيل الاستقلال الذي أصبح قريبا جدا...أخبري مريم أنني مشتاق كثيرا اليها وأنني سأعود في أقرب وقت ممكن وإياك ان تدعيها تذرف دمعة واحدة من عينيها خاصة في غيابي فبعدي عليكما يؤلمني جدا....أما بالنسبة الى سهام فانت أدرى يا أختي ...واسيها وقفي بجانبها حتى النهاية فليس من السهل أن يفقد الانسان أمه كما أن تلك الفتاة رقيقة جدا وتتأثر كثيرا بهذه الأمور...إنها مثل أختك ولاداعي لان اوصي حريص... لقد اوصيت آدم عليكن ولا أظن أنه لايستحق هذه المسؤولية فهو كالأخ او أكثر بالنسبة لي ابقين معه الى حين عودتي يازينب وأرجوك أن تذهبي الى أهلي وتخبريهم عن أحوالي فهم قلقون كثيرا علي....أخوكما علاء ...مع خالص تحياتي..."
رغم أن رسالة أخي كانت عادية ولم تكن حزينة او مؤلمة بل بالعكس كانت تدعوا الى التفائل لم ألحظ نفسي حتى وجدتني أذرف الدموع المتناثرة كحبات المطر على رسالة علاء ثم التفتت الى اختي وسهام لأجدهما ليسا افضل حالة مني فكلاهما كانتا تبكيان بحرقة ولا أعلم سبب بكائنا يومها....ولكنني حقا اشتقت الى أخي ...وبشدة...قالت شقيقتي وهي تمسح دموعها :" زينب لقد اشتقت اليه "...فأجبتها قائلة :" صبرا يا مريم فكلنا متحرقون لرؤيته ثانية "
أما سهام فقد ارتسمت ابتسامة جميلة على ملامحها لتزيد حمرة وجنتيها جاذبية وجمالا واستطردت قائلة :" ياليته يعود عن قريب فلم يعد قلبي يتحمل أكثر "
نظر إبن عمي آدم الى ابنة عمتي باستغراب وحيرة وهو يقطب حاجبيه عنوة ثم اردف قائلا وهو يضحك :" حقاا إن كيدهن لعظيم "....وضحكنا يومها مع آدم وتناسينا ألم قلوبنا وحل بعض اللطف على أحوالنا وتبدلت الأجواء ولو قليلا لترسم نوعا غريبا من السعادة التي لم اشعر بها في حياتي من قبل....انتقلنا بعد ذلك لبيت عمي اب آدم وقد استطعنا ولو بشيئ قليل التخلص من ألم المأساة الموجعة التي حلت بنا ومكثنا هناك حوالي شهر كانت أخبارنا شبه منقطعة عن العالم الخارجي فلا أنا مهتمة للشؤون الثورية ولا شقيقتي مهتمة بأخذ دروسها كما اعتادت أن تفعل عند جارتنا سميحة وهي خريجة جامعة في دمشق متزوجة برجل جزائري العم رابح ومنتقلة للعيش الى هنا بينما هي سورية الأصل...حتى سهام رغم كآبتها أصبحت أحسن حالا من ذي قبل فهي على الأقل تبادلنا الأحاديث والضحكات اذا ما اجتمعنا لنرفه عن انفسنا بين الحين والآخر.....
خاطبتني شقيقتي وهي تخفي ضحكتها قائلة :" زينب لقد اشتقت اليه "...تنهدت بقلة حيلة ثم قلت :" كلنا يامريم كلنا "...فأجابت وهي تبتسم بمكر :" ليس أخي ...لم أكن أقصده "
:" من إذن؟"
:" ذاك الشاب...ألكس "
التفت بسرعة اليها وانا احملق في وجهها مذهولة ثم أردفت قائلة :" من قلت ؟"
جلست شقيقتي الى جواري وهي تضحك ثم استطردت :" لقد قرأت ماكتبته في ذكراته "
صرخت بغضب :" مريم "
أجابت اختي بلامبالاة :" لا تصرخي في وجهي ...أعلم أنك منظمة الى الثورة...اعلم ذلك منذ وقت طويل "....ابتلعت ريقي باندهاش وتوتر ثم حركت رأسي مستنكرة ذلك فقابلتني أختي بابتسامة هادئة :" لا بأس عليك يازينب لقد تقبلت الموقف خاصة بعد وفاة جدتي وعمتي "
ضحكت انا غير مصدقة لما قالته ثم احتضنتها بقوة وانا أضمها الى صدري قائلة :" وأخيرا كبرت هذه المزعجة "
:" ولكن لما كل صفحاتك الأخيرة تتحدث عن بطولاته وكلامه "....شعرت بالإحراج وبدا أن الاحمرار بدأ يكسوا وجهي ليزيدني خجلا وحرارة تتدفق الى وجهي ثم قلت :" لست أدري "
وتذكرت ألكس وتذكرت اتفاقنا يومها وشعرت بالضيق لأنني لم أفي بوعدي له رغم أنني كنت قد تذكرت ذلك من قبل ولم أعره اهتمامي فحالتي لم تكن تسمح لي بالتكلم مع فرنسي بعد الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في حق أهلي ...لقد حقدت بشدة عليه يومها وكنت مستعدة على انهاء علاقتي الوهمية الغير مفهومة معه نهائيا لو أنني قد رأيته...ولكن بعد ذلك فكرت أن الكس لاذنب له في كل ماحصل بل على العكس إذا كانت فرنسا دائما ماتؤذيني فهو دائما ماينقذني منها ولو على حساب وطنه...كم أنني حمقاء دائما ما أخذل هذا الشاب الذي لم يخذلني في حياته وكان عند حسن ظني به أو أكثر....
وسبحان جاذب العاشقين إلى أوكارهم....سمعنا دقات خفيفة وهادئة على الباب بطريقة منتظمة ومسالمة....طبعا انتم مستغربون مدى أهمية نوع طرقات الباب عندنا نحن الجزائريين..طبعا كان علينا تعلمها جيدا وحفظها عن ظهر قلب فعن طريقها يمكننا أن نعلم من يستقر خلف الباب خاصة اذا كان الجنود هم من يطرقونه وجب علينا أخذ احتياطاتنا كاملة...توجهت نحو الباب مهرولة ثم أسرعت وفتحته دون أدنى تفكير أو اي سؤال عن الطارق وكأنني بصدق قد أحسست من كان خلف الباب......:" السلام عليكم "
بتلك الابتسامة الفاتنة التي استقرت على شفاهه لترسم لوحة خلابة على وجهه لايرسمها أمهر الفنانين ....اندهشت وذهلت واحترت ولكنني أجبت :" وعليكم أجمل السلام "...
:" هل أدخل أم تخرجين "
خرجت من البيت ثم أغلقت الباب ورائي بعدما تأكدت من غياب ابن عمي وعمي عن المنزل و كنت قد صليت منذ قليل أي أنني بمعنى آخر كنت متحجبة آنذاك .....ابتسمت بعفوية بعد التصرف الوقح الذي اقدمت عليه عندما نقظت وعدي ثم استرسلت قائلة أعتذر عن تخلفي على موعدنا لم يكن بيدي حيلة "
ابتسم ألكس بهدوء ثم قال :" كنت أعلم أن مكروها ما قد حصل معك "ش
:" أجل مكروه ما...أبناء شعبك الأنذال قتلوا كل شيئ جميل في حياتي "....
:" هل تعلمين أنهم كانوا يبحثون عنك يازينب...لقد فعلوا ذلك انتقاما منك لا أكثر ومن شقيقك الذي أفلت من السجن "
تكلمت بغيض واضح على وجهي وانا أضغط على أسناني :" ومن قال لهم أن لا يأخذوني أنا...لما قتلوا عائلتي "....
ابتسم ألكس بلطف شديد وياليتكم رأيتم جمال ضحكته لدرجة أنك تتوهم العالم قد ابتسم لمرآه ثم استطرد قائلا ولأول مرة في حياته وهذه المرة كانت كفيلة لجعله يتربع على عرش الأولوية في قلبي :" أتسألينني أنا يازينب؟....إنهم لم يتعدواش مستوى الحيوانات الناطقة...لاتشغلي بالك بتحليل شخصياتهم الفارغة "...ألكس يسب قومه ياناس ومن دون أي تردد وكأنه قد كره بشدة جرائمهم تلك وبدا غاضبا جدا من كونه فرنسيا...لاول مرة اشهد هذا الموقف الغريب....سألته باندهاش :" انت يا ألكس؟...أنت؟.."...ضحك ضحكة عفوية ثم راح يقول :" أنا فرنسي يازينب...ولست وحشا...أكره الأفعال الهمجية سواءا منا او منكم "
تشجعت بكل معنى الكلمة ثم اردفت قائلة :" وهل جئت اليوم لأعلمك أحكام الإسلام ؟"
هز ألكس كتفه بلا مبالاة معبرا على عكس ذلك ثم قال :" بل جئت لأطمئن عليك....لقد اعتنقت الإسلام منذ أسبوعين شكرا لاهتمامك "
شعرت بالإحراج والتوتر لكنني كدت أطير فرحا وأخيرا أصبح ألكس مسلما ...هذا ماكنت اتمناه ...
ثم أجبته ساخرة لإخفاء خجلي :" وهل تظن أن حالتي تلك كانت تسمح لي بالتفكير فيك "
ابتسم ألكس بمكر ثم قال وهو يرفع إحدى حاجبيه على الآخر :" لايهمني تفكيرك يا آنسة..." واتبع ضاحكا :" ماقيمة التفكير إذا كان القلب شغالا "
اغتضت مما قاله بشدة وعلمت أنه كان يلمح على شيئ اكبر بكثير لكنه لم يسمح لي بالرد على جملته وأستمر قائلا :" لقد كنت يومها موجودا..عندما احترق بيتك...رأيتك يومها ولم أستطع الاقتراب خشيت أن يؤلمك وجودي "...وغمز بعينه وأدبر منصرفا وهو يقول :" الى اللقاء إذا احتجت الى شيئ فأنا في الخدمة "
عدت أدراجي منسحبة نحو الداخل وقد ارتاح ضميري وهدأت نفسيتي المتوترة اتجاه هذا الفرنسي....أعلم أنكم احترتم كثيرا من اعتناق ألكس للإسلام بهذه السرعة وبهذه البساطة ولكن أنا سأوضح لكم....صدق ألكس عندما نعت الإسلام بأنه تجربة بسيطة من تجارب الحياة ولا أظن أنه فكر مليا قبل الدخول فيه أو حتى أنه يعلم أحكامه ومبادئه..كل ما أعلمه أن التحاقه بالاسلام كان شكليا ظاهريا لاعلاقة له بالحقيقة وأدرك بحق أنه بعد أيام سيعود الى ديانته من دون اي تردد....لا أنكر أنني انزعجت من تصرفات هذا الشاب الطائشة التي لا تحمل أي معنى هادف فمالجدوى من اعتناق الشخص لديانة سماوية محددة وهو لا يعلم أركانها و مبادئها او حتى قصتها...إنه فقط يعشق تجربة كل شيئ...يحب أن يتذوق من كل صحون الحياة وهذا حقه لولا أنه تجرأ فاعتبر ديننا أيضا واحدا من هذه الأطباق....
نظرت إلي سهام بشرود ثم أردفت قائلة :" ماقصتك يازينب مع هذا القرنسي "
ابتسمت بخجل ثم قلت :" لا شيئ ...مجرد صدف تجمعنا "
عمزت ابنة عمتي بمكر ثم استطردت :" لا هذا مستحيل العبي غيرها يا ابنة خالي "
فقاطعتها أختي قائلة :" كم يعجبني ذاك الشاب " ثم أردفت ضاحكة :" إنه يختلف عن الفرنسيين كثيرا لم يرث منهم إلا جمالهم "
فشاركتهما أن تلك الضحكات قائلة :" نحن أجمل منهم يامريم ...أين الثقة بالنفس "
ثم ابتسمت سهام بعفوية وهي تلوح بأنظارها نحو السماء قائلة :" استمتعا انتما بجماله يازينب ولكن اتركا لي ابن بلدي "....وانفجرنا كلنا ضاحكات ثم راحت أختي تقول :" مابكن أخي أوسم منه بكثير "
نظرت أنا اليهما بتأمل وبعدها ضحكت بسخرية قائلة :" إياك أن تمدحي علاء في حضوره يامريم ...إن غروره صعب جدا "...ثم تنهدت سهام باستياء وأردفت متمنية :" ولكن ليته يعود أولا ثم نمدحه أو لا تلك ثانويات "
أدلف ابن عمي إلى غرفتنا غاضبا وقد ارتسمت ملامح التوتر على وجهه ثم خاطبني بسخرية :" ما انت فاعلة يا آنسة بالضبط "...تفاجأت من ماقاله ثم قلت بحيرة :" ماذا هناك ؟ "
:" ذاك الفرنسي ماقصتك معه "
قال هذه الجملة بهدوء ثم أتبع صارخا :" ألا تعلمين أن سيرتك على كل لسان هل انت مجنونة "
تخوفت قليلا من صراخ آدم فهو صلب نوعا ما وصارم ولا يعلم معنى للطيبة في حضور فرنسا عكس علاء تماما الذي اعتدنا منه النضج والرزانة ثم تكلمت بصوت خافت خشية من أن اثير أعصاب ابن عمي وأنا في غنى عن ذلك :" أقسم أنها مجرد صدف كان يساعدني حين كنت..."
ولم يسمح لي بإنهاء جملتي ثم خاطبني آمرا ومهددا :" الأعمال الثورية انتهت يا زينب ولا نقاش في الموضوع "
:" هل أنت مجنون لا مستحيل لن تمنعني مادام أخي قد وافق فلاشأن لك بي "
ابتسم آدم بهدوء وهو يحاول قدر المستطاع كبت غضبه ثم قال :" هل أذكرك بما ورد في الرسالة يازينب هل أذكرك أن أخاك حاليا غير موجود وأنني أنا الوصي الوحيد عليكن "
اغتضت كثيرا من كلامه وأحسست بالإستعباد والتسلط ثم أخرجت ذلك الظرف من حيث كنت أخفيه بسرعة وفتحت الرسالة وخاطبته بغضب :" وهل تظن أنني بلهاء ياهذا حتى لا أميز أخي عن غيره "
ذهل ابن عمي بشدة من كلامي واستطرد قائلا :" مالذي تقصدينه؟ "
:" هذا خطك يا آدم وليس خط علاء ....أجل منذ صغركما تتشابهان في طريقة الكتابة ولكن تختلفان كثيرا في طريقة التعبير فأخي ليس جافا في مشاعره "
انتفض آدم بغضب ثم صرخ بوجهي قائلا :" كلا إن هذا الكتوب جاءني من علاء وخطي لا يشبه خطه بتاتا ما أدراك انت...وكيف تتهمينني بذلك "
ابتسمت باصطناع وقد نجحت في إثارة أعصابه بتلك الابتسامة واستمررت قائلة :" لا تحاول خداع فتاة ثورية يا آدم أنا لست حمقاء ومن المستحيل أن يستطيع علاء إرسال اي شيئ حاليا وفي الوقت الراهن كما أن أخي لا يكتب بتلك الطريقة ولايناديني غاليتي أصلا إنه يناديني أختي فحسب وتلك الكلمة من لسانه أطيب من رائحة المسك بالإضافة الى أنه لا يتحدث عن مريم بذاك اللطف أبدا بل دائما ما يناديها بصغيرتي المزعجة حتى في أشد الأوقات صعوبةومن المستحيل على حد علمي بتصرفات أخي أنه كان ليكتب عن سهام بتلك البرودة بعد كل ماحصل يا آدم بالإضافة إلى أن علاء لايكتب في نهاية رسائله إلينا أخوكما علاء بل هو دائما ماينهي رسائله بشقيقكما المحب علاء حتى يجعلنا نحس بقربه إتجاهنا ولا أظن أن ردة فعل أخي حتى ولو على كانت لتكون باردة هكذا اتجاه استشهاد جدتي وعمتي "
صمتت للحظات ثم قلت باستياء :" لما أوهمتنا بكل ذلك ....لما كذبت علينا يا ابن عمي؟"
وصرخت ابنة عمتي غاضبة :" ولكن كيف تجرأ على ذلك "
جلس آدم على الكرسي ثم زفر زفرة استياء وقلة حيلة بعدما شرد في عيون سهام للحظات واتبع يقول :" لقد كنت مضطرا حتى أخرجكن من حالة الكآبة التي كنتن فيها ...ظننت أن مراسلة علاء لكن ستكون أفضل ماسيرفع معنوياتكن آنذاك "
انفجرت شقيقتي باكية بعدنا تغلغلت الدموع في عينيها وقالت :" لا أصدق أنك فعلت بنا هذا "
ثم تكلمت سهام بغضب قائلة :" وأين علاء حاليا هل سمعت أي شيئ عن أخباره "....وفجأة ومن حيث لم نحتسب تسابقت تلك الدمعة مع مشاعر ابن عمي وهزمته في إخفاء حزنه لتتسلل أخيرا على خده معلنة إنطلاق الحقيقة من لسانه وهو يتحدث قائلا :" لقد استشهد قبل شهر ".....ويا لسواد الأيام في صدماتها و حرقتها وما أصعب صرخات النجوم في سماء الحب وما أقذر فرنسا واحتلالها وما أسوء وما أفظع مرارة الفقدان والموت....تدفقت الدموع من عيني كالشلال من دون توقف واكتفيت في إنكار هذا الواقع المر محاولة تغييره بعدم تصديقي قائلة :" انت تكذب "
وتقدمت شقيقتي بغضب نحو ابن عمي وبدأت تضربه على صدره من دون توقف وهي تبكي بحرقة كبيرة غير مقتنعة بما قاله وتكتفي بتكرار هذه الجملة :" لا أخي لم يمت أنت تكذب أنت تكذب "...ثم بحركة فعل لا إرادية ضمها آدم نحو صدره بقوة وهو يقول :" البقية لله يا مريم ...توقفي أرجوك "......أما ابنة عمتي فقد أغمي عليها مباشرة فوق الأرض بعدما تمايلت قليلا وهي تمسك برأسها غير مستوعبة للصدمة وغير مصدقة لكل ذاك الكلام الذي حطم قلوبنا تحطيما ...هي أختارت الهروب من الواقع وانا لم استطع الهروب من شيئ لم أصدقه أصلا وأنتظر أن يقرصني أحد ليقول لي زينب استيقظي مابك لقد كنت تحلمين وهكذا كنت أنا في صراع نفسي محتم بين عقلي وقلبي غير قادرة على مساعدتها أو التقدم نحوها لأنني لو خطوت خطوة واحدة بعد لكانت انتفضت روحي من مكانها واعلنت سفرها نحو خالقها.....جثوت هناك أين كنت واقفة وبدأت أبكي وأصرخ بلا توقف حتى كدت أن أصاب بالجنون ولم أدري مالذي كنت أفكر فيه آنذاك فلقد سبق وفقدت أغلى الناس على قلبي ولم تنتبني تلك الحالة الهستيرية ...أحسست بنبضات قلبي تتسارع بطريق مخيفة وغير متناسقة وشيئ ما في داخلي يقطعني إربا إربا ولأول مرة في حياتي أتمنى لو أنني لم أخلق أصلا ولم أكن موجودة في هذا العالم....أطلقت أنين الألم المتصاعد مع كل زفرة هواء تخرج مني بتثاقل وأسندت رأسي على الحائط بعدما اشتد بي الصداع من كثرة ما أهدرت من عبرات يومها ...أحسست أنني بكماء وخشيت أن تكون الصدمة فعلا قد أثرت على حواسي وحرمتني من صوتي لأنني عجزت عن النطق بأي كلمة ....ولكنني ارتحت بعد عدة لحظات لما تكلم لساني من دون وعي مني قائلا ومتحسرا بنبرة محترقة :" أريد أخي "....نظرت شقيقتي باتجاهي بعينيها المنتفختين ثم أردفت قائلة :" لقد تخلى عنا كما فعل والدانا...لقد رحل يازينب "
صرخت بوجهها غاضبة يعتصرني الألم ويسحق كل جميل في حياتي مستطردة بذلك :" أخي لم يتخلى عنا ياناكرة الجميل...لقد استشهد الا تميزين بينهما؟"
أجهشت مريم بالبكاء وأمسكت بإحدى الوسائد وأخذت تشدها نحو صدرها بقوة وهي تعض على شفاهها بأسنانها حتى أخذت شفاهها تنزف دما من شدة القوة المطبقة عليها فخاطبتها بغضب آمرة لأنني شعرت بالذنب والشفقة اتجاهها :" مريم هدئي من روعك .....توقفي عن ذلك إن شفاهك تنزف"
أنت تقرأ
اميرتي تحت الحصار للكاتبة ندى معمري
Romanceعندما يدق الحب أبواب الحرب.....هل سمح لقلبه بالتغلب على وحشه....هل حقا لايصلح الا للحرب.....هل سيضحي لأجلها وقد أعلنت عليه عدوانها......منتهى العشق بين الاحتلال والمحتل...