٣

1.3K 83 110
                                    

ولا يزال المطر ينهمر منذ تلك الليلة..

وكأن فاطمة تبكي ألمي، وكأنني أبكي ألمها، فكنت في حاجة من يربت على كتفي وكانت في حاجة من يطمئنها أنه سيعود غداً.
واستمرت الحياة فما كانت لتتوقف عند هذا الحد ﻷن شخصا رحل من حياتي وحياتها. واستمر الجميع في عيش الحياة التي كانوا يعيشونها سابقاً، وأكملنا الرحلة فإذا بها تقودنا إلى قرية فاطمة، واستقبلنا أهل فاطمة بجفاء واضح، فلا أحد كان سيقبل بامرأة تخلى عنها زوجها وأطفالها اﻷربعة، وكنت دخيلة على حياتهم أطالبهم بالمأكل والمشرب والمسكن، وكانوا يلبون مطالبي مرغمين، حانقين..
وانتهى الصيف وكاد الخريف ينتهي..
حتى إذا ضاق بهم وجودي وضاق بفاطمة، وفقدت أمل عودته، قررت ترك القرية واتخاذ مدينة من مدن الجنوب مستقرا لي، وقررت بدء جزء من تلك الطريق اﻵن ما دمت مستعدة..وما دمت قد تجاوزت مفترق طريقينا منذ مدة، ومن يعلم..ربما وجدت في تلك المدينة شخصا يرعاني ويحبني؟
وكم كرهت أن أودع هذا الطفل الصغير، وكم كرهت أن أودع هاتين الفتاتين، وكم كرهت أن أودع هذا الذي صار رجل البيت...ولكنني اضطررت لترك البيت سرا لا جهرة، وأودعتهم بعضا من مالي، ولولا الحاجة للمال ﻷودعتهم كل ما أملك، فأكيد أن شقاءهم بادئ وأكيد أن هؤلاء الذين يأوونهم اﻵن سيطردونهم ذات مرة..وأكيد أن فاطمة لن توليهم بالا فلا أحد هنا لمراقبتها، وأنا على علم أن اليوم الذي سأعود إلى هذه القرية وهذا البيت بالذات قادم لا محالة، ولكن..أهو قريب أم بعيد؟! هذا ما أجهله وهذا ما أتطلع لمعرفته.

والمسافة من هنا إلى المدينة طويلة، والمسافة من هنا لوجهتي طويلة، ولكنني كنت على استعداد تام لتجاوز محنتي وبلوغ وجهتي. خلف هذه الجبال، توجد مساحة شاسعة من الحقول واﻷراضي، وخلف هذه الجبال توجد ذات القرية التي غادرتها وأنا أعانق اﻷرض والتراب والشمس الدافئة، ولكنني اﻵن سأتجاوز هذه القرية كأي غريب من الغرباء، سيتطلعون إلى هذا الغريب من خلف جدران بيوتهم الطينية، وسيتساءلون ماذا يفعل في أرضهم؟ وسأتوقف لمطالبة أحدهم بالماء والطعام، فإما يلبي طلبي وإما يرفضه، وسأكمل الطريق لوجهتي دون أن أستدير فما من شيء غير الرماد تركته خلفي، وما من شيء غير اﻷلم والعبث الكثير الذي سألقى أمامي..والطريق لوجهتي طويل، ووسواس الخوف ظالم ووحشي، وضعفي سيجعلني فريسته، لذا فﻷسر في هذه الطريق، وﻷصرعه فيها قبل أن يصرعني.

وكان الشتاء قد دخل منذ مدة، وجعل المطر يهطل فإذا الطريق مليئة بالماء، وابتل جلبابي الصوفي ولم أكن أملك غيره، فجلست تحت شجرة أنتظر انقطاعه، فدام انتظاري طويلا..

وبينما أنا في هدوئي هذا،جعلت أتفكر سببا من تلك اﻷسباب التي دفعته لترك أطفاله، فلم أجد شيئا ولم أبلغ سببا، ولو بلغت سببا فهو إذن الكسل والتعب، وكثير من الرجال يتركون دورهم بهكذا طريقة ليصارعوا من أجل أنفسهم، ولم أجد في ذلك إلا أنانية من طرفه وضعفا كبيرا، فلقد فضل الهرب على المواجهة ولقد فضل الجبن على الشجاعة..وإن كان قد تركنا لسبب آخر فهو إذن أنه لقي نهايته في الخلاء أو على يد واحد من قطاع الطرق، وكلما تفكرت في هذا الخيار جعلت أبكي بكاء طويلا، ثم أقطع بكائي بالمشي فلا أملك إلا أن اتوه، وأحاول تتبع الطريق التي أرشدني لها تاجر من القرية، فأجد في ذلك صعوبة وأعاود البكاء كرة أخرى..ولا يوقفني عن ذلك إلا أمل أنه عاد للمدينة وتملكته الشجاعة ليعترف لسكينة بحبه، وربما هربا معا لبدء حياتهما في مكان من تلك اﻷمكنة التي ترحب بضيوفها وتسعد بقدومهم..وإن وقع هذا الخيار على عقلي، عدت لرشدي قليلا، ولكن شجنا غريبا يتملكني، وشعور بغير الراحة يعاتبني عن سذاجتي، ففي النهاية لم أرغب في الغيرة من سكينة التي فقدت كل شيء. وأتمنى - في ألم كبير- أن يسعدها وتسعده ويهنآ في حياتهما. فإن لم يفعلا..فنهايتهما العودة لطريقيهما خائبين خاسرين..

عروس الليلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن