٧

781 68 66
                                    

إنهم يقولون أن طيور الحناء تهاجر في مثل هذا الوقت من السنة، حيث تنضم إلى أسرابها في الشمال..في تلك المدينة التي كنت فيها ذات مرة مع هؤلاء الذين يشحدون ويرجون.

ولكنني ما عدت واحدة من هؤلاء بعد اﻵن، فأنا اﻵن من هذه الفئة التي يسمونها "النبلاء"..منهم أنا وإليهم أنتمي.
ولكن اختلافي بيني وبين هؤلاء؛ اختلاف كبير كهذا الذي يظهر بين تلك التي كنت في الماضي والتي أصبحت عليها اﻵن..

و اﻹختلاف بيني وبين تلك غير رهين للمقارنة، فلا أحدن يعرفني ولا أحدن يعرف تلك من الماضي..إن المال كفيل بأن يغير ما لا تستطيع العين تغييره، وإن قدرته تلك تجعله سيدا لا سيد فوقه، وملكا لا ملك بعده، وقائدا كل إياه يرجو الميول والصلح، أو النفور و العبث. وإن المال قد غير من مظهري ما جعلني لا أصدق عيني، فهذه السيدة التي أصبحتها جميلة بل وشديدة الجمال، وهذه التي تحدق في هنا لرفيعة الشأن، بديعة، حسنة المظهر وبليغة النطق والكلام.
وكلما وجهت عيني هنا وهناك، تلقيت نظرة من نظرات هؤلاء وأولاء، وما هذه إلا نظرات اﻹعجاب ذاتها التي أتلقاها كل يوم وفي كل مكان، فإنها ترسمني وتنحتني نحتا، وإنها لتضعني في هذا الموضع الذي رغبت فيه والذي أردته وما أنا إلا واحدة من اللواتي أردنه.
فإن أحلام الريفيات الساذجات، المنيعة التحقق والواسعة الحيلة، لهي أن يظهر رجل من الرجال، مدني من المدناء يبدي استحسانه إياها وافتتانه لها..ولست نزوة لرجل من هؤلاء الرجال، وإنما أنا امرأة قائد الشرطة، كل يهاب هذا الرجل وكل يحذر اﻹقتراب مني.

ولكنني أشعر بما أفتقر له، وإن افتقاري لهذا اﻷمر لمحزن، وإن مهربي منه لهي هذه الحفلات التي أنضم لها وهذه الجلسات التي أهرب إليها، وأنا أدعي ذات اﻹدعاء الذي طرحه "زكريا" على رفاقه وأصدقائه، فإن القصة تقول أني حسناء من حسناوات مدن الشمال، وإن الجميع ليعرف حسناوات مدن الشمال وما يميزهن من جمال خلاب يأسر الناسك والفقيه، ويخرجه مما هو فيه من تدين حريص إلى تتبع مفاتن الحياة والحرص عليها..وإن الجميع ليضع ذات التشبيه وإنني ﻷنزعه من عقلي نزعا، فإن نساء الشمال وما أتعسهن من نساء الشمال، يلقين العتاب والتعب والشقاء، ويلقين العناء والسهد والعذاب..وما هن إلا فقيرات معدمات كلهن يعشن ذات الحكاية وتتكرر بظروفهن وأحوالهن -كأنهن جسد لذات الروح- ..
وهؤلاء أمامي في دعاباتهم ضاحكون، وهم من أقوالهم ساخرون، ولكنني أستمع لزكريا ولقصته كما يستمع الطفل لحكاية ما قبل النوم، وهو يقول وقد اعتاد القول أنني ابنة ﻷحد المقاومين، فيتعجب البعض ويستغرب البعض اﻵخر، ثم ما يلبثون أن يزيفوا ابتساماتهم وتساؤلاتهم عن هذا الرجل العظيم وعن أعماله الخالدة، ويذكر زكريا اسما لا وجود له، ويسارع بعض هؤلاء لادعاء المعرفة ولادعاء صلة القربى الواهية، ثم ينتهون إلى ما هم فيه من دعابات سمجة، وتساؤلات عن اللقاء الرومانسي الذي دفع رجلا متزوجا لغض نظره عن زوجته الجميلة إلى امرأة فاتنة من نساء مدن الشمال، مثقفة، مسافرة وذات جنسية من هذه الجنسيات العديدة..

عروس الليلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن