٢

3.1K 113 154
                                    


"سنترك المدينة، ولﻷبد.."

مُذْ وضعت فاطمة طفلها الرابع وهو يكرر الجملة ذاتها على مسامعنا. إنه يسعى للعودة للريف،نتيجة يأسه من بيع المثلجات ويأسه من الحياة كهذا الفقيرِ الذي كان عليه من قبل والذي لا يزاله..أعلم بالتأكيد السبب، إنه يقارن نفسه بالمقدم البشير.

كلما غادر لعمله، عاد كئيباً، متذمراً، غاضباً، بالكاد يجلس دقائقاً دون أن تتعاود أسطوانة الحديث ذاتها والتي تنتهي بشجار بينه وبين فاطمة.
أتساءل.. -خارج نطاقِ ما حصل- .. لم تزوجها؟
كنت على يقين من أنه وقع بغرام سَكِينة منذ اللحظة اﻷولى التي انتقلت للعيش معنا، وهذه اﻷخيرة مجرد بدويةٍ كغيرها; ارتحلت منذ سنوات من القرية وانتهى بها الوضع مع شقيقه السكيرِ في موقفٍ لا تحسد عليه، وتم الزواج بسرعة لتغطيةِ الفضيحةِ.. كانت لطيفةً وطيبةً ومظلومةً، وهكذا هن الفتيات الساذجاتُ القادماتُ من الريف دون أهاليهن. والدها قد تبرأ منها بعد أن بلغته أخبار ما حصل، ووالدتها قد توقفت عن إرسال المال لها منذ مدة طويلة..وهي لم تحفظ كرامتها لتلحق بهم كي تبرئ نفسها مما نسب إليها، رضَخَتْ للواقع وتقبلت قدرها ولم تتذمر، لم أرها يوما عابسةً ولم أسمع منها كلمة شامتةً..

كرهتُ زوج سَكِينةَ وكرهتُ في شقيقه أنه كان ضعيفاً خانعا للقرارات التي تفرض عليه. وها هي فاطمة تغضب وها هو يتذمر كلما رأى البَشيرَ أو أولاد البشيرِ..وأنا أواسيه عَلَّ ألمه يخْمَد ويسكنَ إلى نفسه ويتوبَ عن أخطائه .

كيف ومتى؟ سؤالان طالما طرحتهما على عقلي فأبى إلا أن يستدرج ذلك اليوم المشؤوم، مزهريةٌ تتكسر وصراخٌ يدوي وبكاءٌ يزداد..إنها الصورة نفسها، وهي ذاتها التي تحمل الحقيقة بأكملها؛ حقيقتي أنا إن كان هذا اﻷمر أكيدا..وعلي إذنْ أن أتوقفَّ عن طرح اﻷسئلة فاستدراج تلك الذكريات من تلك السنوات الكثيرة لا زال يؤلم كما في السابق، وربما أكثر من السابق، واستدراجها يذكرني بواقعي الذي لا يتجاوز غرفةً أتشاركها معه ومع فاطمة وأبنائها اﻷربعة، وعما قريب سأودعها هي اﻷخرى فقد احتوتني لسنوات وأوتني من اﻷفكار القاتلة وحثتني على السير قدما دون أن أتجرأ على النظر خلفي.

لا مجال للخلف وإن كان الخلف أمامي دوما، في عروقي يسير وداخل أوردتي يعيش..كان الماضي يُقَيِّدُني، يَحكُمني ويقودني إلى ما سأكون عليه يوما.

أما هو فقد تزوج فاطمةَ بعد ذلك، وأنهى الزواج مرة فاكتشف حملها، ثم كاد ينهيه للمرة الثانية لكنه ذكَّر نفسه بأولاده، وجمع قدرهم بقدرِه وقدري، ورضي بقدره وربما أذعن له، واختار أن يسير في الطريق الذي جاء منه ذات يوم ويمضي فيه، فالمدينة قد أغلقت أبوابها وحرمت سكانها المهاجرين وكادت تطردهم بغير رجعة..بتلك اﻹبتسامة المنافقة والزيف الظاهر.

عروس الليلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن