وأسندت رأسها على كتفي متحسرة وعينيها تدمع :" حتى أنه لم يأكل شيئا يومها يازينب "
:" توقفي أرجوك ياسهام لما تفعلين بي ذلك "
ثم أردفت تقول :" كان متعبا جدا ومريضا ولكنه لم يشتكي لأحد وحاول معاملتنا بطريقة طبيعية كعادته "
:" لقد كان غاضبا جدا مني ومستاءا فأنا منذ صغرنا اعتدت أن أخذله ورغم ذلك عاملني وكأن شيئا لم يكن "
:" ياليتني يومها صرخت بأعلى صوتي وأنا أجيبه بموافقتي فمن هذه الحمقاء التي تفكر في رفضك يا علاء "...إنذهلت مما قالته فخاطبتها مستفسرة والدموع قد غلبت مشاعري :" لاتقولي أن أخي قد سألك عن الزواج "
:" أي زواج هذا يازينب لقد رحل وأخذ قلبي معه فبأي قلب سأعيش من بعده وبأي ضمير سأتزوج غيره "....:" أكاد أنفجر يا سهام ..إن طيفه يكاد يصيبني بالجنون أستيقظ في الفجر فأتوهم أنه يرتل القرآن كعادته في غرفة الإستقبال فأسرع نحو الغرفة وأجد مضجعه المعتاد خاليا من أي أثر له ".....
:" منذ ذلك اليوم يازينب وأنا أراه في كوابيسي ممددا مخضبا بدماءه على أرض جرداء قاحلة ليس فيها بد من الحياة فأصرخ وأبكي وأناديه ...ولكنه لايستيقظ إنه نائم وقد ارتسمت ابتسامة جميلة على وجهه المدرج بالدماء "
:" هذه الرؤيا يازينب ستفقدني عقلي ...لو تعلمين كم صرت أخشى من النوم "
ابتسمت أنا بهدوء وقد ترقرقت من عيوني عدة عبرات حزينة واستطردت قائلة :" كيف سأنساه ياسهام وكلماته لازالت ترن على مسامعي...كم اشتقت لكلمة أختي ...كم اشتقت اليها عندما تصدر منه.."
:" لا ألومك يازينب على اشتياقك فحبه في قلبي سيقتلني حتى قبل أجلي "
ابتسمت وعلى وجهي تبللت تلك الملامح ثم قلت :" كنت أنام بين أحضانه وأنا صغيرة بعد استشهاد والدي...كان صغيرا وقتها وعمره لم يتجاوز الثانية عشر إلا أنه كان يستيقظ كلما سمعني أبكي شوقا لأمي فيربت على شعري ويقبلني ويطبطب علي حتى أعود إلى النوم وكنت ألمح تلك الدمعة تتسلل على خديه من حين الى آخر إذا ماتذكر والدي أو حلم بشيئ ما عنه قد أفزعه"...
:" لقد رأيته يومها يازينب كان يسند جسده إلى إحدى زوايا الحائط في البيت وكان يبكي بهدوء حتى لايسمعه أحد ...دخلت فوجدته على تلك الحالة ورغم أنني كنت صغيرة وقتها إلا أنه كان يعني لي الكثير وقد استولى على قلبي ومن فيه ..كنت أشعر بالضيق إذا ماتألم علاء..سألته يومها عن سبب بكائه ولكنه لم يجبني وازدادت نبرة بكائه حدة فقلت له إن الرجال لا يبكون ولكنه إدعى أنني غير موجودة واستمر في ذلك ...أحسست بأنه كان موجوعا ومتألما جدا ولكن لم أستطع أن أفعل شيئا...وعند ذلك دخلت انت يازينب تنادينه باسمه وبمسحة خاطفة من كفيه أعاد إلى وجهه إشراقته الجميل وأسرع نحوك حتى لاتلحظي دموعه ثم خاطبني هامسا وهو يقول :" لاتخبريها ياسهام أرجوك "...والتزمت انا يومها الصمت وبقيت أحترق لألمه والى يومنا لازلت أحترق اذا ماتذكرت بكائه في تلك الليلة...كم كان يحبك يازينب "
انفجرت باكية وبكلمات شبه متقطعة قلت :" لم أعد أتحمل غيابه...إلى متى سيغيب عنا هكذا ...إلى متى ينوي تعذيبي هكذا...أين أخي ...أخي لم يمت لازال حيا كلكم تكذبون "
جائني ذاك الصوت الرقيق يدق أسماعي معلنا عن قدوم ضيف ما :" حبيبتي زينب لديك زوار "
أشرقت بإطلالتها المعتادة الجذابة صاحبة الشعر الأشقر والعينان الخضرواتان بخطواتها المتسارعة وهي تغطي نصف شعرها بشال رقيق تلقيه وكأنها لاتلقيه بل يزيد جمالها سحرا وجاذبية بتلك الابتسامة الزاهرة المستنارة التي ارتسمت على وجهها الأبيض المستدير ....كنت أنا ألبس الحايك وقتها بعدما صليت به صلاة العصر وقد تدلت بضع خصلات سوداء على وجهي منسابة نحو كتفاي وتحته تبدوا تلك العباءة الوردية الواضحة المطرزة بكل أشكال الزهور ...بعينان منتفختان ومحمرتان ووجه شاحب وملامح ذابلة وحزينة مثيرة للشفقة بكل معاني الكلمة....صرخت بأعلى صوتها مندهشة بعدما عانقتني وضمتني الى صدرها وهي تقول :" حبيبتي مابك لما كنت تبكين "
غرقت في أحضانها وأنا أشهق بشدة قائلة :" خديجة لقد دمروا حياتي دمروها "
:" مهلك ياقلبي من فعل بك هذا ؟"
:" لقد قتلوا أخي "
تقول بذهول :" قلت علاء قتل ؟؟؟"
أجيبها بنغمة صوت متباكية :" أجل "
:" إنا لله وإنا اليه راجعون ....لاحول ولاقوة الا بالله "
:" حسبك الله حبيبتي لاتبكي "
وأخذت تمسح عني دموعي بأناملها برقة شديدة وهي تستطرد قائلة
:" لا أصدق أن علاء قد قتل...ألهذا تخلفت عن التنظيم يازينب "
أومأت برأسي بنعم واستطردت قائلة :" لكنني سأعود فورا وأكمل مابدأه أخي سأنتقم منهم أخبث خلق الله "....احتضنتني مرة ثانية صديقة العمر وهي تقول :" آه ياحبيبتي مالذي فعلوه بك تبدين مريضة ...هل أنت بخير؟"
:" لست بخير ...أبدا...نصفي الآخر رحل...نصفي مات ياخديجة فكيف عساي أكون بخير "
تقول وهي تلاطفني بيديها :" استهدي بالله يازينب مابك إنه قضاء الله وقدره ...منذ متي تعترضين على مشيئة الله ؟"
أجيبها أنا بصوت خافت بعدما أحسست بالندم والضيف على سخطي بقدر الله فالصابر عند الله فالصابر عند الله ذاك الذي يصبر على الشدائد والأهوال وهو يذكر الله ويردد بحمده أما من يقضي حياته يندب حظه ويبكي موتاه فذاك لم يعش الصبر بجل مفهومه ولم يحظى بأجر الصابرين....:" أستغفر الله الذي وكلته أمري واحتسبت لوجهه كل شيئ "
:" هكذا أريدك أن تكوني يازينب قوية وصابرة كما اعتدنا على رؤيتك دائما "
ابتسمت بعفوية من كل قلبي وأنا أمسح مابلل وجهي من العبرات ثم قلت بثقة :" هل من أخبار عن الثورة والتنظيم ؟"
قالت وهي تضحك :" حسنا يازينب ليس معي الوقت الكافي لأنتظرك حتى تتحسنين معنويا سأبدأ بثرثراتي فورا "
:" وأنا أسمعك "....قلت ذلك وقد استطاعت صديقتي أن تمسح عن قلبي بعضا من غشاوة حزنه الذي مايكاد ينقضي النهار ويحل بعده الليل حتى يستحوذ على كل قلبي من جديد ....خاطبتني قائلة :" لقد سمعت أنك تتسكعين مع فرنسي ولكنني لم أصدق لأنني أعلم أن كارهة فرنسا لاتفعلها "
:" ولما لا تفعلها ؟...حرام عليها وحلال عليكن؟".وأخذت أبتسم بخبث أحاول إخفاء ضحكتي...رمقتني صديقتي بنظرات مخيفة وهي تقول :" لا أنت تمزحين ؟"...أطلقت ضحكة جميلة بين شفاهي رغم أن الحزن كان واضحا بين تصرفاتي إلا أنني ضحكت يومها بعفوية وقلت :" أجل ياخديجة...إسمه ألكس ولست أدري كم يبلغ من العمر تماما لكنني أظنه لايتجاوز الخامسة والعشرين...انت الوحيدة من سأخبرك بهذا ولكن ألكس ليس مجرد شاب فرنسي أتسكع معه إنه أكثر من ذلك بكثير "
تسألني بذهول وهي تبتسم مصطنعة حتى تخفي اندهاشها :" خفيفة الظل كعادتك ياصديقتي "
:" أجل أعلم أنني خفيفة الظل لكن عندما يكون موضوع كلامي هو ألكس أكون في غاية الجدية "
:" سأقتلك يازينب...قولي أنك تخدعينني لإثارة أعصابي فقط أعلم أنك تعشقين مضايقتي ...ليست أول مرة "
أجبتها بنبرة جدية حقا وأنا ألوح بأنظاري نحو سقف البيت متحاشية وقوع عيناي بين أنظارها :" كلا ليس هذه المرة...صدقيني لست أمزح "
وعندما أدركت صديقتي أنني في تلك اللحظة كنت أتكلم بصدق ومصداقية لا أنوي المزاح استسلمت لسخرياتها وهي تقول ضاحكة :" يا إلهي لا تقولي أنك وقعت في كرهه "...واستمرت تضحك :" إنها لعنة أمنحوتب ياناس "
أصبت بحالة مرضية من الضحك المتواصل استمرت لعدة دقائق ثم قلت :" نعم إنها لعنة وحلت علينا ياخديجة ماذا عسانا نفعل "
ابتسمت صديقتي وراحت تقول ساخرة :" إنتظري حتى تسمع فاطمة أقسم أنها لن ترحمك "
:" صدقيني لو كنت تعرفينه لما احترت من موقفي ياخديجة "
تقول في استهزاء :" رائع ...وسيم...طيب...يحبك...عفوا عفوا ...فرنسي...إلغيه تماما....اسمعي يازينب كل تلك الشروط تصبح بلامعنى إذا تدخل الشرط الأخير وهو كونه فرنسيا "
:" ولماذا يا آنسة منذ متى ونحن نحكم على الناس بتلك الطريقة "
ضحكت بعفوية وهي تحاول إغاضتي بحركات يدها العشوائية وهي تقول :" لا نحكم على الناس هكذا ولكننا نفعل بالنسبة للفرنسيين ....حقا خيبت ظني يامثلي الأعلى "....وأخذت تبتسم وتضحك تارة ثم تسكت وتستمر بعدها ضاحكة وهي تهمس بصوت أستطيع سماعه :" أنظر يابلدي آخر زمن نحن نحاول تحريرك وهي تستمتع مع الأعداء "
:" كفى ياخديجة هذا الذي تدعينه بالعدو ...لولا وجوده لما استطعت أن أنفع بلدي في شيئ "
:" تفضلي ياآنسة إبدئي بالشرح "
قالت ذلك وهي تتنهد استعدادا لسماع القصة فسردت عليها بدوري حكايتي مع ألكس منذ أول لقاء حتى لقائي معه قبل أيام ....وعندما أنهيت خاطبتني صديقتي وهي تضع يدها على قلبها وتقول إعجابا بألكس :" يااااي ماهذه الرومنسية "
ابتسمت بخجل وانا أقول :" أية رومنسية ياهذه ...حتى في هذا تحسدينني "
:" أليس لديه شقيق يازينب "...وانفجرت صديقتي ضاحكة بينما أردفت أنا أقول :" لا أعلم لم أحقق معه أيتها المجنونة "
:" وتقولين أعتنق الإسلام لأجلك ؟...واااو "
نظرت إليها وأنا أتأفف ضاحكة في نفس الوقت مستطردة :" هل قلت أنا ذلك؟"
:" حقا أريد واحدا مثله يازينب "
وأخذت صديقتي تضحك وهي تتمايل كالمجنونة حتى خلت أنها شربت شيئا ما غير طبيعي وقلت لها :" إنهم لا يبيعونهم ياحامية الوطن...إياك أن تنطقي بحرف أمام الحاج مصطفى ...والله سيفتلني إذا علم بذلك "
:" كلا يازينب بل سيطلب منك أن تغريه ليوافق على مساندة قضيتنا وهذا سيكون لصالحنا حقا أمر رائع "
خاطبتها باستنكار معبرة عن رفضي :" وهل تظنينني إستغلالية لهذه الدرجة حتى أستعمل ألكس لشيئ كهذا "
:" إنه وطنك يازينب مالذي تقولينه...إنها الجزائر ألا تستحق ؟؟ "
هززت رأسي مصممة على عكس ذلك ثم قلت :" قلت لك لن أفعل ذلك ياخديجة ورأيي هذا لن يتغير "
:" أنت أدرى على كل حال "...
:" افتحي الباب يازينب لابد أنها فاطمة لقد أخبرتها عن زيارتي لك "
رغم أنني كنت متأكدة من وجود فاطمة خلف الباب إلا أنني عمدت على تسوية حجابي جيدا بحيث يتغطى كل ماظهر من شعري......
فتحت الباب بهدوء وكعادتي التي لا أغيرها لم أسأل عن الطارق حتى لا تتوتر نفسيتي إذا كان شخصا أكرهه فأمتنع عن فتح الباب أصلا بحجة أنني لست منافقة ولا أخفي مافي قلبي...وقفت بشموخ وقفة جميلة تزينها ثيابها العصرية التي ترسم نموذجا واضحا مع طيات جسدها....كان شعرها أسود اللون وناعما ولكنه كان داكنا أكثر من شعري لدرجة أنه يلمع ذاته من ذاته ولم يكن طويلا كفاية حتى يغطي مفاتنها التي وضحتها جيدا ملابسها الفرنسية الضيقة ....يتدلى على عنقها عقد رائع وجميل يعكس تقليد بلدنا وكان جد متناسق مع ماكانت تتزين به...ابتسمت أنا في غيظ من قدومها ثم أتبعت قائلة :" وعليكم السلام"
ذلك لأنها لم تلقي التحية عند فتحي للباب وتوجب علي التلميح لها بذلك فماذا تظن نفسها شيئا عظيما أو شخصية إخترقت أبواب التاريخ ...ماهذا الترفع الذي يعكس وقفتها الغير محترمة وماهذه الثياب الغير محتشمة وبأي جرأة تضع عقدا من طراز جزائري على عنقها....وقحة كعادتها ولن تتغير....أجابتني في عدم مبالاة وهي تقول :" بونسواغ "....فأردفت قائلة بغضب :" مساء الشؤم عليك أيتها الخائنة "....وكعادتها الباردة استقبلت إهاناتي عن الخيانة برحابة صدر ﻻانها تعشق ذلك وتعتبره مديحا...ثم قالت مهددة :" ألا تنوين الإبتعاد عن حبيبي يا أنت ؟"
ضحكت بسخرية ثم قلت :" متى تنوين أن ترحمي نفسك وتحفظ ما تبقى من كرامتك المضمحلة يارانيا حقا كم أشعر بالشفقة اتجاهك "
فأجابتني مبتسمة وهي تحاول إغاظتي وما أغاظتني وماحركت في مشاعري شعرة واحدة وراحت تقول :"انت يامن تدعين كرهك للفرنسيين ...انت من يجب أن تحفظ ماء وجهها...أتظنينه يحبك لأنه يهتم لأمرك...دعيني أوضح لك شيئا عن ذلك الشاب ....اهتمامه لايعني حبه وحبه لا يعني اهتمامه...انت مجرد نزوة عابرة يرضي بها حقده للجزائريين وسرعان ماسيتخلى عنك عندما يشبع من مداعبتك أيتها العاشقة المسكينة ".....:" قلت عاشقة مسكينة ؟؟؟"
واستمررت أخاطبها باستهزاء :" حقا تذكرينني بفتاة ما " ورمقتها بأنظاري وكنت أقصدها ولكنني تركت الغمزة للبيب حتى يفهمها لوحده ....
:" على كل حال لقد حذرتك فهو من أخبرني بذلك "
سألتها بفضول :" بماذا أخبرك؟؟"
ابتسمت بسخرية وهي تنظر ألي نظرة شاملة لتستصغرني أمام عينيها وما صغرت ولكنني كبرت في عيون نفسي كثيرا لأن خائنة الوطن تحقد علي....ثم قالت :" إسأليه "...بلامبالاة وبثقة زائدة تعالت كلماتها وانصرفت بسرعة وبينما هي راحلة اغتضت كثيرا وخاطبتها من بعيد بأعلى صوتي :" وإياك أن تلبسي شيئا مرة أخرى يوحي بالإنتماء الى بلدي ياعديمة الأصل ...هل فهمت "....لكنها تجاهلتني واستمرت تسير حتى غابت عن أنظاري...وقحة في بيت عمي ولم ترحمني من جنونها....
دخلت منسحبة نحو صديقتي وأنا أقول :" لم تكن فاطمة إنها رانيا الحمقاء "
:" ما الذي تريده منك تلك المغرورة "
ابتسمت ثم قلت :" تخيلي منذ علمت باهتمام الفرنسي اتجاهي صارت دائما هكذا تهددني حتى ابتعد عنه "
طرق الباب من جديد وأسرعت لأرى من الطارق ولكنني سألت هذه المرة فالمؤمن لا يلدغ من نفس الجحر مرتين:" من حضرتك؟؟"
:" أنا "
:" حسنا يا أنا تفضلي أنرت البيت "
وتبادلنا الضحكات ثم عانقنا بعضنا البعض وتبادلنا القبل وعدنا إلى حيث كانت خديجة فاستطردت قائلة :" هاقد جاءت أخيرا فاطمة "
نادتها خديجة وهي تغمز بإحدى عينيها قائلة :" تعالي تعالي يا فاطمة واسمعي آخر الأخبار "
ضحكت بعفوية ثم خاطبتها ساخرة :" أبهذه السرعة يا ناقلة الأخبار السريعة "
وتحدثنا كثيرا يومها ولا أخفي عليكم أن زيارة صديقاتي يومها كان أكثر ما ينقصني ليرفع معنوياتي فلايوجد ما هو أفضل من صديق يصفعك حين تخذلك الحياة حتى تعود لوعيك وتبتسم رغم كل شيئ ولا أفضل من صديق يعانقك إذا ما نزلت دموعك على خديك ولا أفضل من صديق يوبخك ويهينك لتغير نفسك إذا ماوجد فيك شيئا مشينا وجب عليك تغييره...آه ما أجمل الصداقة....
:" زينب سنصعد بعد خمسة عشر يوما إلى الجبال هل تعلمين "
:" حقاا؟"
وسألت :" هل سترافقان انتما المجاهدين ".
تجيب فاطمة بإصرار :" أنا سأرافقهم لايمكنني أن أبقى هنا بينما خاطبي يخاطر بحياتك هناك أما خديجة فلا أظنها تريد الذهاب معنا "
تقول خديجة مأكدة :" قلت لك يافاطمة أن الأمر ليس بيدي ...لمن تريدينني ان أترك أخي إذا ذهبت تعلمين أنه لايزال صغيرا "
ابتسمت بانشراح ثم قلت :" لا بل هو كبير أتذكر أن أخي كان يعتني بنا أنا وشقيقتي عندما كان أصغر من منه "
تقول خديجة باستياء وقد نزلت دمعة منها تحية لأخي الراحل واستطردت قائلة :" ليس كل الفتيان مثل علاء يازينب فالشاذ يحفظ ولايقاس عليه "
أعود مستفسرة من فاطمة وأنا أحدثها :" وهل سمح لك أحمد بمرافقته "....تجيب بثقة عمياء ليست في محلها :" ليس لديه حل آخر فهذا قراري"
:" حسنا فالنتقي غدا صباحا للالتحاق بالاجتماع حتى نفهم الخطة جيدا "
وانقضى ذلك اليوم بسرعة كبيرة معلنا على انسدال ستائر الليل التي تجلب معها ظلمتها وتذكرني في أسوء الأمور وتعود بي الى تلك الأيام السوداء.
استيقظت باكرا في ذلك اليوم البارد الماطر وصليت فجري كما اعتدت أن أفعل دائما فوجدت إبن عمي يجهز نفسه لارتياد المسجد وقد بدا في غاية الحيوية فألقيت عليه السلام
" وعليكم السلام والرحمة يازينب ..هل صليت؟"
أجبته مبتسمة :" أجل والحمد لله "
وعندما علم آدم أن هناك من ورائي شيئا ابتسم ثم خاطبني :" ماذا تريدين يازينب؟"
قلت له :" لقد اعتاد علاء على اصطحابي معه إلى المسجد حين يكون في بيتنا ....كان يقول لي أنه لايريد أن يحرمني من ذلك الأجر العظيم "
ضحك ابن عمي بعفوية ثم استطرد :" هذا فقط؟"
فأومأت برأسي مبتسمة بنعم وقلت :" هل تريد أن أطلب المزيد؟؟"....ثم استرسلت ضاحكة بينما أتبع هو يقول :" إذن أسرعي جهزي نفسك لا نريد أن نتأخر "
:" رائع "....هتفت منتصرة وأسرعت لتجهيز نفسي ولم أتأخر كثيرا فسرعان مالبست الحايك الذي لا أحبذ في العادة ارتداءه لأنه ليس نوع الحجاب الذي يحظى بإعجابي كما أن جدتي كانت ماهرة في الخياطة وهي من اعتادت على خياطة حجاباتي على مقاسي وذوقي...على كل حال أحيانا أحب الإستمتاع بتقاليد بلدنا لذلك لا أضيع فرصة تجريبها أبدا خاصة أنني أفعل ذلك لأغيظ الفرنسييين فحسب ولا أكثر من ذلك....
كانت قطرات المطر تنقر على ثيابنا أنا وابن عمي بهدوء وكان اليوم جميلا ماطرا ينشر لوحة جميلة في الأجواء تزينها حبات الغيث المتناثرة بتمايل هنا وهناك....التففت حول نفسي شبه دوري وأنا أسبق آدم ثم قلت وأنا أرفع يدي نحو السماء لأستشعر أمطار السحاب ثم قلت :" ماشاء الله في خلق الله كم هو جميل هذا اليوم يا آدم "
ابتسم آدم بانشراح ثم راح يقول :" يبدوا أنك تحبين الشتاء على عكس أخيك تماما ...كان دائما يقول لي أن المطر نقمة على الجزائريين "....لم يعجبني كلام آدم ولم أؤيد رأي أخي واكتفيت بسحب أسفل شفاهي نحو الأمام معبرة على عدم اقتناعي وأنا أقطب حاجبي ثم قلت :" لست أدري لكن ما أعلمه أن الأمطار نعمة من الله كما أنني مستغربة كيف أن أخي يقول ذلك فلاطالما كان يقول لي في أيام الصيف ....متى سترحل جهنم هذه عنا..."
ابتسم ابن العم ثم قال :" دعيني أكمل كلامي أولا يازينب "
ابتسمت بخجل ثم قلت :" تفضل "
:" لقد كان يقول لي أن الفرنسيين معتادون على الأجواء الباردة في بلدهم وأن نزول الأمطار يفرحهم كثيرا بحيث ينزع عنهم حنينهم اتجاه وطنهم الأصلي كما أن المجاهدين المعتقلين يعانون كثيرا في السجون الفرنسية أثناء فصل الشتاء من ذاك العذاب الذي يصحبه سوء المعاملة "
وأتبع ابن عمي مستكملا :" حتى أنا لم أكن اوافقه الرأي وكنت أصر على عكس ذلك ولكنه كان يجاريني دائما ويقول أننا لن نستطيع تحرير هذا البلد ما دمنا لانحس بآلام بعضنا "
كانت حبات المطر متناثرة على كل وجهي لذلك لا أظن أن آدم قد انتبه آنذاك لسيل جيوش الدموع التى تدفقت بانهمار على وجنتاي ورحت أقول :" بطل أخي في كل شيئ حتى في تفكيره ....رحمة الله عليه حبيب قلبي "
وصمتنا لعدة لحظات كانت كافية لاستجلاب سحابة الألم على فقدان أخي بحيث ظل آدم ساكتا وعلمت أنه كان حزينا بشدة لذكره أخي يومها...سألته بعدما تمالكت نفسي :" من أخبرك عن استشهاد أخي يا آدم "
أجابني ابن عمي مبتسما ومتحسرا على حالتي إذ أنه شعر أنني لازلت غير مصدقة لما حصل :" أخبرني مراد ...كان معه وقد أطلقت عليه رصاصة في قلبه ...أخبرني مراد أنه استشهد مباشرة وأنه لم يستطع نقل جثمانه لأن إطلاق النار كان عشوائيا والناس منتشرة في كل الإتجاهات وبعد ذلك تمت محاصرة المنطقة ولم يستطع صديقنا العودة الى علاء "
ابتسم ابن عمي بغيظ وألم ثم استمر :" حتى مراد لم أره من يومها لابد أنهم اعتقلوه سرا "
سألته قائلة :" وأنت ؟.."
:" أنا ماذا ؟ "
:" لما لم تنظم إلى الثورة ؟ أقصد كان أخي رفيق دربك فكيف هو انظم وانت لم تفعل "
ابتسم آدم ثم قال :" ومن قال لك لم أنظم ؟ "
تفاجأت مما قاله وبقيت ارمقه بنظرات الإستغراب فأتبع قائلا :" لقد انضممت منذ سنين إلى صفوف الجهاد وكان عمري آنذاك ستة عشر سنة...بقيت حوالي سبع سنين ولكن بعد وفاة والدي وجب علي إيقاف العمليات الجهادية فإخوتي لايزالون صغارا وأمي لايمكنها تربيتهم لوحدها "
:" حقاا؟؟"
قلت ذلك بعدم تصديق بينما إكتفى آدم بالإبتسام وهو يقول :" أجل بقيت سبع سنين ولم أستشهد وبقي أخي علاء عامين واستشهد فورا سبحان مقدر الآجال "
وصلنا إلى بيت الله وقد ابتلت كل ثيابنا فدخلنا إليه حيث توجهت أنا ناحية النساء في مصلى صغير مخصص لهن بالذات وتوجه إبن عمي إلى حيث كان الرجال مجتمعون أبطال الأمة هم رواد المساجد وفي هذه السنين صار الكثير من الشباب يرتادون المسجد وأغلبهم إذا شئنا قلنا ثوريين أو مجاهدين تذهل عندما تراهم وأعمارهم بحيث لاتتجاوز أعمارهم الثلاثين وهناك الكثيرون من ذوي الأعمار الأصغر من سبعة سنة....وفي الحقيقة تقريبا كل الشعب الجزائري في تلك السنين كان ثوريا فصدق العربي بن مهيدي عندما قال :" ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب "
وأما من لم يكن ثوريا فقد كان مؤيدا للاستقلال أي المختصر المفيد كانت الأمة الجزائرية متماسكة في مابعضها بيد واحدة....
دلفت إلى حيث كانت النسوة والقيت السلام كاملا ...ليس نفاقا ولكنه بيت الله....السلام عليكن ورحمة الله تعالى وبركاته ومغفرته "
فأجابتني النسوة برد التحية كاملة وقد استعددن لبدء الصلاة....أقبلت خديجة نحوي وقد كانت أنتهت صلاتها ثم قبلتني وراحت تقول ضاحكة :" إشتاق إليك الجامع يازينب "
فضحكت بدوري وأنا أقول :" بل إشتاق إلى أخي وليس إلي "
:" هل جئت مع آدم "
أجبتها :" أجل...ماذا عنك هل رافقك حسام ؟ "
:" نعم إنه يرافقني دائما ويصلي بدوره مع الرجال "
سألتها باستغراب :" ألم تعد فاطمة ترتاد المسجد ؟"
فأجابتني وهي تضحك غامزة :" بلى ولكن تأتي مع أحمد ولا ينتظرني الأستاذ حتى أكمل صلاتي ويستعجلها في الذهاب "
سألتها وأنا أقطب حاجباي :" ولكن هل يجوز لها شرعا أن تختلي بخاطبها وتأتي معه لوحدها "
ضحكت صديقتي بعفوية وراحت تقول :" لا لايجوز وتدعي أنها عالمة فاضلة وتعطيني دروسا في الحجاب....تخيلي ماذا قالت لي اليوم...قالت أن ارتيادي للمسجد وأنا في الحقيقة غير متحجبة يعد من النفاق "
استرسلت ضاحكة ثم قلت :" لا لادخل لذلك في الصلاة كل عمل منفرد عن غيره "
وأتبعت مبتسمة بمكر :" هذا لا يعني أنني أشجعك ...يهديك الله "
فاحمر وجهها خجلا وأردفت قائلة حتى تغطي عن إحراجها :" حتى انت لا يمكنك المجيئ مع آدم لوحدكما "
استرسلت ضاحكة ثم استطردت :" الضرورة تبيح المحرمات وابتعدي عن طريقي دعيني أصلي أيتها الثرثارة "
وصليت إلى جانب فتاة شابة وتبدوا ملتزمة...حسنة الخلقة ....وعندما أنهينا صلاتنا تشاركنا بعض الدعاء بتحرير الوطن :" يارب في اليوم قبل الغد ....اللهم حرر جزائرنا "
وتردد النسوة :" آمين "
:" يارب إرحم شهدائنا وأسكنهم فسيح جناتك يامن لاتظلم أحدا "
:" آمين "
ثم قلت :" ياااارب إرحم أخي وصبرني على فقدانه يارب العرش العظيم "....ونزلت بضعة عبرات على خداي وراحت النسوة تردد آمين...
فتكلمت تلك الفتاة وهي تقول :" اللهم إرحم علاء يارب وآتيه الجنان من حيث لا يحتسب...اللهم صبرني وأهله عن فقدانه فمنك الصبر واليك العودة يارب "
ورحنا نردد آمين وأنا أقول في نفسي محتارة :" هل إسم علاء منتشر في ناحيتنا...ظننت أن أبي هو الوحيد من سمى هذا الإسم "
ابتسمنا مع بعضنا أنا وتلك الشابة بعدما تلاقت أنظارنا ثم خاطبتني قائلة :" تشبهين خاطبي كثيرا ياأختاه "
ابتسمت بخجل ثم قلت :" معقول ؟؟"
فذرفت من عينها دموعا احسست أن قلبها احترق معها وهي تقول :" حقا يخلق من الشبه أربعين...لو تعلمين كم اشتقت إليه "
حاولت مواساتها فقلت :" هل إستشهد "
:" أجل لقد استشهد ....كان دائما يقول لي إما أن يشهد إنتصار الجزائر أو أن يموت منتصرا بالاستشهاد ..."
ابتسمت ملاطفة وأنا أقول :" إذن كنت تحبينه "
فخاطبتني وقد علا الإستياء ملامحها :" في الحقيقة كنت أحبه كثيرا ولكنه في آخر لقاء لي معه فاجأني بإيقافه للخطبة وقد غضبت بشدة منه بينما أردف يقول لي ...ليس بيدي يا عائشة سامحيني "
:" وهل سامحته ؟"
:" سامحته أجل وبالتأكيد ....فقط لو يعود ....لو علمت أنه كان آخر لقاء به لما عاملته بتلك القسوة "
ابتسمت مواسية ثم قلت :" البقية لله يا أختي...حتى أنا استشهد أخي منذ وقت قصير وقد كان يعني لي الكثير...علينا أن نصبر ".
خرجنا أنا وخديجة ورأيت آدم ينتظرني إلى جانب حسام الذي يبلغ من العمر 15 سنة وهما مشغولان بالتحدث إلى بعضهما وسرعان ماتقدما نحونا عندما لمحانا عند باب المصلى ...
:" كيف حالك يا حسام "
:" الحمد لله نسأل عليكم "
:" نحمد الله ونشكره لا زلنا أحياء "
ابتسم إبن عمي ثم سألني قائلا :" من تلك التي كنت تحدثينها يازينب "
هززت كافي في لامبالاة ورحت أقول :" لا أعرفها ...تعرفت عليها اليوم "
ضحك آدم بعفوية وهو يقول :" تلك الفتاة يازينب هي من كان يتمناها علاء زوجة له قبل أن تجن إبنة عمتك المتهورة وتخبره بحقيقة نظرتها إليه "
:" ماذااا؟؟؟"...سألته بذهول :" هل كان أخي خاطبا"
:" ليس بالضبط ولكنهما كانا متفقين على الزواج قبل مافعلته سهام "
أحسست بالضيق ثم قلت :" وكيف أخفى عني علاء ذلك حقا لا أصدق "
ابتسم إبن عمي وقال :" كان ينوي إخبارك في ذلك اليوم لكنه لم يستطع بعد جنون سهام وأوقف علاقته مع تلك الفتاة رغم أنه كان يريدها بشدة ...أخبرني أنه لايستطيع أن يتزوج ويترك ابنة عمته تحترق برؤيته مع زوجته دائما "
أحسست بالإنزعاج كثيرا من إخفاء أخي لخطبته فأنا لاطالما اعتدت أن أخبره بكل شيئ حتى أدق التفاصيل من أتفه الأمور...أتذكر أنه يومها قال لي جدي لي عروسا مناسبة يازينب عندما كنا مجتمعين كلنا...فلماذا لم يطلعني عن قراره
..ولكن كم يؤلمني تذكر علاء بعد كل تلك الأحداث المأساوية التي باغتت حياته الجميلة...لا أصدق أن أخي قد تخلى عن فتاة أحلامه لأجل ابنة عمتي حقا لا أصدق...و في الحقيقة سهام لها معزة كبيرة عند أخي فلقد تربت معنا وربما يحبها بقدر حبه لي.
بعد عودتنا إلى البيت بقيت خديجة معي حتى تساعدني في إقناع ابن عمي على جعله يتركني أحضر الإجتماع....
:" أكمل وحدك ياحسام أنا سأبقى مع زينب بعض الوقت "
لماذا؟
تقول معاتبة :"حساااام"
أنت تقرأ
اميرتي تحت الحصار للكاتبة ندى معمري
Romanceعندما يدق الحب أبواب الحرب.....هل سمح لقلبه بالتغلب على وحشه....هل حقا لايصلح الا للحرب.....هل سيضحي لأجلها وقد أعلنت عليه عدوانها......منتهى العشق بين الاحتلال والمحتل...