المرحوم السيد غلام رضا الكسائي من العلماء الزهاد المخلصين صهر العلامة الأميني (صاحب الغدير) أعلى الله مقامهما قال:
لما كنت طالباً في مدرسة بمدينة تبريز كان خادم المدرسة رجلاً مؤدباً متواضعاً ومن أهل التقوى والصلاح يعمل بوظائفه الفردية والاجتماعية بصدق وإخلاص، وكان ذا روحية عجيبة، قليل الكلام، كثير السعي، شديد الكتمان، وهو إن كانت مسؤوليته تنظيف المدرسة لكنه يعين الطلبة في تنظيف حجرهم دون أن ينتظر منهم مكافأة وثمناً، بل وأحياناً كان يغسل ثيابهم أيضاً، وإذا رأى أحدهم يريد الذهاب لشراء حاجة تقدم إليه وتوسل منه أن يسمح له بهذه الخدمة، وبلغ به الأمر أنه كان يملأ إبريق الماء من حوض المدرسة ويحمله إلى بيت الخلاء لئلا يُتعب الطلبة ذلك، وهذا كله لم يكن من وظائفه المخصصة له كخادم للمدرسة ولكنه كان يقوم بذلك بصفاء النفس وإخلاص النية فيزرع بذلك حبّه في قلوب الطلبة ويعلمهم التواضع العلمي.
ذات منتصف ليلة خرجت من حجرتي لإسباغ الوضوء فرأيت شيئاً عجباً! رأيت نوراً روحانياً في حجرة الخادم ولم تكن الكهرباء قد عرفت بعد، حيرني الأمر بشدة وتقدمت خطوات نحو الحجرة لأكتشف حقيقة ما أرى، فلما قربت سمعت كلاماً يتردد بين الخادم ورجل آخر.
من جهة لم أكن أود الدخول عليه، ومن جهة قوي حس الاستطلاع في قلبي إذ كان ذلك النور يبهتني ويجذبني، فدنوت خطوات أخرى حتى وصلت خلف الباب فصرت أسمع الخادم يتكلم بصوت خافت ولكن الطرف الثاني لم أشخص كلامه، وقفت في حيرتي أستمع إلى صوتهما دون أن أفهم ما يقولانه وفجأة انقطع الصوت وذهب النور العجيب فلم أصبر طويلاً طرقت الباب فوراً.
قال الخادم: من؟
قلت: أنا (فلان) افتح الباب.
فتح الباب، فسلمت عليه هل تسمح لي بالدخول؟
قال: تفضل.
دخلت الحجرة وجلست ولكن لم أر أحداً غيره ولم أجد هناك شيئاً غير مألوف سألني: هل من أمر؟
قلت: لا ولكن هل كنت تتكلم مع شخص؟ قل لي الحقيقة ماذا كان يحدث هنا؟ أخبرني وإلا سوف أنبّه الطلبة الآن ليأتوا هنا ويمطروك بأسئلتهم عن واقع الحال!
قال: أحكي لك ما جرى هذه الليلة بشرط أن لا تحكيه لأحد.
قلت: قبلت الشرط.
قال: أنا موجود إلى يوم الجمعة عاهدني أن لا تظهر سري إلى ظهر يوم الجمعة وكانت تلك الليلة ليلة الأربعاء فعاهدته أن لا أفشي سره إلى يوم الجمعة كما حدّده لي.
فقال: الحقيقة هي أن سيدي ومولاي الإمام الحجة (عليه أفضل الصلاة والسلام) كان هنا وكنت بين يديه نتبادل الحديث.
فزاد عجبي وسألته حول ما كان يحدثك الإمام؟
قال: هناك فئات ترتبط بالإمام الحجة (عليه السلام) في عصر الغيبة كحواريين ذوي درجات كل فئة أقل عدداً من الأخرى، الفئة الأقل عدداً هي مكان الدرجة الأولى في القرب والاعتماد، وهكذا الطبقة الثانية والثالثة.
هذه الفئات الثلاث من حيث الناحية المعنوية والباطنية على شكل حلقات متداخلة وعندما يموت واحد من هؤلاء يختار مكانه الإمام (عليه السلام) واحداً من الطبقة التي تليها ويحل مكانه واحد من الطبقة الأخرى ترفيعاً لمقام كل من أصلح نفسه من الطبقات الشيعية العامة، تبعاً لمستوى التقوى والفضائل الأخلاقية والحالة الروحية التي اكتسبها الفرد وهيّأ نفسه بها من قبل.
فأنا في يوم الجمعة حيث يموت شخص من الطبقة الثالثة جاءني الإمام (روحي فداه) واختارني لأداء المهام في مكانه.
وهنا انتهى كلام الخادم ولم يقل شيئاً وأنا غدوت مندهشاً، خرجت من الحجرة بدهشتي وكانت حالتي عجيبة، مشاهدتي لذلك النور وسماعي لهذه القصة قد أحدثا في وجودي طوفان لا أستطيع وصفه. لم أستقر نفسياً صرت أقول لنفسي: إن رجلاً كنا ننظر إليه بعين عادية وأنه خادم لا قيمة له، هو صاحب مقام ومنزلة وسعادة يزوره الإمام الحجة (عليه السلام) بنفسه ويدعوه إلى درجة خواصه.
يا لها من عظمة خفية وكمال معنوي شامخ! لقد أحدثت هذه القضية تموجات في باطني فلم أتمكن من النوم تلك الليلة ولا حتى القيام بالعبادة.
وحيث أصبحت بدأت أراقب الخادم، رأيته خرج من حجرته كعادته اليومية وبرزانة ووقار معهود، فأخذ يعمل دون أن يرى على ظاهره ما يدعو إلى استغراب، أما أنا فقد كنت قلقاً في تفكيري ومضطرباً في نفسيتي.
ومرّ يوم الخميس أيضاً كيوم الأربعاء بالطريقة نفسها ولم أجعله يفلت من عيني، فقد كان يكنس المدرسة وينظف ويشتري للطلبة ما يحتاجونه، حتى أنني رغماً عني ما سمحت له وقلت له: لن أسمح لنفسي بالتجاسر على مقامك بهذا أنت سيدي وأنا خادمك، ولولا أني عاهدتك أن لا أفشي سرك لأعلنت للطلبة عن مقامك الرفيع.
وعند سحر الجمعة بدأ (الخادم) يعمل وكانت حالتي عجيبة لأن ساعة موعده اقتربت، وازددت مراقبة له واشتد في قلبي حب الاستطلاع لحاله، فقد حضر اليوم الموعود ماذا سوف يحدث يا ترى؟!
رأيته خرج من حجرته مع طلوع الشمس، فبدأ بعمله اليومي في المدرسة ثم أخذ يغسل ثيابه وينشرها وغسل حذاءه أيضاً ووضعه جانباً، وعند الزوال جمع ثيابه وأخذ حذاءه ثم ربط ظهره بإزار واغتسل في حوض المدرسة.
وكان الجو حاراً والطلبة في عطلة أكثرهم خرجوا من أول الصباح إلى زيارة أقاربهم والقليل منهم في الحجر أو ساحة المدرسة مشغولون بأمورهم، وكنت أحسب الدقائق باضطراب نفسي شديد عيني لم تنحرف من مشاهدة الخادم، إنها اللحظات الأخيرة من سفره مدهشة للغاية فقد جعلت نظراتي حادة تلاحقه بدقة أريد أن أكتشف ماذا سيحدث ساعة موعده مع الإمام الحجة (عليه السلام) كيف ينتقل من عندنا ليلتحق بالصفوة المقربين للإمام (عليه السلام)؟
رأيته خرج من الحوض ووقف في الشمس حتى نشف جسمه، ثم لبس ثيابه وحذاءه وأخذ ينتظر كالمسافر المشتاق! وعند أذان الظهر ومع الكلمة الأولى للأذان (الله أكبر) فجأة غاب عن عيني فقمت كالمدهوش أبحث عنه ولكن لم أجد له أثراً!
شخص كان بين أيدينا قبل لحظات كان جالساً عند الحوض وكان من أول الصباح إلى أول الزوال تحت نظري الفاحص كيف غاب هكذا يا إلهي؟!
جئت مسرعاً عند حوض المدرسة وأخذت أنادي، فخرج بعض الطلبة ليروا ما القضية فجاؤوا وسألوني ما المشكلة؟ أفهل اعتراك جنون؟
قلت: أكثر من الجنون أيها الأخوة سألوني مستغربين: ماذا تقول؟ قلت: أين اختفى الخادم؟ قال: أي خادم؟ قلت: خادم مدرستنا الرجل الذي كان يتفانى في خدمتنا.
نظروا حولهم وفتشوا ثم قالوا: غير موجود فلعله ذاهب إلى السوق أو صلاة جماعة قلت: أبداً إنه الآن التحق بالإمام الحجة (عليه السلام) فقد أصبح من أصحابه المقربين من هذه الساعة.
سألوني: ما القصة؟
فشرحتها لهم من بدئها في ليلة الأربعاء حتى اختفائه قبل ساعة، فشاركوني في الدهشة وكان الحق كذلك دهشة تحاكي دهشة، وهكذا لم ير أحد منا بعد ذلك أثراً للخادم ولا تكراراً لرؤيته.
يقول ناقل هذه القصة وهو المرجع الورع سماحة الشيخ وحيد الخراساني (دام ظله العالي) الذي حكاها في يوم (21 من شعبان/1404هـ) لطلبته في حوزة قم المقدسة أنه سمعها قبل أربعين سنة من المرحوم غلام رضا الكسائي نفسه من دون واسطة، وقد كان رجلاً في درجة عالية من الصدق والتقوى والعدالة. وأضاف الشيخ أن السيد الكسائي لما نقل له القصة قال: لقد مرت أربعون سنة على الحادثة ولم أجد للخادم أثراً.
أنت تقرأ
قصص اخترتها لكم 2 :- مكتمل-:
Short Storyمجموعة قصص من مختارات الشيخ عبد الرضا معاش اختارها لكم