كُلْ يا كُمّي

20 5 2
                                    

أحياناً تكون العزلة عن الجهلة في زمن تسيطر عليه الروح المادية والمصالح الذاتية أمراً حكيماً، ذلك ما فعله العالم الكبير الشيخ ميثم البحراني - المتوفى سنة (625هـ) - حيث اعتزل بعض العلماء والناس، فكتب إليه هؤلاء رسالة يلومون فيها عزلته.. جاء فيها:
(العجب منك مع شدة مهارتك في جميع العلوم والمعارف، وحذاقتك في تحقيق الحقائق وإبداع اللطائف، قاطن في ظلول الاعتزال، ومخيم في زاوية الخمول الموجب لخمود نار الكمال...).
فكتب الشيخ ميثم في جوابهم:
طلبتُ فنون العلم أبغي بها العُلى
فقصر بي عما سموتُ به القُلُ
تبيّن لي أن المحاسن كلها فروع
وأن المال فيها هو الأصل
فلما وصل إليهم الكتاب، ردّوا عليه:
(إنك أخطأت في ذلك خطأً ظاهراً
وحُكمك بأصالة المال عجب)!..
فكتب في جوابهم هذه الأسطر وهي لبعض الشعراء:
قد قال قوم بغير علم
ما المرء إلا بأكبريه
فقلتُ قول امرئ حكيم
ما المرء إلا بدرهميه
من لم يكن درهم لديه
لم تلتفت عروسه إليه

ثم لما رأى أن المراسلات لا تنفع هؤلاء، عزم إلى العراق لزيارة عتبات الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، وفي أحد الأيام لبس أخشن ثيابه وأرثّها، ودخل مجلساً من مجالس أولئك الأشخاص، فسلم عليهم، فردّ عليه بعض، ولم يجبه آخرون، فجلس في صف النعال ولم يلتفت إليه أحد، فدار بين الحاضرين بحث حول مسألة علمية صعبة من دون حل، فأجاب عنها الشيخ ميثم بتسعة أجوبة دقيقة جميلة، فتوجه إليه بعضهم مستهزئاً وقال له: (يا خليلك، أخالك طالب علم...).
ثم بعد ذلك أحضروا الطعام ولم يطعموه معهم، بل أفردوا له بشيء قليل من الطعام في صحن، واجتمعوا هم على المائدة، فلما انقضى المجلس قام وعاد في اليوم التالي إليهم وقد لبس ملابس فاخرة بهيّة، لها أكمام واسعة، وعلى رأسه عمامة كبيرة، فلما قرب منهم سلم فقاموا تعظيماً له واستقبلوه تكريماً به، واجتهدوا في توقيره، وأجلسوه في صدر المجلس المشحون بالعلماء، ولما شرعوا في البحث تكلم معهم بكلمات عليلة لا وجه لها من الصحة والعلمية، ولكنهم قابلوا كلماته بالتحسين وأذعنوا له على وجه التعظيم، ثم حضرت المائدة فبادروا إليه بأنواع الطعام بأدب واحترام، فألقى الشيخ (قدس الله روحه) كُمه في ذلك الطعام وقال: (كُلْ يا كُمي، كُلْ يا كُمي).
فتعجّب الحاضرون واستغربوا من فعله هذا، ثم استفسروا عن معنى ذلك الخطاب، فقال الشيخ: (إنكم أتيتموني بهذه الأطعمة اللذيذة لأجل أكمامي الواسعة لا لمكانتي العلمية، وإلا فأنا صاحبكم بالأمس، لم أرَ منكم تكريماً ولا تعظيماً، إذ جئتكم بهيئة الفقراء وسجيّة العلماء، واليوم جئتكم بلباس الجبارين، وتكلمت بكلام الجاهلين، فقد رجّحتم الجهالة على العلم، والغنى على الفقر، وأنا صاحب الأبيات التي أرسلتها لكم في أصالة المال وفرعية الكمال، فقابلتموها بالتخطئة، وزعمتم انعكاس القضية).
فاعترفوا بخطئهم واعتذروا عمّا صدر منهم من تقصير في حقه.

قصص اخترتها لكم 2 :- مكتمل-:حيث تعيش القصص. اكتشف الآن