أهذه المدينة التي حدثوني عنها؟ أهذه الجنة التي يرتادونها؟
ما بالها متسخة هكذا، مقززة هكذا ؟ ما بال ساكنيها يمشون بغير هدى؟ ما بالهم يجيؤون بغير هدى؟ ما بالي من هذا المنظر فزعة مرعبة؟
ولقد تمكن مني الخوف منهم ومن ثيابهم، فها هن نساء المدينة يحفلن في جلابيبهن المزركشة، وها هن يتجهن إلى وجهاتهن جماعات جماعات..
ولقد بلغني الجوع وكاد يقتلني، ولقد تملك جسدي وبسط نفوذه عليه فعاد يهددني وعاد يهدد تعبي، وكم كان من السهل أن تبلغ الرائحة أنفي فيسيل لعابي، فأدور بجسدي يمينا ويسارا حتى أتبين الرائحة، وها هي قادمة من كشك صغير وها هما قدماي يقودانني إليه، ولكنني لا أملك المال ولا أملك ما أدفع به، وهؤلاء لا يقبلون الدفع إلا بالمال، فهو إذن سيدهم ومليكهم، وهو إذن سيدي ومليكي الذي أضعت عند النهر والذي أضعت عند الشجرة..
ثم أطل برأسي فأجد الناس جالسين محملقين في الطعام كأنه فريسة، وأطيل التحديق فيأتي للقياي رجل بدين، فأتبين فيه مالك الكشك وكل ما في الكشك، فيسألني في غلظة عما أريد، وعيناي لا تنقطعان عن الطعام والطعام..وإنني ﻷدرك أن العالم قاس ووحشي، وإنني ﻷدرك أنه بائس ويائس، فلا أجد إلا أن أجمع لعابي وأمنع عيني عن تأمل ما وضع على تلك الطاولة وما يقضم منه الناس بسرعة وشراسة .
"أبحث عن مصنع لرجل يدعى بيير بيكسار"
"ارحلي من هنا..لا أعرف اسما كهذا الذي ذكرتيه ولا تعودي إن لم ترغبي في الطعام"
وأسأله متلهفة للطعام راغبة في الطعام.
"بكم الثمن؟"
"خمسة فرنكات"
ولم أكن أملك إلا ريالا واحدا، ولكنه لا يشتري لي إلا قطعة خبز لن تسد هذا الجوع ولن تكفي هذا العطش، واشتريت قطعة الخبز والتهمتها، ورجوت الماء فابتلعته سريعاً.. ودبت الحياة في جسدي من جديد فأكملت رحلتي وقضيت ليلتي قرب مكب النفايات ولم أكن الوحيدة التي تقضي ليلتها اﻷولى في المدينة هكذا..ولكنني لا أعرف أحدا ولا يعرفني أحد، ولست أرجو من هذه المدينة إلا أن أكسب قوت يومي وأبني ثروتي وأبحث عن أمي فهي بين هذه الجدران توجد وقريبا من تلك اﻷبواب تعيش.
وأقضي ليلتي في نوم أشبه بالاستيقاظ، فلا أغمض عيني لحظات حتى أفتحهما ﻷتأكد من خلو المكان من أي غريب فاسد.
وليلتي الأولى لم تختلف عن ليالي السابقة ولن تختلف عن ليالي اللاحقة، وإنما هو الشقاء مكتوب لمن لا حظ لهم، ونحن كسر ونحن منبوذون.وأحدق في السماء فإذا هي باردة وأحدق في اﻷرض فإذا هي خاوية.
ولا طير يؤنسني ولا نعيق غراب يبلغني، وهو الصمت الموحش الذي يجعلك تنتظر الموت بقلب ميت، وهو الصمت الذي يسبق العاصفة ، وهو الصمت الذي يرافق الموتى إلى قبورهم ويلحق بالقادمين من بيوتهم، إنه هذا الصمت الذي لم أعتد عليه في اﻵونة اﻷخيرة والذي بات يعذبني مذ فارقت هضبة الثلج، إنه الهدوء، ولم أعد أستحمل الهدوء..صمتي بات يعذبني، كوني ليلى لم يسر قلبي وكوني أبحث عن شخصين في هذه المدينة يكاد يشبه البحث عن شوكة في كومة قش، وأتساءل أين هم؟ وأتساءل أين أنا من كل هذا؟

أنت تقرأ
عروس الليل
Romance*فائزة بمسابقة أسوة 2018 عن فئة العاطفية* ومن يذكر حنة؟ ومن يذكر الريف ومحمود وعبد الكريم العجوز؟ ومن يذكر الوادي والسهل وخيوط حرير الشمس الذهبية؟ ثم من يذكر هذا الكلب وهذه اﻷم وحورية هذه المجنونة؟ وﻷستغربن من كل هذا وﻷستغربن منه وأكثر.. ثم أسأل أي...