١١

638 57 58
                                    


الغيوم في السماء تميل للزرقة أكثر منه للسواد، والشمس قد قبعت خلفها متحجبة بنورها فاستل الضباب فرصته وجعل يطفو حاجبا مظهر المدينة في صبيحة يوم من أيام تشرين الثاني.

لو تساءلت أين تأخذني ذكرى هذا الصباح لما تسللت أي ذكرى لذهني فإنه خال من المشاغل اﻵن..كوب من الشاي الدافئ يستقر بين راحة يدي،يتصاعد بخاره ليدفئني من هذا البرد الذي اكتسح الغرفة مذ راحت الخادمة تقلب في الخارج بحثا عن أي خشب أو عود من اﻷعواد يصلح للإحتراق.

ضمت نهلة يديها إلى حجرها ونفخت فيهما عل نفسها يزيل الخدر الذي تمكن منهما، هذا البرد الذي يجول وحيدا في المدينة أقسى من البرد الذي شهدته في طفولتي في قريتنا، وأعتى من ذلك الذي عرفته في مدينة الشمال، فإن هذا...يحمل حزنا لا يستطاع إيجاد دوائه فداؤه خطير كالذي يجتاحني كلما حملني الحنين للماضي، أنا وهو سواء، لو استطاعوا لي علاجا فإن علاجه يهون.

ولقد رحل زكريا بعد انبلاج أولى خيوط الفجر، باحثا عن هذا الذي آواني باذلا كل جهده في البحث، وإنني أترقب اﻷشباح القادمة من الضباب علها تحمل شبحا هو هذا حبيبي، ولكن اﻷشباح تختلط على عيني وتسير ها هنا وها هناك فتتبين لي أوجه هاته اﻷشباح التي تختلف عن وجه حبيبي، فإن حبيبي رجل متماسك طيب، في ملامحه بعض اﻷلفة التي تجذب الناظر رغما عنه، وفي عينيه -السوداوين كقطعة فحم أو كريشة غراب- لمعان يأسر الناظر ويثير فيه رغبة ما هو بمانع لها، وما هذه الرغبة إلا الإبحار في تأملهما وفي ذلك راحة بديعة، وإن كان في شعره اﻷشعث وفي لحيته غير المرتبة وفي هندامه الغريب ما يوحي بأنه أصيل غريب عن حياة المدينة وتقاليدها، ولكنه نشأ فيها وبات منها كفرد من أفرادها رغم ما تبديه -المدينة- له من ازدراء ومقوت عميق..

مهلك أيها القلب إن نهلة لتراقب ملامحك في جدية باتت تغلب على كل تهكمك المتعود عليه..إن تصرف زكريا معها بات تحفظا لا يعجبها وإنها تتهمني -ولو في نفسها- بتحريضه عليها، بعد أن كانت هي التي تفتعل هذه المشكلات وتصنع هذه الحواجز بيني وبينه.
مهلك إنها لتتصنع اﻹبتسامة اللطيفة وترسم الجدية الرقيقة، وتتضح على معالمها أمارات اﻹرتياب والشك فتغلفها بضحكة سمجة لا يخفى ما فيها من السخرية والحنق، وأنا بطبيعة الحال أتجاهل ما تبدي لي وما تتصنع لي من حب كاذب.

والسماء تحقق آخر ما أنذرتنا به من اسوداد فإذا هي تبكي ما آلت إليه حال أو أحوال هؤلاء البشر، وإذا مطرها يبدد هذه الظلمة والرمادية التي خنقت الناس من كل ركن فإذا هم ينتقلون اتقاء لأنفسهم من البلل، وأنا أراقبهم في صمت ونهلة تراقبني في صمت. ولا زلت على حالي حتى تدعوني الخادمة لتناول اﻹفطار، وأضللها ببعض الكلمات مستجيبة لطلبي بأن تؤخر اﻹفطار لوقت ربما يطول حتى يبلغنا رب البيت ويبلغنا الضيف وحبيبك أيها القلب المضطرب..
وألهو بكتاب كنت قد حصلت عليه من فتيحة، وأتأمل عنوانه دون أن أجد لفحواه شرحا مقنعا يختطف هذا الذهن من انتباهه ومن شتى أفكاره، ولكن عنوانه ﻷقرب إلى السخرية مني خاصة وأنا أتوغل في المعاني وفي الفصول ، فإن موضوعه قصة عن حب نشأ بين طفلة وشجرة،وهذه الشجرة قد تقبلت القيود التي وضعتها الطبيعة في حياتها بطبيعتها ك شجرة، مجرد شجرة تتجذر أصولها في التربة حيث ملاذها وإلى اﻷبد..أما الطفلة فكانت تكبر يوما بعد يوم وكانت تتوغل في حب أشياء أخرى ولم يعد ينحصر حبها هذا على الشجرة وحسب، وإنما شمل السماء والنجوم والنهر الساكن عند فترة الفجر..أوليست صدفة جميلة!! إنها أنا وإنني هي وإن الحواجز التي وضعها القدر لحبي تتمثل في تلك اﻷرض التي تحجز هذه الشجرة عن مرافقة هذه الطفلة والتعلم منها، أولست غريبة اﻷطوار؟!!

عروس الليلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن