١٢

612 55 30
                                    

أحوال المرء تتبدل كالطقس.
هذا ما بينته لي الحياة التي كانت تتلاعب بي كطائر حر، وكأن اﻷلم المخزن في نفسي لا يكفيني وصدمة تلك الصورة تحتل ذاكرتي فتنفرني منه ومن نفسي.

كنا قد ودعنا شمس المساء بفترة لم تتجاوز الساعة أو ثلاث أرباع الساعة. نهلة كعادتها تحتل مقعدها غارقة في هواجسها الصامتة وعيناها لا تنفك تلاحقني بين الحين واﻵخر كلما بدوت لها في صورة كريهة لنفسها، ورفيقتها إلى جانبها حيث يتبادلان الهمس والضحك المنخفض..ولكن ما شأني وما شأن نهلة ورفيقتها؟!!
ترقبت الباب واللهفة تتملكني لرؤية هذا الحبيب عائدا من عمله الذي بات يشغله عني في اﻵونة اﻷخيرة، فكلما التحق بنا كان متعبا يتملك العياء كل خلية من جسده فيأوي لسريره بعد العشاء مباشرة، فما عدنا نتبادل حديثا من اﻷحاديث بشأن من تلك الشؤون الكثيرة.

المطر يتسلل من النافذة ليبلل أوراق كتابي وكأنه ينتقم مني ، السماء تسبح في لونها الرمادي الكئيب متشحة بلمعان النجوم البعيدة ومتوهجة بضوء القمر القريب، وصراصير الليل قد خلدت للنوم قبل أوانها فامتنعت عن الغناء طيلة انشغالنا بالوقت والساعة التي جعلت تدور ببطء مربك..

أين هو اﻵن؟! ما الذي يفعله اﻵن؟!!
وها هي الصورة تتضح لي حين يدلف زكريا حاملا جسده النحيف بمرونة، وما أن اتضحت معالم هاذين اﻹثنين حتى تبين أنهما ثملين وأحدهما -الذي هو حبيبي- قد فقد تعقله من الثمالة .
وأواجههما وهما يتبادلان المزاح والضحك وقد استغنيا عن وجودنا تماما كأننا والحائط سواء، فلا نفهم لهم حديثا ولا يستوعبون وجودنا، وإنما هم في حديث يمتلئ باﻷلغاز والرموز وتتخلله الضحكات الساخرة والغمزات العابرة..
ثم سرعان ما يغرق زكريا في نومه فيلحقه هو والزي الرسمي لعملهما ملطخ بالطعام تفوح منه رائحة كريهة .

وأبقي نفسي في غرفتي حيث لا يغلق لي جفن واحد طيلة ساعات الليل، فأمضي في أفكاري تباعا علي أجد لعقلي مرسى من كل ما هو فيه.
ولكن اﻷفكار تتخلى عني واﻷحلام تهجرني وتلك الذكريات من تلك السنوات تختفي خلف الغبار كما اختفت معالم وجه جدي فباتت هي والظلمة سواء.
تنهداتي تغادر حنجرتي تباعا وتضيق العبرات التي تغادر مقلتي الحصار على قلبي فهو مستسلم خاضع لنوبة من نوبات اﻷلم التي ترهق الروح والجسد..
فالروح تطوف في مكان بعيدا عند نقطة غريبة، والجسد يدور في الغرفة في حلقة كلما ظنه بلغ نهايتها فاجأته البداية ثانية، فيتعبه المشي ويرتمي على السرير معلنا استسلامه ..
ولكنني كما ذكرت سابقا قد ترك النوم ذهني فتملكني الخمول ونظري المشوش يتوقف عند نقطة سوداء واحدة لا مفر منها..إنها لتشبه النهاية التي ستقودني لها هذه الحياة العابرة .

وأكره ما آلت إليه حالته بعد أن أستفيق من صدمتي، فأرمي بالذنب على نفسي كما اعتدت الفعل وأزيدها حملا هي في غنى عنه.
وما هي إلا سويعات -لا أعرف إن طالت أم قصرت- حتى تسللت أشعة الشمس من خلف الستار البني لتستقر بداية على راحة يدي، فيسري الدفء في جسدي بالتسلسل حتى يستقر في أعماق قلبي لتتباطأ خفقاته الجانحة.
ولا يمضي بعد ذلك إلا فترة قصيرة حتى تدلف الخادمة للغرفة معلنة استيقاظ سيد البيت وضيفه العزيز،ولكنني أعلن لها أن اﻷرق عاود الظهور بعد شهر كامل من اﻹختفاء، فتنصحني بشرب كوب ساخن من الحليب وبمعاودة المحاولة.

"وهل طلبا كأسا من القهوة؟!" أسألها مترددة من جوابها لئلا تؤكد لي أنه يعاني من صداع رهيب لا ينفك عنه مؤخرا.

"لا يا سيدتي، السيد زكريا وضيفه يتناولان فطورهما حالا مع السيدة نهلة ورفيقتها" ثم تنفض الخادمة الغطاء في الشرفة مرتين قبل أن تقوم بنشره .
وأبصر شبح زكريا واقفا بالقرب من البوابة مدخنا تبغه الغالي، وأبصره إلى جانبه وقد انضمت إليهما فتاة نهلة الجديدة مشاركة الثلاثة تدخينهم الكريه، فتزيد هذه الصور من نفوري وتدفعني ﻷمر الخادمة بإسدال الستائر خشية أن تتسلل تلك الهمسات ﻷذني..

ولا أغرق في النوم إلا بعد العاشرة صباحا، ويصاحبني حلم من تلك الأحلام لهؤلاء اﻷشخاص فأبتسم تارة وأضحك تارة أخرى، ثم يرعبني كابوس من تلك الكوابيس فتتبدد فرحتي ويظهر عبوسي وقنوطي منها إذ باتت هي واﻷرق سواء.
وأستيقظ بعد ذلك بمدة لا أعرف أطويلة هي أم قصيرة على صوت بكاء وعلى يد تحرك وجنتي كأني مريضة، ولا أفهم شيئا إلا كلمات قليلة التقطتها فحطمتني وحطمت الشعور الجميل الذي شغل فكري طيلة هذه المدة...
كلمات قليلة قد أختزلها في عبارة صغيرة: "تحطم فؤادي بفقداني لهذه الروح التي تحملت وتحاملت على آلام ذهني وجسدي" .

إن شعورا كذلك ليحطم المرء تحطيما ويكسره تكسيرا والشعور مرير.

عروس الليلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن